خبر الواحد فيما تعم به البلوى، وفي الحدود، ومذاهب العلماء في خبر الواحد إذا خالف القياس
. مفهوم ما تعم به البلوى:
اختلف أهل العلم في قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى، وما تعم به البلوى هو الأمر الذي يقع كثيرًا بين الناس ويحتاجون إلى الاستفسار عن حكمه، أو يقال: ما تعم به البلوى هو ما يحتاج إليه -بمعنى ما يحتاج إليه الكل، أي كل الناس- حاجة متأكدة تقتضي السؤال عنه مع كثرة تكرره، وقضاء العادة بنقله متواترًا.
أمثلة توضيحية:
ومثال ذلك: ما أخرجه البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه عن سالم بن عبد الله عن أبيه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الركوع والرفع منه)).
مثال آخر: ما أخرجه أبو داود في سننه، وابن ماجه، والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن مس ذكره فليتوضأ))، فهذا لا شك أمر يتكرر، ويقع كثيرًا من الناس، فهو مما تعم به البلوى.
مثال ثالث: ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيًا فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه))، ونحو ذلك من أحاديث الآحاد الواردة فيما تعم به البلوى.
مذاهب العلماء:
اختلف العلماء في قبول خبر الواحد لإثبات حكم يكثر وقوعه وتعم به البلوى على مذهبين:
المذهب الأول: إن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول، وهذا مذهب الجمهور: مالكية، وشافعية، وحنابلة، يرون أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول، وفي هذا يقول ابن قدامة -رحمه الله: ويقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى، كرفع اليدين في الصلاة، ومس الذكر، ونحوه في قول الجمهور
وقال أكثر الحنفية: لا يقبل، وهذا هو المذهب الثاني في المسألة.
أدلة المذاهب:
استدل الجمهور على ذلك بالقرآن الكريم، وبإجماع الصحابة رضي الله عنهم وبالمعقول.
الدليل الأول: قول الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، ووجه الدلالة من الآية: أن الله عز وجل أوجب الإنذار على كل طائفة خرجت للتفقه في الدين، وإن كانت آحادًا، وهو مطلق فيما تعم به البلوى –يعني: ما يتكرر ويقع كثيرًا- وفيما لا تعم به البلوى، ولولا أنه واجب القبول لما كان لوجوبه فائدة، هذا الدليل الأول على قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى.
الدليل الثاني: إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد فيما تعم به البلوى، والحق أنه قد وقعت أحاديث كثيرة فيما تعم به البلوى، وقد قبلها الصحابة ولم ينكر واحد منهم فكان إجماعًا، ولنذكر لكم أمثلة على قبول الصحابة رضي الله عنهم خبر الواحد فيما تعم به البلوى: من ذلك قبولهم خبر عائشة رضي الله عنها في وجوب الغسل من التقاء الختانين بغير إنزال، وهذا أمر تعم به البلوى.
وكذا قبولهم خبر الواحد في أن الحجامة مما ينقض الطهارة، فيلزم الوضوء منها، والحجامة من الأمور التي تعم بها البلوى.
وقبل عمر رضي الله عنه خبر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في أخذ الجزية من المجوس، وهذا أيضًا مما تعم به البلوى.
وقبل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما خبر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في تحريم ربا الفضل، وهو أمر تعم به البلوى.
فهذه الوقائع ونحوها كثير تشهد للقول بحصول الإجماع من الصحابة رضي الله عنهم على العمل بخبر الواحد فيما عمت به البلوى.
الدليل الثالث: لجمهور العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، قالوا: إن الحكم في الحادثة التي عمت بها البلوى –يعني: تكررت ووقعت كثيرًا- يجوز إثباته بالقياس، فيكون إثبات حكم الحادثة التي عمت بها البلوى بخبر الواحد أولى بالجواز، وبيان وجه الأولوية: أن القياس فرع مستنبط من خبر الواحد؛ إذن خبر الواحد أصل للقياس، وإذا كان الحكم الذي تعم به البلوى يجوز إثباته بالقياس وهو فرع لخبر الواحد فيجوز إثباته بخبر الواحد من باب أولى، وذلك باعتبارين:
الاعتبار الأول: باعتبار أصل ثبوت حجية القياس، فإذا كانت حجية القياس لا تثبت ولا تتقرر إلا بالسنة، ومن السنة خبر الواحد، إذن إثبات ما تعم به البلوى بخبر الواحد يكون أولى من إثبات ما تعم به البلوى بالقياس.
الاعتبار الثاني: باعتبار ثبوت أصل القياس وعلته.
الدليل الرابع: أن الراوي –يعني: لخبر الواحد فيما تعم به البلوى- عدل ثقة، وهو جازم بالرواية، فيما يمكن فيه صدقه، فوجب تصديقه.
الدليل الخامس: إذا كان القرآن يجب العمل به فيما تعم به البلوى لأنه ثبتت قطعيته وثبت وجوب العمل به، فكذلك خبر الواحد؛ لأنه ثبت وجوب العمل به بدليل قاطع، وهو إجماع الصحابة، فالصحابة أجمعوا على العمل بخبر الواحد، وحينئذ فيجوز إثبات الأحكام التي تعم بها البلوى بطريق خبر الواحد كما تثبت بالقرآن الكريم.
الدليل السادس: أن الحجة في العمل بالسنة إنما يكون إذا صحت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فمتى صحت السنة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وجب العمل بها، وكونها تخفى على بعض الصحابة هذا لا يؤثر في الاحتجاج بها.
إذن هذه مجموعة من الأدلة على قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى، وقد أورد ابن قدامة -رحمه الله- أدلة غير هذه الأدلة.
الراجح:
أن العلماء اختلفوا في قبول خبر الواحد لإثبات الأحكام التي يكثر وقوعها وتعم بها البلوى، كرفع اليدين في الصلاة، ونقض الوضوء من مس الذكر، وثبوت خيار المجلس في البيع، فذهب الجمهور إلى الاحتجاج به؛ لثبوته بنقل العدل الجازم بالرواية، وصدقه غير مستحيل، فلا يجوز تكذيبه، وذهب أكثر الحنفية إلى عدم قبوله لتوافر الدواعي على نقله، فكيف يختص بروايته الآحاد؟، والرأي الأول –أعني: رأي الجمهور- هو المختار؛ لأن الصحابة قبلوا خبر عائشة في الغسل من الجماع بدون إنزال، وخبر رافع بن خديج في المخابرة، وما ذكره الحنفية منقوض بقبولهم خبر الواحد في الوتر، ونقض الوضوء بالقهقهة في الصلاة، فإن هذا مما تعم به البلوى وقد أثبتوه بخبر الواحد.
2. خبر الواحد في الحدود:
مفهوم كلمة الحد: “العقوبة المقررة والمشرعة حقًّا لله تعالى”، والجرائم في الفقه الإسلامي إما بحدود أو بالقصاص أو بديات، فالإنسان إذا ارتكب جريمة ما، فنحن نعاقبه بعقوبة تتناسب هذه الجريمة، ومعنى العقوبة المقررة: أنها محددة ومعينة، ومعنى أنها حقًّا لله تعالى: أنَّها لا تقبل الإسقاط لا من الفرد ولا من الجماعة. بمعنى: إذا ثبتت جريمة الزنا على إنسان فهل لأحد أن يسقط هذه العقوبة المقررة لهذه الجريمة يعنى يسقط الحد، إذا ثبتت جريمة السرقة بالإقرار أو بالشهود أو بوسيلة من وسائل الإثبات، فهل لأحد أن يتدخل لإسقاط هذا الحد؟ أقول: لا، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما شفع أسامة بن زيد في المرأة التي سرقت قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حدًّا من حدود الله، وقال: إنما هلك من كان قبلكم كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد))، فقرر النبي صلى الله عليه وسلم أن الحدود عقوبات مقرر حقًّا لله تعالى، فهي عقوبة محدود ومحددة ومعينة وهى حق لله تعالى.
الحدود المقررة في الفقه الإسلامي سبع:
الأول: حد الزنا: المحصن يُرجم، وغير المحصن يجلد مائة جلدة.
الثاني: حد القذف: يعنى: أن يقذف إنسان امرأة عفيفة ويتهمها بالزنا، فهذا حده ثمانين جلده {وَالّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].
الثالث: حد الشرب: وقد ثبت هذا في صدر الإسلام، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب أو يجلد شارب الخمر عدد غير معين، فلما استشرى أمر الشرب في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الصحابة رضي الله عنهم في عقوبة رادعة لشرب الخمر؛ فقال على بن أبى طالب قولته المشهورة التي تحفظونها قال: “يا أمير المؤمنين، أرى أنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى وأرى عليه حد الفدية” استقر الأمر على أن حد الشرب ثمانين جلدة كحد القذف تماما بتمام.
الرابع: حد السرقة: فالذي يسرق نصابًا محروزًا –يعنى: من حرز مثله- فحده قطع اليد من الكوع قال تعالى: {وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا)).
الخامس: حد الحرابة: الذي يحاربون الحاكم والولي ورئيس الدولة، ويخرجون عن طاعة ولى الأمر ويسعون في الأرض فسادًا، فهولاء لهم عقوبة مقررة تعرف في الفقه الإسلامي بحد الحرابة.
السادس: حد الردة: فالإنسان الذي دخل الإسلام باختياره أولًا ثم ارتد وخرج على الإسلام فهذا له عقوبة مقررة حدًّا وهى الثابتة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه)).
السابع: حد البغي:
3. مذاهب العلماء في خبر الواحد في الحدود:
اختلف العلماء في العمل بخبر الواحد في الحدود على مذهبين:
المذهب الأول: وهو مذهب الجمهور من العلماء، ويرون قبول خبر الواحد في الحدود كحد الزنا والسرقة والقذف ونحو ذلك، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة:
الدليل الأول: هو عموم الأدلة على كون خبر الواحد حجة، ولهذا يقول ابن قدامة -رحمه الله: “فصل يقبل خبر الواحد في الحدود وما يسقط بالشبهات” يعنى: العقوبات التي تسقط بالشبهة خبر الواحد مقبول فيها.
الدليل الثاني: أن الحدود حكمًا شرعيًّا، وفى هذا يقول ابن قدامة -رحمه الله: “فإن الحدود حكمًا شرعيًّا يثبت بالشهادة فيقبل فيه خبر الواحد كسائر الأحكام”، هذا كلام ابن قدامة في “الروضة”، وهذا الكلام مكون من وجهين:
الوجه الأول: قياس الرواية، وهى خبر الواحد على الشهادة.
الوجه الثاني: قياس خبر الواحد الوارد في إثبات الحدود، وما تسقطه الشبهة على خبر الواحد في غير ذلك من سائر الأحكام.
الدليل الثالث: أن ما يقبل فيه القياس المستنبط من خبر الواحد فهو بالثبوت بخبر الواحد أولى.
والمتأمل يجد الفقهاء قد أثبتوا أحكامًا كثيرة بخبر الواحد في الحدود، نذكر منها على سبيل المثال ما أثبته الإمام أحمد -رحمه الله- من اجتماع الجلد والرجم على الزاني المحصن، وسند الإمام أحمد في ذلك خبر آحاد مروى عن عباده بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلًا البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)).
المذهب الثاني: عدم قبول خبر الواحد في الحدود ولا فيما يسقط بالشبهة. وهو مذهب أبى الحسن الكرخيمن الحنفية وأبى الحسن البصري من المعتزلة، وقد استدل أصحاب هذا المذهب بما يلي:
قالوا: إن الشارع الحكيم هو الذي أقام الحدود وجعلها موضوعة في الأصل على أن الشبهة تسقطها، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((ادرءوا الحدود بالشبهات))، كما رواه الترمذي، وعليه فلا تثبت بأخبار الآحاد أحكامًا في الحدود، هذا حاصل المذهب الثاني في المسألة.
وقد أجاب ابن قدامة وغيره عن حديث: ((ادرءوا الحدود بالشبهات)) في غير (الروضة) من وجهين:
الوجه الأول: قالوا: إن لفظة “الشبهة” أو “الشبهات” لم ترد في الحديث، والحديث كما روته السيدة عائشة رضي الله عنه: ((ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم))، فلفظ “الشبهة” لم يكن، والحديث بغير لفظ “الشبهة” رواه الحاكم، ورواه الدارقطني، وذكره الزيلعي في (نصب الراية) وتكلم عليه كثيرًا.
الوجه الثاني: على فرض وجود لفظ “لشبهة” أو “لشبهات” في الحديث، وعلى فرض صحته؛ لأن الحديث فيه كلام كثير، فإن المراد بالشبهة هنا هي الشبهة في الفاعل مثل أن يكون جاهلًا للتحريق أو زائل العقل، أو الشبهة في الفعل مثل: أن يطأ امرأة يظنها زوجته أو أمَته، أو تكون الشبهة في المفعول فيه مثل أن تكن الموطوءة أمة ابنه أو أمة مشتركة فتكون الشبهة على هذا في نفس السبب لا في المثبت، إذن ما استدل به الكرخى ومن معه مردود عليه، والحق أن مذهب الجمهور هو المذهب الراجح، وما ذهب إلى الكرخى والبصري غير صحيح، وما استند إليه لا يصلح دليلًا لهم؛ لأنه يبطل بالشهادة وهما مظنونان ويقبلان في الحدود.
4. مذاهب العلماء في خبر الواحد إذا خالف القياس:
اختلف أهل العلم في الحكم إذا خالف خبر الواحد القياس على مذاهب:
المذهب الأول: يقدم خبر الواحد على القياس، وهذا هو مذهب الجمهور. وقد استدل الجمهور على تقديم خبر الواحد على القياس بما يلي:
الدليل الأول: وهو دليل من السنة وهو حديث معاذ المشهور، فقد رُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: ((بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه ويرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم))، والحديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.
ووجه الاستدلال من الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر معاذًا رضي الله عنه على تقديم العمل بالسنة على العمل بالاجتهاد الذي يعتبر القياس نوعًا من أنواعه.
الدليل الثاني: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تقديم الخبر على القياس.
والأمثلة على ذلك كثيرة نذكرها على النحو الذي ذكره ابن قدامة:
الواقعة الأولى: ما رواه أبو داود وأحمد: ((أن عمر رضي الله عنه سأل عن قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في إسقاط الجنين، فقام حمل بن مالك فقال: كنت بين امرأتين لي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح -عمود خشب- فقتلتها وجنينها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة عبد أو أمة))، يعني: دية الجنين غرة عبد أو أمة وأن تُقْتَلَ، جاء في بعض روايات الحديث: ((أن عمر قال بعد ذلك: الله أكبر، لو لم اسمع بهذا لقضينا بغير هذا))، ووجه الدلالة من هذه الواقعة أو تلك الصورة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هنا ترك رأيه في دية الجنين قياسًا على غيره وقدم خبر الواحد عليه، وفي هذه الصورة يقول ابن قدامة -رحمه الله: “ولذلك قدم عمر رضي الله عنه حديث حمل بن مالك في غرة الجنين”.
الواقعة الثانية: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفاضل بين ديات الأصابع على قدر منافعها، كما يدل على ذلك القياس -يعني: لو أن شخصًا اعتدى على أصابع شخص آخر فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفاضل بين ديات الأصابع، فيجعل دية الإبهام مثلًا أكبر من دية السبابة ومن دية الوسطى، ويجعل دية السبابة والوسطى أكبر من دية الخنصر، ويجعل دية البنصر أكبر من دية الخنصر وهكذا- فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفاضل بين ديات الأصابع على قدر منافعها كما يدل على ذلك القياس- فلما روي له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في كل إصبعٍ مما هنالك عشرٌ من الإبل)) رجع إلى هذا الخبر وترك القياس، وكان هذا بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعًا. وقد روى ذلك الإمام الشافعي في (الرسالة) عن سعيد بن المسيب: “أن عمر بن الخطاب قضى بالإبهام بخمس عشرة من الإبل، وفي التي تليها -يعني السبابة- عشر، وفي الوسطى عشر، وفي التي تلي الخنصر تسع، وفي الخنصر ست””، هذا كان اجتهاد عمر قبل أن يبلغه خبر إن النبي صلى الله عليه وسلم سوى بين دية الأصابع، فلما بلغه خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع عن قياسه وعن اجتهاده وعمل بمقتضى الخبر.
ووجه الاستدلال: أن عمر ترك قياسه واجتهاده ونزل على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الدليل الثالث: أن الخبر قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو معصوم لا ينطق عن الهوى، وأما القياس فهو استنباط المجتهد؛ حيث يقيس المجتهد ما ليس فيه نص على ما فيه نص وواضحٌ، وكلام المعصوم صلى الله عليه وسلم أبلغ في إثارة غلبة الظن فيقدم على قول غير المعصوم.
وفي هذا يقول ابن قدامة -رحمه الله: “ولأن قول النبي صلى الله عليه وسلم كلام المعصوم وقوله، والقياس استنباط الراوي، وكلام المعصوم أبلغ في إثارة غلبة الظن”.
الدليل الرابع: لم يذكره ابن قدامة -رحمه الله- وحاصله: أن الخبر يحتاج إلى النظر في أمرين هما: عدالة الراوي، ودلالة الخبر، أما القياس فيحتاج إلى النظر في ستة أمور وهي:
الأمر الأول: حكم الأصل المقيس عليه ما حكمه.
الأمر الثاني: هل الحكم الموجود في الأصل حكم معلل أم حكم غير معلل؟ لأن القياس إنما يكون إذا كانت الأحكام معللة.
الأمر الثالث: تعيين الوصف الذي به التعليل، إذا قلت: هذا الحكم معلل فما هي العلة؟ لأنَّه يصح أن تكون العلة أكثر من شيء فلا بد أن أجتهد في تحديد الوصف والعلة التي من أجلها شرع الحكم.
الأمر الرابع: وجود ذلك الوصف في الفرع –يعني: المقيس.
الأمر الخامس: نفي المعارض في الأصل، يعني لا بد أن يكون حكم الأصل الموجود فيه مما يصح ويصلح نقله إلى الفرع؛ بحيث لا يكون الحكم خاصًّا بالمحل، فالنبي صلى الله عليه وسلم له أن يتزوج أكثر من أربع فهل لنا أن نقيس أنفسنا عليه؟ ليس لنا ذلك.
الأمر السادس: نفي المعارض في الفرع، لا بد أن يكون الفرع لا يوجد فيه معارض مع الأصل حتى ينتقل الحكم من الأصل إلى الفرع. وهذا إذا لم يكن دليل الأصل خبرًا، فإن كان دليل الأصل خبرًا كان النظر في ثمانية أمور؛ الستة المذكورة مع الاثنين المذكورين في الخبر، ولا شك أن ما كان يحتاج إلى النظر في أمور كثيرة كان احتمال الخطأ فيه أكثر مما يحتاج إلى النظر في أقل منها.
المذهب الثاني: أن القياس مقدم على الخبر -عكس المذهب الأول- وهذا المذهب محكي عن الإمام مالك -رحمه الله- كما ذكر ابن قدامة وأبو يعلى الحنبلي وغيرهما، والظاهر أن وجهة نظر القائلين بتقديم القياس على الخبر أن القياس أقوى من الخبر وعليه فيقدم عليه؛ لأن الخبر يحتمل الكذب؛ لأن الراوي ليس معصومًا، وأيضًا الخبر يحتمل الخطأ لجواز ذهول أحد الرواة كما يحتمل الخبر النسخ والتجوز والإضمار، يعني الخبر يتطرق إليه عدة احتمالات، هذه الاحتمالات تضعفه، أما القياس فلا تتطرق إليه الاحتمالات فيكون قويًّا، وعليه فيقدم القياس على الخبر إذا تعارضا.
وهذا الكلام مردود لأنَّه بعيد مع ظهور عدالة الراوي، فنحن لا نقبل أي خبر آحاد وإنَّما خبر الآحاد الذي يرويه العدل الثقة، فإذا كان الراوي لخبر الآحاد عدل وثقة فتكون هذه الاحتمالات بعيدة، أضف إلى ذلك أن هذه الاحتمالات كما تطرق إلى الخبر تطرق أيضًا إلى القياس إذا كان أصله خبرًا، وبه يعلم ضعف المذهب الثاني.
المذهب الثالث: قال أصحابه: إذا خالف الخبر الأصول أو معنى الأصول لم يحتج به، وهذا المذهب منسوب إلى أبي حنيفة -رحمه الله- لكن بالنظر في كتب الأحناف وجدناهم يفصلون مسألة مخالفة الخبر للقياس تفصيلًا جيدًا؛ فيقولون: الراوي إما أن يكون معروفًا بالرواية وإما أن يكون مجهولًا، أي: لم يعرف إلا بحديث أو حديثين، فإن كان الراوي معروفًا بالفقه والاجتهاد كالخلفاء الراشدين فإن حديثه يكون حجة سواء وافق القياس أو خالفه، وقالوا: إن عرف الراوي بالعدالة والضبط ولم يعرف بالفقه والاجتهاد كأنس بن مالك وأبو هريرة وسلمان الفارسي وبلال بن رباح رضي الله عنهم قالوا: في هذه الحالة ننظر إن وافق حديثه القياس عُمل به، وإن خالفه لم يترك الحديث إلا بسبب ضرورة، وهي أنه لو عمل بالحديث لانسد باب الرأي من كل وجه، فيكون مخالفًا لقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُواْ يَأُوْلِي الأبْصَارِ} [الحشر: 2].
ولذلك الحنفية يردون العمل بالحديث لمخالفة القياس، بذلك أوقعوا أنفسهم في تناقض؛ حيث إنهم تركوا في بعض الأحيان القياس وعملوا بخبر الواحد المعروف بالعدالة والضبط فقط في نظرهم، فإننا نجدهم قبلوا حديثًا آخر لأبي هريرة مخالف للقياس، وهو حديث: ((إذا نسي –يعني: الصائم- فأكل وشرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه))، رواه البخاري ومسلم، قال أبو حنيفة: القياس أن مَن أكل ناسيًا بطل صومه إلا أني أتركه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن ذلك أيضًا: ما ذكره ابن قدامة -رحمه الله- بقوله: “ثم أصحاب أبو حنيفة قد أوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر”، ومعنى ذلك: أن الحنفية أوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون الحضر لخبر الواحد في ذلك، وهو ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ((سألني النبي صلى الله عليه وسلم ماذا في إداوتك؟ فقلت: نبيذ؛ فقال: تمرة طيبة وماء طهور، فتوضأ منه))، فهنا قد عمل هؤلاء بهذا الخبر وتركوا العمل بما يقتضيه القياس، وهو تساوي الحضر والسفر، فإذا جاز الوضوء بالنبيذ في السفر، فإنه لا يجوز في الحضر.
ومما وقع فيه الحنفية أيضًا من التناقض ما حكاه ابن قدامة في (الروضة) من قوله: وحكموا في القسامة بخلاف القياس وهو مخالفٌ للأصول، فهذا المثال من الأمثلة على أن كثيرًا من الحنفية قد قدموا خبر الواحد على القياس لما تعارض خلافًا لقاعدتهم أنهم أخذوا بحديث القسامة، وهو حديث سهل بن أبي حَثْمة الذي رواه البخاري ومسلم ومالك في (الموطأ)، والقسامة معناها: الأيمان المكررة في دعوى قتل معصوم الدم، فأخذ الحنفية بما ورد في خبر القسامة وإن كان مخالفًا للقياس؛ لأن الدعوى في القسامة مخالفة لسائر الدعاوى؛ حيث إن اليمين يبدأ فيها بالمدعي قبل المدعى عليه.
فهذه الصور التي أوردها بن قدامة -رحمه الله- وغيره تدل على أن الحنفية خالفوا قاعدتهم، وهي تقديم القياس على خبر الواحد عند التعارض في الفروع الفقهية وعند التطبيق، وهذا الناقض يدل على بطلان مذهب الحنفية. هذا حاصل ما يقال في هذه المسألة.