حياة الأنبياء والشهداء البرزخية، وتعلقات الروح بالبدن
أ. المراد بالحياة البرزخية, التي اختص الله بها الأنبياء والشهداء:
المراد بالحياة البرزخية هي: عودة الروح إلى الجسد في القبر، فإن عودة الروح إلى جسدها هذا التعلق يسمى حياة، ومعنى “البرزخ” أي: الحاجز بين أمرين، كما قال تعالى عن البحر العذب والمالح: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاّ يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 19، 20] أي: حاجز يحجز بينهما، فلا يمتزجان بسببه.
فالحياة في القبر برزخ بين حياتين: حياة الدنيا وحياة الآخرة، وقد ثبت في نصوص الشريعة أن الناس متفاوتون في نوع هذه الحياة البرزخية؛ فالكفار والعصاة يعذّبون -والعياذ بالله- وأما أكمل الخلق حياة في البرزخ, فهم الأنبياء -عليهم السلام- والشهداء.
يقول ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله-: “إن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت؛ فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء -صلوات الله عليهم وسلامه- وهم متفاوتون في منازلهم، ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا كلهم، بل من الشهداء من تُحبس روحه عن دخول الجنة لدَيْن عليه، كما في (المسند) عن عبد الله بن جحش: ((أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما لي إن قُتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولّى قال: إلا الدين, سارّني به جبريل آنفًا)).
ومن الأرواح من يكون محبوسًا على باب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت صاحبكم محبوسًا على باب الجنة))، ومنهم من يكون محبوسًا في قبره.
وأما الحياة التي اختص بها الشهيد, وامتاز بها عن غيره في قوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]، وقوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاّ تَشْعُرُونَ} [البقرة: 154]؛ فهي أن الله -سبحانه تعالى- جعل أرواحهم في أجواف طير خضر، كما في حديث عبد الله بن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أصيب إخوانكم -يعني: يوم أحد- جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مظللة في ظل العرش)) الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود، وبمعناه في حديث ابن مسعود رواه مسلم.
فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه, أعاضهم منها في البرزخ أبدانًا خيرًا منها، تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون نعيمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها؛ ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين؛ ففي (الموطأ): أن كعب بن مالك كان يحدث, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه))، فقوله: ((نسمة المؤمن)) تعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال: ((هي في جوف طير خضر)) ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فُرُشهم، وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة من كثير منهم، فله نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه، والله أعلم.
وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء كما روي في السنن، وأما الشهداء فقد شُوهد منهم بعد مددٍ من دفنهم كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة، والله أعلم.
وكأنه -والله أعلم- كلما كانت الشهادة أكمل والشهيد أفضل؛ كان بقاء جسده أطول” انتهى كلامه.
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسيره: “ولكونه -أي: الجهاد- مؤديًا للقتل وعدم الحياة, التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول الحياة ولوازمها، فكل ما يتصرفون به فإنه سعيٌُ لها ودفع لما يضادّها، ومن المعلوم أن المحبوب لا يتركه العاقل إلا لمحبوب أعلى منه وأعظم، فأخبر تعالى أن مَن قُتل في سبيله بأن قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه الظاهر، لا لغير ذلك من الأغراض؛ فإنه لم تفته الحياة المحبوبة، بل حصل له حياة أعظم وأكمل مما تظنون وتحسبون، فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله تعالى، وتمتعهم برزقه البدني من المأكولات والمشروبات اللذيذة، والرزق الروحي، وهو الفرح والاستبشار وزوال كل خوف وحزن؟ وهذه حياة برزخية أكمل من الحياة الدنيا، وفي الآية دليل على نعيم البرزخ وعذابه، كما تكاثرت بذلك النصوص” انتهى كلامه.
وبهذا يتضح أن حياة الأنبياء والشهداء البرزخية هي أكمل حياة وأنعمها وأفضلها، وكما أن الشهداء يتفاضلون في أنواع النعيم في هذه الحياة البرزخية, فإن حياة الأنبياء فوق حياة الشهداء، ونعيمهم أعلى وفضلهم أجلّ.
يقول السيد نعمان خير الدين الألوسي -رحمه الله-: “فنعتقد حياتهم -أي: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام- حياة برزخية فوق حياة الشهداء، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم قد جُعِلَ عند قبره الشريف ملكٌ يبلغه سلام المسَلّمين الذين عند ضريحه المكرم، والنائين عنه، ونعتقد أن الأنبياء -عليهم السلام- جميعهم طريون, لا تأكل الأرض أجسادهم الشريفة” انتهى كلامه.
ب. أنواع تعلُّقات الروح بالبدن:
إن الروح التي تسري في جسم الإنسان لها شأن عظيم، فكما أن الله سبحانه وتعالى جعل أمرها غيبًا لا يعلمه إلا هو؛ حيث قال تعالى: {قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي} [الإسراء: 85], فإن تعلقها ببدن الإنسان له حالات؛ فتتصل به أول ما تتصل عند نفخ الملك فيه الروح وهو في بطن أمه، ثم يكون لها شأن مع البدن حين يخرج الإنسان من بطن أمه، ويبدأ يستقل بنفسه عن أمه ويدبّ على الأرض.
ويكون لها شأن مع البدن أيضًا في حال النوم، وفي البرزخ في نعيم القبر وعذابه، ثم أخيرًا يكون لها مع الجسد تعلق أخير، وهو أكمل تلك الحالات وأقواها؛ حين تعود الروح للبدن عودًا تامًّا لا مفارقة بعده يوم البعث, وخروج الناس من قبورهم للحساب؛ فإما إلى الجنة وإما إلى النار.
يقول شارح (العقيدة الطحاوية) -رحمه الله-: “وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلًا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا يُتكلم في كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذه الدار، والشرع لا يأتي بما تُحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المأهولة في الدنيا. فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق، متغايرة الأحكام:
أحدها: تعلّقها به, في بطن الأم جنينًا.
الثاني: تعلقها به, بعد خروجه إلى وجه الأرض.
الثالث: تعلقها به في حال النوم؛ فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقًا كليًّا، بحيث لا يبقى لها إليه التفات ألبتة، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسَلِّم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، وهذا الرد إعادة خاصة، لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.
الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن معه، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه؛ إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتًا ولا نومًا ولا فسادًا، فالنوم أخو الموت، فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة.
وليس السؤال في القبر للروح وحدها كما قال ابن حزم وغيره، وأفسد منه قول من قال: إنه للبدن بلا روح، والأحاديث الصحيحة تردّ القولين، وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعًا باتفاق أهل السنة والجماعة، وتنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به.
فالحاصل: أن الدور ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وقد جعل الله لكل دار أحكامًا تخصها، وركَّب هذا الإنسان من بدن ونفس, وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبعًا لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعًا لها, فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم؛ صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعًا. فإذا تأملت هذا المعنى حق التأمل؛ ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه؛ وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم” انتهى كلامه.
ويقول السيد سابق -رحمه الله- وهو يتكلم عن مستقر الأرواح، وتعلقات الروح بالبدن في الحياة البرزخية: “وأنها -أي: الروح- مع كونها في الجنة فهي في السماء، وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهي أسرع شيء حركة وانتقالًا، وصعودًا وهبوطًا، وأنها تنقسم إلى: مرسلة ومحبوسة، وعلوية وسفلية، ولها بعد المفارقة صحة ومرض ولذة ونعيم وألم, أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير؛ فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق، وما أشبه حالها في هذا البدن بحال الطفل في بطن أمه، وحالتها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار.
فلهذه الأنفس أربع دور، كل دار أعظم من التي قبلها:
الدار الأولى: في بطن الأم، وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث.
والدار الثانية: هي الدار التي نشأت فيها وألفتها، واكتسبت فيها الخير والشر وأسباب السعادة والشقاوة.
والدار الثالثة: دار البرزخ، وهي أوسع من هذه الدار وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة هذه الدار إلى الأولى.
والدار الرابعة: دار القرار، وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدهما، والله ينقلها في هذه الدور طبقًا بعد طبق، حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها، ولا يليق بها سواها، وهي التي خُلقت لها، وهُيِّئت للعمل الموصل لها إليها.
ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى، فتبارك الله فاطرها ومنشئها، ومميتها ومحييها، الذي فاوت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها، كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها” انتهى كلامه -رحمه الله.