Top
Image Alt

خبر عبس وذبيان، وبني تميم ومالك بن نويرة

  /  خبر عبس وذبيان، وبني تميم ومالك بن نويرة

خبر عبس وذبيان، وبني تميم ومالك بن نويرة

أ. ردة عبس وذبيان:

اجتمعت هذه القبائل: عبس وذبيان ومن معها من أسد وغطفان وطيئ وغيرهم، وهؤلاء كانوا ممن يتبعون طليحة الأسدي.

وكونوا وفدًا وبعثوا به إلى المدينة؛ فنزل هذا الوفد على وجوه الناس؛ حتى إنهم أنزلوهم على العباس، ثم حملوهم إلى أبي بكر الصديق رضي الله  عنه وعرضوا على الصديق اقتراحهم الذي يقول: بأنهم مسلمون يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويقيمون الصلاة؛ ولكنهم سوف يمتنعون عن أداء الزكاة ولن يؤدوها؛ فعزم أبو بكر على الوقوف بمنطق الحق في وجوههم، وقال قولته الشهيرة: “لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليهم”. ومن ثم ردهم الصديق بهذه الإجابة.

عادوا إلى قومهم ورجعوا إلى عشائرهم وأخبروهم برد الصديق؛ ولكن الأهم أنهم أخبروهم بقلة عدد مَن في المدينة من المسلمين؛ لأن قوة المسلمين كانت في جيش أسامة وذهبت إلى مشارف الشام -وهذه من الأشياء التي كان يقولها من كانوا يرون عدم أهمية إرسال جيش أسامة- ومن ثم طمَّعوهم في إمكانية الاعتداء على المدينة، وأن ينالوا من أطرافها شيئًا.

وهنا تظهر الشخصية العسكرية لأبي بكر الصديق؛ حيث انتبه إلى هذه النقطة؛ فجمع كبار الصحابة والمسلمين وبين لهم أنهم كشفوا المدينة وتعرفوا على أسرارها، وأنكم لا تدرون في أي وقت يأتونكم أليلًا أم نهارًا؟ وقد كان القوم يأملون منكم أن توافقوا على اقتراحهم، ونحن قد رفضنا هذا الاقتراح؛ وبناءً على ذلك استعدوا وأعدوا…

هكذا حدث الصديق جماعة المسلمين.

وبالفعل ما لبثوا إلا ثلاثًا -أي: ثلاث ليال أو ثلاثة أيام- حتى طرقوا المدينة غارة في الليل، وخلفوا بعضهم بوادٍ يُعرف “ذي حِسا” – بالضم و بالكسر- ليكونوا ردءًا لهم؛ إلا أن الصديق كان قد أخذ حذره فوضع على مداخل المدينة وشوارعها ودروبها حرسًا، وأرسل الحرس للصديق بأن الغارة بدأت من هذه القبائل على المدينة؛ فأرسل لهم الصديق أن الزموا أماكنكم.

وخرج الصديق ومعه أهل المسجد إليهم؛ فتخوف الأعداء وفروا مسرعين، وتبعهم المسلمون على إبلهم؛ حتى بلغوا بهم وادي “حِسا”، وكان النصر في هذه الموقعة للمسلمين وكان الفتحُ.

هذا هو اللقاء الأول الذي تم بين المسلمين وجماعة المرتدين من عبس وذبيان، ومَن ناصرهم من بعض القبائل الأخرى -كما ذكرنا- من أسد وغطفان وطيئ.

في جمادى الآخرة حدث لقاء آخر؛ حيث ركب الصديق في أهل المدينة ومعه الأمراء، وقرر المسير إلى تلك القبائل التي تضرب حول المدينة من الأعراب والذين أغاروا عليها ومن بينهم عبس وذبيان، وتوجه إليهم من ناصر معهم من بني كِنانة وغيرهم، وتقول المصادر: إن طليحة الأسدي أمدهم بحبال.. وبعضها يقول: إنها حبال أخو طليحة. والله أعلم أي ذلك أصح؟.

تواجه القوم -المسلمون والمرتدون- ولكن هؤلاء المرتدين قد صنعوا مكيدة، وهي أنهم عمدوا إلى أنحاء فنفخوها -والأنحاء جمع نحا، وهو الزق، أي: جلد منفوخ على أشكال تشبه أشكال الحيوانات- وأرسلوها من رءوس الجبال؛ فنزلت على جيوش المسلمين وكانت تحدث صوتًا.

يقال: إن الإبل لا تخشى شيئًا مثل خشيتها من هذه الأنحاء، لما رأتها إبل أصحاب الصديق نفرت منها وذهبت كل مذهب؛ فلم يملك المسلمون من أمرها شيئًا إلى الليل؛ حتى رجعت إلى المدينة مرة أخرى.

وهذا يعد اللقاء الثاني، وكانت الأمور فيها تميل فيها لصالح المرتدين أكثر من المسلمين؛ لأن جِمال المسلمين وقوات المسلمين تخوفت من هذه الأنحاء التي أعدها هؤلاء المرتدين.

نقول: إن لقاءات المسلمين بالكافرين كانت لقاءات صعبة وكان القتال شديدًا، ولم يحقق المسلمون النصر في كل موقعة، لم يكن النصر سهلًا؛ بل جاء نتيجة قتال ومعارك شديدة، بذل المسلمون فيها جهدًا كبيرًا وعظيمًا؛ حتى يستطيعوا أن يحققوا النصر، ويحققوا وعدَ الله بغلبة رسوله والمسلمين والصادقين والمخلصين.

لما وقع هذا الأمر ظن القوم بالمسلمين الوهن… واعتقدت هذه القبائل -وعلى رأسها عبس وذبيان وغيرها من قبائل الردة- أن المسلمين في وهن وفي ضعف، وأنه يمكن أن يُنال منهم ومن الممكن أن يُنال من المدينة وأن يهجم عليها، ومن ثم بعثت هذه القبائل إلى عشائرها من نواحي أخر؛ فاجتمعت هذه القبائل مع عبس وذبيان ومع أسد وغطفان وطيئ وغيرهم.

ولكن الصديق أعد العدة وبدأ الصديق في إعادة تجميع الجيش الإسلامي، وقام ليلته يعبئُ الناس، وخرج بنفسه من آخر الليل بقواته حتى يذهب لهم؛ فتحرك لهم الصديق، وبالفعل قامت المعركة.

لذلك نستطيع أن نعتبر هذه المعركة الثالثة بين قوى الكفر والردة متمثلة في عبس وذبيان وطيئ وغطفان وأسد وغيرهم مع قوى المسلمين.

تقول المصادر: فما طلع الفجر إلا وهم والعدو في صعيدٍ واحد، فما سمعوا للمسلمين حسًّا ولا همسًا حتى وضعوا فيهم السيوفَ، فما طلعت الشمس حتى ولوهم الأدبار وغلبوهم على عامة ظهورهم، والأهم من كل ذلك: أنه قتل “حبال” هذا، وتتبعهم أبو بكر حتى وصل بهم إلى ذي القصر -موضع من المواضع التي كان يعسكر فيها هؤلاء المرتدون، وهو موضع قريب من المدينة-.

وبهذه الصورة جاء أول الفتح، وبدأت القوات المسلمة تحقق النصر العظيم على قوات الردة والكفر وعلى رأسها “عبس” و”ذُبيان”.

ولكن حدث أن أرادت هذه القوى -قوى الردة- أن تنتقم من المسلمين، فما كان منهم إلا أنهم قاموا بقتل المسلمين من أبناء قبائلهم بالرغم من أنهم أبناء عمومتهم؛ لأنهم على الإسلام. وكذلك صنعت القبائل الأخرى مثل صنيعهم، ووصلت هذه الأنباء الحزينة السيئة إلى أبي بكر الصديق رضي الله  عنه: فأقسم أبو بكر ليقتلنَّ مِن كل قبيلة بمن قتلوا من المسلمين وزيادة.

كانت هذه الوقعة من أكبر العون على نصر الإسلام وأهله؛ وذلك لأن هذا الانتصار أعز المسلمين في كل قبيلة وذل الكفار في كل قبيلة والمرتدين، ومن ثم رجع أبو بكر إلى المدينة مؤيدًا منصورًا سالمًا غانمًا.

في هذه الأثناء حدث تطور آخر هو قدوم أسامة بن زيد بجيشه، وكان ذلك بليل؛ فما كان من أبي بكر الصديق رضي الله  عنه إلا أنه استخلف أسامة على المدينة، وأمرهم أن يريحوا ظهورهم، ثم ركب أبو بكر في الذين كانوا معه -في الوقعة المتقدمة- إلى “ذي القصة”، وهنا خرج له المسلمون وطلبوا منه أن يرجع إلى المدينة، وأن يرسل رجالًا غيره؛ فقال لهم: “والله لا أفعل، ولا أواسينَّكم بنفسي”، يعني: أنا ردء لكم. فخرج في تعبئته إلى “ذي حسا” وإلى “ذي القصة”.

وهذا موقف من المواقف العظيمة لأبي بكر الصديق رضي الله  عنهويبرز مدى إحساسه وتحمله للمسئولية لدى جنوده ورعيته للمسلمين، ومشاركته معهم في المعارك التي يخوضونها ضد أعداء الله.

تقول بعض الروايات: إن عليَّ بن أبي طالب أخذ بلجام ناقته، وقال له: “عد يا خليفة رسول الله صلى الله عليه  وسلم فوالله إن أُصبنا فيك؛ فلن تكون للإسلام قائمة بعدك”.

هكذا قال علي لأبي بكر؛ فأين هذا مما يدعيه البعض من عدم مبايعة علي لأبي بكر، ومن موقف علي من أبي بكر؟!

إن ما يذكره التاريخ كثير من مواقف البطولة والعظمة، ولكنا نرى أن هؤلاء الذين يريدون أن يتتبعوا الروايات التاريخية؛ ليأخذوا ما يعضد آراءهم المريضة وأفكارهم السفيهة في النيل من الإسلام، ورسول الإسلام، وصحابة رسول الله صلى الله عليه  وسلم هم كثر، ويريدون أن يحدثوا مثل هذه الزعزعة عن طريق الروايات التاريخية؛ بالرغم من أن الروايات التاريخية مليئة بما يؤيد هذه المواقف العظيمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

نزل الصديق بمن معه من المقاتلين على أهل الربذة بالأبرق، وكانت هناك جماعة من بني عبس وذبيان وطائفة من بني كنانة، وحدث لقاء آخر بين قوى الردة وبين المسلمين وكتب الله النصر للمسلمين وهزمت قوى الردة؛ فطارت عبس وبنو بكر وذبيان وأقام أبو بكر على الأبرق أيامًا وغلب على هذه البلاد، وقال: “حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد”، واعتبر الصديق أن هذه الغنيمة كانت لصالح المسلمين، فجعلها حمًى لخيول المسلمين، ورعيًا لسائر المسلمين.

ومن المعروف أن عبسًا وذبيانَ عندما فروا صاروا إلى مؤازرة طليحة، ولكن تتابعت الأحداث مع طليحة الأسدي حتى أسلم، وعاد للإسلام مرة أخرى.

ب. بنو تميم ومالك بن نويرة:

دخل بنو تميم الإسلام، وهم من القبائل المنتشرة بين اليمامة ومصب الفرات، وكانت بعض فروع بني تميم تدين بأديان مختلفة؛ فبعضها يدين بالنصرانية، وبعضها على الوثنية، هكذا كان أمرهم. ولكن الذي حدث أنهم كلهم دخلوا في الإسلام مع الداخلين في أواخر أيام رسول صلى الله عليه  وسلم، ومن ثم أمَّر عليهم رسول الله صلى الله عليه  وسلم أمراءً مِن أهم البطون المعروفة منهم، مثل: قيس بن عاصم، ومثل وكيع بن مالك بن نويرة.

وبعد أن انتقل رسول الله صلى الله عليه  وسلم إلى الرفيق الأعلى؛ بقي منهم من بقي على إسلامه، ومنهم مَن ارتد، وكانت الردة تتمثل في منع الزكاة، ولكن بعض رؤساء بني تميم أقر بالزكاة وأتى طائعًا، وقدَّم الزكاةَ الواجبةَ عليه لأبي بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

في هذه الأثناء ظهرت امرأة تدعى “سجاحًا” وادعت النبوةَ، ودعت لمهاجمة مدينة رسول الله صلى الله عليه  وسلم والاستيلاء عليها، وناصرها أحد بني يربوع -وهو مالك بن نويرة، وهو يعد أيضًا زعيمًا من زعماء بني تميم- وهذه المرأة كانت قد هاجرت مع أسرتها من بلاد العرب إلى بني تغلب، ولما انتقل الرسول صلى الله عليه  وسلم إلى الرفيق الأعلى ادعت النبوة؛ طمعًا في السيطرة على ما كان لرسول الله صلى الله عليه  وسلم.

وقررت هذه المرأة أن تذهب إلى اليمامة وأن تتعاون مع مسيلمة الكذاب، وتذكر المصادر أنها كانت لها مقولات أيضًا تشبه سجع الكهان.

قالت لجندها:

دفوا دفيف الحمامة

فإنها غزوة صرامة

لا تلحقكم فيها ملامة

واتجهت إلى مسيلمة الكذاب.

والذي رأته هنا هذه المرأة في مسيلمة أنه مزاحم خطير لها، في الوقت نفسه رأى فيها مسيلمة أيضًَا قوة خطيرة قد تضعضع من وجوده في الوقت الذي يتعرض هو فيه لإمكانية مجيء جيوش المسلمين لحربه، ومن ثم وجد كل واحد منهم في الآخر ضالته، ووجدَا أنه من الأصلح أن يوجها جهودهما ضد الإسلام والمسلمين.

استأمن مسيلمة هذه المرأة على نفسه، وبدلًا من أن يَدخل معها في نزاع رأى أن من الأفضل أن يتعاون معها.

تقول الروايات: إنه أقام معها ثلاثة أيام إلا أنها تركته وانصرفت إلى الجزيرة.

في هذه الأثناء توجه خالد بن الوليد رضي الله  عنه إلى بني تميم، وانتشرت جنوده في بني يربوع، ودعاهم بداعية الإسلام، وجاءت جيوش خالد بن الوليد بمالك بن نويرة أسيرًا مقبوضًا عليه.

كذلك كان معه نفر من بني يربوع. واختلفت الأقوال: هل أذنوا أم لم يأذنوا، إلى آخر هذه الأفكار، ورأى خالد أن يؤجل النظر في هذا الأمر حتى الصباح.

ورحمة من خالد بهؤلاء الأسرى، قال لهم: “أدفئوا أسراكم”، هذه العبارة في لغة قبيلة كنانة كان معناها القتل؛ فما كان من الحراس إلا أنهم قتلوا هؤلاء الأسرى من بني يربوع، ومنهم مالك بن نويرة؛ لأنهم لم يفهموا الغرضَ من عبارة خالد، وبالطبع حدث نقاش طويل وكثير حول هذا الموضوع، زاد هذا النقاش حدة أن خالد بن الوليد تزوج بليلى زوجة مالك بعد قتله له.

وكثر الحديث، وكان للاستشراق والمستشرقين دورهم، وكان من الشرقيين الذين يسيرون على نهجهم أيضًا دورهم في هذه الاتهامات التي ألقيت على خالد بن الوليد، فتزعم بعض الروايات: أن ليلى ألقت بنفسها على قدمي خالد لَمَّا عرفت أنه سوف يقتل زوجها؛ فانسدل شعرها وبان وجهها، فنظر إليها خالد فأعجب بها، وهدته نفسه إلى تنفيذ قتل مالك حتى يتمكن من الارتباط بها!!

أحد الصحابة الذين كانوا متواجدين في هذا الجيش وهو أبو قتادة الأنصاري، ترك الجيش وتحرك إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه  وسلم وقص على أبي بكر الصديق ما حدث من أمر خالد مع مالك بن نويرة، وزواج خالد من ليلى بعد قتل مالك.

جزع أبو بكر الصديق من هذا الكلام، خاصة وأن ما ذكر فيه شيء خطير، ولكن أبا بكر الصديق سأل أبا قتادة سؤالًا مهمًّا: “هل استأذنت قائدك؟ قال: لا”.

وهنا غَضِبَ الصديق، ورأى أن هذا خطأ جسيم، فأمر أبا قتادة بالعودة مرة أخرى، وأرسل أبو بكر الصديق إلى خالد مَن يحضره، وجاء خالد بن الوليد إلى الصديق ليخبره كيف وقعت هذه الأحداث؟ وحتى يتبين الصديق حقيقة ما جرى.

تذكر الروايات: أن خالدًا عندما جاء دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه  وسلم وعليه درعه وقد صدأت من القتال، ووضع في عمامته بعضًا من النبال والسهام التي تُستعمل في الحرب؛ فأخذها الفاروق عمر وكسرها، وعاتبه عتابًا شديدًا على ما صنع؛ فما رد خالد اعتقادًا من أن رأي عمر من رأي الصديق.

وعندما دخل خالد على أبي بكر ناقشه أبو بكر فيما حدث، فبيَّن خالد شبهته فيما وقع هناك، وبيَّن خالد أن ما استشعره من مالك بن نويرة أنه لا يعترف بحق الزكاة، فقال خالد أنه قال لمالك: “أما علمتَ أن الصلاة والزكاة لا تقبل واحدة منهما دون الأخرى؟ فلا بد للمسلم الإيمان بهما”، فقال مالك لخالد: وهل كان صاحبك يقول ذلك؟ -يقصد رسول الله صلى الله عليه  وسلم فقال له خالد: “أو ما تراه لك بصاحب؟ والله لقد هممت أن أضرب عنقه”. واستمر الحوار الذي يفيد أن مالكًا تحلل من صحبة رسول الله صلى الله عليه  وسلم.

ونقول: إن عمر بن الخطاب غضب من خالد واشتد في لوم خالد، ورأى أن يُقتص من خالد، وهنا رد عليه الصديق، وقال له: “هيه يا عمر، تأوَّلَ خالد فأخطأ؛ فَارْفَعْ لسانك عنه”.

اعتذر خالد مما قد يكون قد وقع فيه، ودفع أبو بكر دية مالك من ماله؛ تحقيقًا لقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92].

هناك عدة ملاحظات على هذه الأحداث:

الأولى: لو أنَّ مالكًا كان على إسلامه؛ هل كان يمكن أن يحدث مثل هذا النقاش؟! وهل كان يمكن أن يحدث مثل هذا الخلاف؟! وهل يمكن أن تصل الأمور إلى حد قتل مالك بن نويرة؟! لا يمكن أن يكون شيء من ذلك قد حدث.

الثانية: أما بالنسبة لزواج خالد من ليلى؛ ففي حد ذاته شرعًا لا شيءَ فيه؛ فالعرب كان ينكرون الزواج في الحروب، والشريعة الإسلامية لا تمنع ذلك، والشيء الأهم أن ليلى هذه زوجة مالك بن نويرة، ومالك هذا من سادات بني تميم ومن سادات بني يربوع، وكان الأجدر والأحرى أن تكون سيدة مصانة؛ فهل أخطأ خالد عندما أخذها من السبي واشتراها وأعتقها وتزوجها، فصارت زوجة لخالد بن الوليد بدلًا من أن تكون سبيةً بين أيادي الناس؟!

هذا الأمر صنعه خالد إكرامًا لها، وتعزيزًا لها، ورفعًا من قدرها وشأنها، وهي مَن هي في بني يربوع.

إنَّ مثل هذه الأفكار ذكرها الكثير من المفكرين الإسلاميين، وهو رد على مَن أرادوا أن يطعنوا في خالد بن الوليد وفي موقف خالد بن الوليد. كذلك تذكر الروايات: أنه لم يتزوجها إلا بعد قضاء عدتها وبعد شرائها وبعد عتقها.

ويؤكد سلامة موقف خالد أن عمر بن الخطاب كان قد قابل متمم بن نويرة أخا مالك، وشرع يرثي أخاه، فقال: “ليتني أقول الشعر لأرثي زيد بن الخطاب كما ترثي أخاك”.

فقال له: لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته، فوجد عمر أن هذا العزاء عزاء عظيم في أخيه -زيد بن الخطاب- لأنه مات على الإسلام، وعلى الشهادة والجهاد في سبيل الله، وهذا قدح صريح من أخو مالك بن نويرة فيه.

فكل هذه النقاط تؤكد على أن مالكًا لم يكن في جبهة الحق ولم يكن على الحق، وأنه كان بعيدًا عن هذه الوجهة الصحيحة والسليمة.

الثالثة: أنه لولا لم يكن خالدٌ بريئًا من كل ما نسب إليه، لَمَا تركه أبو بكر، ولما قال لعمر رضي الله  عنه: “هيه يا عمر، تأول خالد فأخطأ، فارفع لسانك عنه”. وهل يظن أحد أن أبا بكر الصديق يجامل في حد من حدود الله، وهو مَن هو إنه خليفةُ رسول الله صلى الله عليه  وسلم وخير من طلعت عليه الشمس بعد الأنبياء، وسيرته معلومة للجميع؟!

الرابعة: مَن يريد أن يقدح في خالد بن الوليد خاب ظنه في هذا المجاهد العظيم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه  وسلم: “سيف الله المسلول”، والذي كانت له مواقفه العظيمة في حياة رسول الله صلى الله عليه  وسلم ثم بعد ذلك في حياة الصديق، والذي قَبِلَ في لحظة واحدة التنازل عن قيادة جيوش المسلمين بمجرد أن تولى عمر بن الخطاب أمر الخلافة بعد وفاة الصديق رضي الله  عنه وأمر بعزل خالد، فلم يتردد لحظة، وصار جنديًّا عاديًّا من جنود الإسلام، هل هذه الشخصية يمكن أن تُتهم بمثل هذه الاتهامات؟!.

الخامسة: أن عمر رضي الله  عنه الذي طلب من أبي بكر أن ينفذ القصاص في خالد، لماذا لم يقم هو بعد ذلك بتنفيذ القصاص في خالد عندما آلت الأمور إليه؟! لو لم تتضح هذه الشبه في نفس عمر، ولو لم تُزال هذه الشبه من نفس عمر، ويقتنع اقتناعًا كاملًا ومطلقًا ببراءة خالد بن الوليد مِمَّا نُسب إليه، ومِن أن تصرفه كان تصرفًا سليمًا حكيمًا، وحتى لو حدث أمر القتل بصورة خطأ؛ فقد دُفعت الدية الواجبة على هذا الأمر وانتهى الأمر؛ لأنه لو كانت هناك أي نقاط أخرى في نفس عمر ما تركها عمر رضي الله  عنه إطلاقًا عندما آلت الخلافة إليه.

السادسة: كذلك نريد أن نعلق على أن الصديق رضي الله  عنه لم يعزل خالد بن الوليد بالرغم من هذه الأحداث؛ لكنه استمع إليه واقتنع ببراءته، ومن ثم لم يعزله.

وهنا نذكر ذلك الموقف الذي حدث قديمًا في حياة رسول الله صلى الله عليه  وسلم، عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه  وسلم خالدًا إلى بني جذيمة، وحدث أمر قتل لبعض بني جذيمة، وكان هذا القتل بطريق الخطأ أيضًا، فدفع رسول الله صلى الله عليه  وسلم ديات هؤلاء القتلى، وتقول الروايات: حتى ميلغة الكلب، ثم رفع رسول الله صلى الله عليه  وسلم يديه إلى السماء وقال: ((اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، وكررها ثلاثًا))، ولكن رسول الله صلى الله عليه  وسلم دفع ديات هؤلاء القتلى، ولم يعزل خالدًا عن قيادة الجيش، واقتنع ببراءة خالد أيضًا، واعتبر أن هذا القتل كان قتلًا خطأً، وهكذا كان تصرف الصديق مع خالد بن الوليد في هذه القصة وفي هذا الموقف.

error: النص محمي !!