خبر بني حنيفة، ومسيلمة الكذاب
أتى وفد بني حنيفة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في عام الوفود، وكان مسيلمة في رحالهم، فلما عاد الوفد ادعى مسيلمة أنه أشرك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر -يعني: أصبح رسولًا، وله نصيب من الرسالة- كان هذا في السنة العاشرة من الهجرة النبوية، ومن ثم جهر بدعوته بعد رجوعه من المدينة، وظهرت عليه هذه الأشكال من السجع التي ذكرنا أمثلة لها، وهو سجع حاول فيه أن يضاهي ألفاظ القرآن الكريم!!
ولكن هيهات هيهات أن يصلوا لذرة واحدة مما ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى. تقول الروايات: إنَّ مسيلمة أعفا أصحابه من الصلاة، وأحل لهم المحرمات، وبعث برسالة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان نص الرسالة كالآتي -وهو في سيرة ابن هشام-: “من مسيلمة رسول الله إلى محمدٍ رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني أُشرِكت في الأمر معك، إن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم يعتدون”. هذا هو نص الرسالة.
وعندما أتت الرسالةُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسولين اللذين أتيا بها هل هما على الإسلام؟ قالا: لا، نحن على ما عليه قومنا. فقال رسول الله: ((والله لولا أن الرسل لا تقتل، لضربت أعناقَكم))، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بكتابة رسالة إلى مسيلمة، قال فيها: ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذوب، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين)).
ويظهر هنا الفرق الكبير والعظيم بين كلام الرسل، وكلام الأنبياء، وكلام الصدق، وكلام الحق، وبين كلام الكذابين، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك من أمر الدنيا شيئًا ولا من أمر نفسه شيئًا، فَمَن يستطيع أن يقول: إن الأرض يملكها فلان أو فلان؟!
هذه الأحداث تمت قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فلما مات رسول الله؛ انتهز مسيلمة حادث الوفاة، ودعا قومَه فانضموا إليه. وفي هذه الأثناء ظهرت شخصية “نهار الرحال” أو الذي أرسله أبو بكر الصديق إلى بني حنيفة حتى يعودوا إلى الإسلام، ولكن “نهار الرحال” ارتد وشهد أمام بني حنيفة أن مسيلمة أشرك في الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أرسل الصديق عكرمة بن أبي جهل، وأوصاه ألا يبدأ الحرب ضد مسيلمة حتى ينضم إليه القائد العظيم المعروف شرحبيل بن حسنة، ولكن الذي حدث أن عكرمة تعجل وأسرع؛ فانهزم في المرحلة الأولى؛ لأنه لم يتبع أوامر الصديق ولم ينتظر القائد شرحبيل بن حسنة.
ظهر مسيلمة ومعه جيش كبير واستعد للقاء خالد، ونزل بعقربة، وبدأت المعركة بين جيوش الإسلام وجيوش الردة، وقد كان عدد جيوش المسلمين في هذه المرحلة حوالي ثلاثة عشر ألفًا، وجيوش مسيلمة حوالي أربعين ألفًا. حدث قتال شديد وحرب ضروس بين الطرفين، المسلمون يقاتلون عن دينهم… عن عقيدتهم… عن صدق هذا الدين، وبنو حنيفة يقاتلون عن نسائهم وأحسابهم وأموالهم، وتلك الأفكار والخزعبلات التي ملأتهم من كلام مسيلمة.
واشتد بنو حنيفة على المسلمين؛ فبدأ المسلمون في الانكشاف والتراجع، وهنا قال ثابت بن قيس -حينما رأى المسلمين مدبرين-: أف لكم ولِمَا تعملون. وصدع أبو حذيفة بقولته الشهيرة: “يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال”. يعني: لا يمكن أن يكون هذا القرآن كلامًا فقط، لا بد وأن تؤيد هذه الكلمات العظيمة من وحي الله بأفعال عظيمة من المؤمنين والمتبعين لها. هكذا قال أبو حذيفة، ونادى رجالٌ في المسلمين ممن صدقوا ما عاهدوا الله عليه، كذلك نادى خالد بن الوليد بأعلى صوته: “وا محمداه”. وهنا تجمعت قوات المسلمين مرة أخرى وعادت، وحملوا على عدوهم وعلى قوات الردة وقوات الكفر، وعرفوا أنه ليس أمامهم سوى الشهادة أو النصر؛ فليس للشهداء عند الله إلا الجنة.
في هذه الأثناء كان مسيلمة قد أعد لقواته منطقة حديقة ضخمة، سماها “حديقة الرحمن”، وكانت فيها قدر الله ووعده لعبيده المسلمين المؤمنين الموحدين بالنصرة؛ فصارت هذه الحديقة لقوات مسيلمة ولبني حنيفة “حديقة الموت” حيث تم فيها دحرهم.
ومن ثم تمكنت قوات المسلمين من التجمع والتراص والوقوف جبهةً واحدةً ضد قوات مسيلمة، وحملوا عليهم مرة واحدة واشتد القتال بين الجانبين.
وأخذ مسيلمة يصرخ في جنوده: قاتلوا عن دينكم. وتقول الروايات: أنه كثر القتل في بني حنيفة؛ ولكنها لم تحفل بقتلاها وبعدد قتلاها، وأصروا على القتال.
وهنا ظهر خالد بن الوليد وتردد صداه في كل مكان وهو يدعو للمبارزة والقتال؛ فكان خالد يقتل كلَّ مَن يخرج له من المقاتلين من بني حنيفة، فما خرج إليه أحد إلا وأرداه قتيلًا.
وعلم خالد أن هذه القوات العظيمة من بني حنيفة لا يمكن أن تتفرق إلا إذا قتل مسيلمة، فسوف ينتهي عندها هذا الأمر تمامًا؛ فدعا مسيلمة للمبارزة، وبالفعل ظهر مسيلمة ليقاتل خالدًا، ولكنه شعر بأنه سيُقتل على يد خالد بن الوليد؛ ففر من أمامه، ودخل في وسط جنده مختفيًا، فقال له أتباعه: أين ما كنت تعدنا به من النصرة؟! ومن ثم تكدسوا في هذه الحديقة التي سماها لهم مسيلمة “حديقة الرحمن”، فاستطاع جنود المسلمين أن يفتحوها عليهم وأن يقضوا عليهم.
استشهد من المسلمين خلق كثير، وقُتِل مسيلمة على يد وحشي؛ ولذلك تقول المصادر -ويقول وحشي عن نفسه-: أنه قتل خيرَ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حمزة عمُّ الرسول صلى الله عليه وسلم وقتل شرَّ الناس، وهو مسيلمة الكذاب. ويقول: أنه لم يرَ قط أصبر على الموت من أصحاب مسيلمة، دافعوا عن هذا الهراء الذي كان يتبعونه.
وحقيقة فقد دفع المسلمون ثمن هذا النصر غاليًا؛ إذ استشهد من المسلمين ألف ومائتان؛ منهم سبعون من القراء، وهذه النقطة كانت من أهم النقاط التي دفعت أبا بكر الصديق بجمع القرآن بعد ذلك.
ومن ثم بدأ التفكير هنا في جمع القرآن؛ خشيةَ الضياعِ.