حكم وضع الحديث
من المعلوم: أن الكذِبَ من أكبر الذنوب؛ لِمَا يترتب عليه من المفاسد العظيمة، وهو رافعٌ للثقة بين الناس، مضيع للحقائق، فالمجتمع الذي ينتشر فيه الكذب، لا تبقى فيه حقيقة تُعرف؛ لذلك حذر الإسلام من الكذب غايةَ التحذير، وجعله من الأسباب المفضية إلى الانبعاث في المعاصي والاستكثار منها، وذلك يفضي بصاحبه إلى العذاب الأليم في نار جهنم.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عليكم بالصدقِ؛ فإن الصدق يهدي إلى البِر، وإن البرَّ يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يَصْدُقُ ويتحرَّى الصدقَ؛ حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا، وإياكم والكذبَ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفُجُور، وإن الفجورَ يهدي إلى النار، وما يزال الرجلُ يكذِبُ ويتحرَّى الكذبَ؛ حتى يُكتب عند الله كَذَّابًا». الحديث أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب من أخص خِصال المنافقين التي يُعرفون بها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان». الحديث أخرجه الإمام البخاري ومسلم.
كما ورد أن الكذب لا يجامع الإيمان، فعن مالك، عن صفوان بن سليم، أنه قال: «قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيكون المؤمن جبانًا؟ فقال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن بخيلًا؟ فقال: نعم. فقيل له: أيكون المؤمن كذابًا؟ فقال: لا» الحديث أخرجه الإمام مالك في (الموطأ).
وإذا كان هذا الوعيد الشديد والتغليظ العظيم في الكذب على آحاد الناس، ومفسدة الكذب هنا لا تتعدى المكذوب عليه إلى غيره، فكيف بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع الحديث عليه؟ وحديثه صلى الله عليه وسلم يُدان لله به، ويُتقرب به إليه تعالى.
حكم وضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أولًا: مذهب الجمهور:
ذهب جمهور العلماء إلى أن الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيرة من أكبر الكبائر، وصاحبها متوعَّد بالعذاب الأليم في الدار الآخرة ما لم يستحل الكذب، ووضعَ الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومن أدلة ذلك:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار» الحديث أخرجه الإمام البخاري ومسلم، وهو حديث متواتر.
قال الإمام النووي: في هذا الحديث تعظيم تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وأنه فاحشة عظيمة، وموبقة كبيرة، ولكن لا يكفر بهذا الكذب، إلا أن يستحله.
هذا هو المشهور من مذاهب العلماء من الطوائف.
ثانيًا: المذهب الثاني:
ذهب جماعة من العلماء منهم: الشيخ أبو محمد الجويني، وناصر الدين بن المنير، وابن معين، وغيرهم: إلى كفر من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم متعمدًا كفرًا عقديًا؛ ولعلهم ذهبوا هذا المذهب لأن الذي يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي لنفسه حق التشريع، وهذا حق لله تعالى لا يجوز أن ينازع فيه بحال من الأحوال.
ويصير ما وضعه الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم شرعًا متبعًا مستمرًّا إلى يوم القيامة، فيتقرب الناس بما وضعه الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى، إن لم يفطن إلى كذبه وزيفه، فالكذب عليه صلى الله عليه وسلم ليس كالكذب على آحاد الناس، ومعلوم أن الكذب على آحاد الناس من كبائر الذنوب.
عن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كذبًا عليّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار» الحديث أخرجه الإمام مسلم وغيره.
ثالثًا: المذهب الثالث:
ذهب بعضهم إلى التفرقة بين الكذب عليه صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم، وبين الكذب عليه صلى الله عليه وسلم في الفضائل والترغيب والترهيب وغير ذلك، فقالوا: مَن كذب عليه صلى الله عليه وسلم في الأحكام، فأحل ما حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو حرم ما أحل الله ورسوله؛ فهذا كفر يخرج من ملة الإسلام، أي: كفر عَقَدي، أما إذا كذب عليه صلى الله عليه وسلم في الفضائل؛ فإن ذلك لا يكفر به المرء.
قال الحافظ الذهبي: قال ابن الجوزي في تفسيره: ذهب طائفة من العلماء إلى أن الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم كفر ينقل من الملة، ولا ريب أن الكذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم في تحليلِ حرامٍ أو تحريمِ حلالٍ كُفْرٌ محض، وإنما الشأن في الكذب عليه فيما سوى ذلك.
حكم رواية الحديث الموضوع:
يحرم رواية الحديث الموضوع على من علم أنه موضوع من غير تنبيه على ذلك، بل ويشارك واضعه في الإثم.
عن سمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة، قالَا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب؛ فهو أحد الكاذِبَيْن» الحديث أخرجه الإمام مسلم.
قال الإمام النووي: يحرم رواية الحديث الموضوع على من عرف أنه موضوع، أو غلب على ظنه وضعه، فمن روى حديثًا علم أو ظن أنه موضوع، ولم يبين حال روايته أنه كذلك؛ فهو داخل في هذا الوعيد، مندرج في جملة الكاذبين على رسول الله، صلى الله عليه وسلم .
ولهذا قال العلماء: ينبغي لمن أراد رواية حديث أو ذكْرِه أن ينظر؛ فإن كان صحيحًا أو حسنًا، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، مستخدمًا صيغ الجزم، وإن كان ضعيفًا، فلا يقل: قال أو فعل، أو أمر أو نهى، وغير ذلك من صيغ الجزم؛ بل يقول: روي عنه كذا، أو يروى، أو يذكر عنه صلى الله عليه وسلم أو يحكى، وغير ذلك من صيغ التمريض.
قال الدارقطني: توعد صلى الله عليه وسلم بالنار من كذب عليه بعد أمره بالتبليغ عنه؛ ففي ذلك دليل على أنه إنما أمر أن يبلغ عنه الصحيح دون السقيم، والحق دون الباطل، لا أن يبلغ عنه جميع ما روي عنه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع» الحديث أخرجه الإمام مسلم.
ثم مَن روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا وهو شاكٌّ فيه؛ أصحيح أم غير صحيح، يكون أحد الكاذبَيْن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : «من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب…»؛ حيث لم يقل -وهو يستيقن-: أنه كذب.
حكم وضع الأحاديث عليه صلى الله عليه وسلم في المواعظ، والترغيب، والترهيب:
المذهي الأول:
قال الإمام النووي: لا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام، وما لا حكم فيه، كالترغيب والترهيب والمواعظ، وغير ذلك؛ فكله حرام من أكبر الكبائر، وأقبح الذنوب، بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع.
المذهب الثاني:
ذهب البعض إلى جواز وضع الحديث عليه صلى الله عليه وسلم وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم : «من كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار» تأويلات باطلة، فقالوا: نحن نكذب له صلى الله عليه وسلم لا عليه، وإنما جاء الوعيد الشديد لمن يكذب عليه صلى الله عليه وسلم لا له، وقالوا أيضًا: الكذب عليه صلى الله عليه وسلم أن يقال: ساحر أو مجنون، واستدلوا لذلك بحديث في غاية الضعف؛ فعن بقيَّة قال: حدثني إبراهيم بن أدهم، قال: حدثني أعين أو أيمن، مولى مسلم بن عبد الرحمن، يرفعه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من كذب علي متعمدًا، قالوا: يا رسول الله، نسمع منك الحديث، فنزيد فيه وننقص، هذا كذب عليك؟ قال: لا، ولكن من حدث عليَّ يقول: أنا كذاب أو ساحر”. هذا الحديث ذكره ابن الجوزي في (الموضوعات)، وهو حديث لا تقوم به حجة، ففيه انقطاع، وأعين أو أيمن مجهول لا يُعرف.
قال ابن الجوزي: إن بعض المخذولين من الواضعين أحاديثَ الترغيب قال: إنما هذا الوعيد لمن كذب عليه؛ ونحن نكذب له، ونقوي شرعه، ولا نقول ما يخالف الحق، فإذا جئنا بما يوافق الحق، فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، واحتجوا لذلك بحديث أبي هريرة. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “من حدث عني حديثًا وهو لله رضًا، فأنا قلته وبه أُرسِلت”.
قال الإمام النووي رحمه الله : ذهبت الكرامية -الطائفة المبتدعة- إلى أنه يجوز وضع الحديث في الترغيب والترهيب، وتابعهم على هذا كثيرٌ من الجهلة الذين ينسبون أنفسهم إلى الزهد، أو يُنسبهم جهلةٌ مثلهم؛ وشبهتهم -زعمهم الباطل- أنه جاء في رواية: “من كذب عليَّ متعمدًا ليضل به الناس؛ فليتبوأ مقعده من النار”. وزعم بعضهم أن هذا كذب له، لا كذب عليه، وهذا الذي انتحلوه وفعلوه واستدلوا به، غاية الجهالة ونهاية الغفلة.
وأدل الدلائل على بعدهم عن معرفة شيء من قواعد الشرع، وقد جمعوا فيه جملًا من الأغاليط اللائقة بعقولهم السخيفة، وأذهانهم البعيدة الفاسدة، فخالفوا قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} [الإسراء: 36]، وخالفوا صريح هذه الأحاديث المتواترة، والأحاديث الصريحة المشهورة في إعظام شهادة الزور، وخالفوا إجماع أهل الحَل والعقد، وغير ذلك من الدلائل القطعيات في تحريم الكذب على آحاد الناس، فكيف بمن قولُهُ شَرْعٌ وكَلَامُهُ وَحْيٌ؟!
وإذا نُظر في قولهم وُجد كذبًا على الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4] ومن أعجب الأشياء قولهم: هذا كذب له، وهذا جهل منهم بلسان العرب وخطابِ الشرع، فإن كل ذلك عندهم كذب عليه.
متى بدأ وضع الحديث والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟:
من المعلوم أن الصحابة أخذوا الحديث من نبيهم صلى الله عليه وسلم وهم أعدل الناس بتعديل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم، ولقد علموا أنهم ينقلون عن نبيهم صلى الله عليه وسلم دينًا يترتب على الأخذ به صلاحُ الدنيا، والفوزُ بالسعادة الأبدية في ضِيافة الرحمن الرحيم في الجنة؛ لذلك كانوا في غاية الحرص على تبليغ أقواله وأفعاله، وكل ما صدر منه صلى الله عليه وسلم إلى من لم تبلغه، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم حضهم على ذلك ورغبهم فيه، ودعا لمن يقوم بهذا الواجب.
عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نضّر اللهُ امرأً سمِعَ منا حديثًا، فحفظه حتى يبلغه، فربَّ حاملِ فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه» الحديث أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عبد الله بن مسعود، وقالَا: حديث حسن صحيح.
عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بلغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرجَ، ومَن كَذَبَ عليَّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار» الحديث أخرجه الإمام البخاري وغيره.
ولقد كان الصحابة في غاية الحرص والأمانة في تبليغ ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم وما كانوا يكذبون، وكيف الظن بمن عدَّلهم الله وزكَّاهم، وهو العليم بحقيقة أمرهم؟! ولم يكن الصحابة يشك بعضهم في بعض، وإن كان الخلفاء الراشدون قد وضعوا منهجًا لقبول الراوية؛ فإنما كان الغاية من ذلك، إنما هو التثبت، وحتى لا يجترئ غير الصحابة فيتقوَّلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت الثقة متبادلة بين الصحابة رضي الله عنهم وكذلك لم يكن التابعون يتوقفون في قبول أي خبر يسمعونه من الصحابة.
وظل الأمر على ذلك الحال، يأخذ الصحابة عن بعضهم، ويأخذ التابعون عن الصحابة، ولم يكونوا يسألون عن الإسناد؛ لأن الذي يحدِّث إما صحابي عدل في دينه، وسواء حدث بما سمع من رسول صلى الله عليه وسلم مباشرة أو بما سمعه من صحابي آخر، ولو لم يذكر اسمه.
فالصحابة جميعًا عدول بتعديل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لهم، فلا تضر جهالتهم العينية، وظل الأمر على ذلك الحال إلى أن وقعت الفتنة باستشهاد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه بتدبير من الخاسر عبد الله بن سبأ اليهودي وأعوانه الذين هالهم انتصار الإسلام وانتشاره، فأرادوا أن يكيدوا للإسلام والمسلمين، فكان أول ما فعله هذا الخاسر الماكر، أن دبر المؤامرة لقتل الخليفة الراشد عثمان، رضي الله عنه .
ثم بدأ أهل البدع والأهواء في الظهور، وبدأ الدس والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لينصر كل مبتدع بدعته التي يدعو إليها، وَلِيُدْخِلوا في دين الله ما ليس منه، وليحرِّفوا عقائدَ المسلمين، ومنذ ذلك الحين بدأ الصحابة وكبار التابعين يبحثون عن الإسناد، ويتحرون عن الرواة، ويتثبتون في نقل الحديث؛ حتى لا يدخل فيه ما ليس منه.
وسبق حديث بشير العدوي مع ابن عباس رضي الله عنه قال محمد بن سيرين: “لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم”. أخرجه الإمام مسلم في مقدمة (الصحيح).
وقال محمد بن سيرين: إن هذا العلم دين، فانظروا عَمَّنَ تأخذون دينَكم. أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه.