Top
Image Alt

خصائص التدوين التاريخي في القرنين الثاني والثالث الهجريين

  /  خصائص التدوين التاريخي في القرنين الثاني والثالث الهجريين

خصائص التدوين التاريخي في القرنين الثاني والثالث الهجريين

أولًا: الإسناد:

بداية نستطيع القول: بأن أهل السلف كان لهم منهجهم في الرواية، وأنهم وضعوا قواعد عامة لعلم الرواية والمعرفة النقلية، هذه القواعد لم تبدأ بنفس الصورة التي انتهت إليها؛ لأنها تبلورت مع مرور الأيام ومع الممارسة العملية الفعلية على أرض الواقع، ومن ثم نشأت مجموعة من العلوم والمعارف مثل: مصطلح الحديث، والجرح والتعديل، وتاريخ الرجال، ونقد المتن، ونقد السند… إلى آخر كل هذا.

لقد مر علماء السلف بخطوات لمنهج توثيق الرواية.

ففي أول الأمر كان هناك نوع من الخلط فكانت توثيق الرواية يشمل الرواية، سواء كانت حديثًا من أحاديث رسول الله صلى الله عليه  وسلم أو رواية من روايات الأخبار المعروفة -الأحداث التاريخية، فهذه المرحلة كانت تجمع بين الأمرين.

فإذا نظرنا إلى خطوات منهج توثيق الرواية سنجد:

النقطة الأولى: التحري والتثبت في الرواية.

النقطة الثانية: التزام الإسناد واعتماده.

النقطة الثالثة: معرفة الرجال، والكشف عن حالهم جرحًا وتعديلًا.

النقطة الرابعة: استعمال النقد للمتن وللأسانيد.

وهنا لا بد أن نلفت النظر إلى أن باقي العلوم العربية والإسلامية استفادت من هذا المنهج، وأهم علم استفاد من هذا المنهج هو علم التاريخ… وأخذ من هذا المنهج بعض أفكاره واستعملها، ومن ثم استفاد التاريخ مما وضعه علماء السلف من أجل توثيق الرواية عامة، وهذه الأربع نقاط في الأصل وضعت للتدقيق في موضوع توثيق الرواية عند السلف، وبالأخص في موضوع الحديث وعلومه، ولكن التاريخ استفاد بما ورد فيها؛ ولكنه لا يستطيع أن يلتزم هذا المنهج تمامًا؛ لأنَّ علم التاريخ يختلف عن علم الحديث، وهذا أمر طبيعي لا يستطيع أن ينكره أحد.

هناك فرق رئيس بين علم التاريخ وعلم الحديث: ومن الطبيعي أن يترتب على هذا الفرق أمور أخرى؛ فممَّا ينبغي ملاحظته: أنَّ هناك اختلافًا بين طبيعة التأليف في المادتين التاريخ والحديث؛ ففي تأليف كتب الحديث يمكن ذكر حديثين في محل واحد مع أنه لا صلة بينهما من ناحية الموضوع، دون أن يشعر الباحث بأي شيء من الارتباك، وهذا الأمر مشاهد في الكتب التي رتبت على مسانيد الصحابة كما في (مسند أحمد)، هذا بالنسبة لعلم الحديث.

هذا الوضع يختلف اختلافًا كبيرًا وتامًّا مع كتب التاريخ؛ حيث يتطلب الأمر ملاحظة الترتيب الموضوعي والترتيب الزمني؛ فتسلسل الحوادث وتتابعها في نسق واحد يشكل أهمية كبيرة في بناء الفكرة التاريخية؛ مما جعل بعض المؤرخين يترك الالتزام بالإسناد؛ بل وبعضهم يستعمل ما يمكن أن يعبر عنه بالإسناد الجمعي كل هذا للفرق بين علم التاريخ وعلم الحديث: علم التاريخ يحتاج رواية متصلة الأحداث ويعرف أولها وآخرها، وتعرف السنين التي حدثت فيها هذه الأحداث… الفصل بين أحداث الرواية غير صحي بالنسبة للحدث التاريخي؛ ولذلك كان التاريخ كان في حاجة لأن يذكر متصلًا.

كيف عالج علماء الإسلام موضوع الإسناد؟

والإسناد هو مجموعة الرواة الذين يذكرون الحدث، فإذا توقفت عند كل حدث وقلت: إن الرواة الذين رووا هذا الحدث: هم فلان عن فلان عن فلان، وأذكر الحدث البسيط، ثم أنتقل إلى حدث آخر وأقول: إن هذا الحدث نقله فلان عن فلان عن فلان… وهكذا سوف تتقطع الفكرة التاريخية، ولم نحصل على فكرة تاريخية متصلة عن الحدث التاريخي!.

إن علماء التاريخ كانت لهم مجموعة من الحلول:

الحل الأول: أن يترك الإسناد تمامًا؛ حتى يذكر القصة التاريخية متصلة.

الحل الثاني: وهو موضوع الإسناد الجمعي.

ما الإسناد الجمعي؟

هو أن يأخذ الكاتب مجموعة من الروايات التاريخية، كل رواية رواها مجموعة من الرواة، ثم يدمج بعضَها في بعض ويسوقها مساقًا واحدًا بعد أن يذكر كل هؤلاء الرواة، الذين ذكروا هذه الروايات المتناثرة.

الحل الثالث: الإسناد في بعض القضايا دون بعض: قضايا يستعمل معها الإسناد وقضايا أخرى لا يستعمل معها الإسناد، كما كان بعضهم يحذف جزءًا من الإسناد، وينقل مباشرة عن المصدر الأول، هو لا يعنيه سوى من ذكر الرواية أساسًا؛ فيذكره أما من هو دون ذلك لا يتعرض له من حيث سلسلة الإسناد.

والحاصل أنَّ كتب غير الحديث تختلف في صياغتها، وترتيبها عن كتب الحديث التي هي عبارة عن ضبط النصوص عن الأقوال والأفعال النبوية لما يتعلق بهذا الضبط من الأمور التشريعية، التي تقوم عليها حياة الأمة المسلمة؛ لكن الأمر يختلف مع كتب التاريخ والقصص والأخبار، فهي تحتاج إلى السرد الموضوعي، كما تحتاج إلى استمرار الحوادث في نسق تاريخي متتابع بعضه وراء بعض؛ كي تتكامل الصورة التاريخية عن موضوع البحث.

وعلى ذلك: إن كان ذكر السند يساعد على التحقق من صحة الرواية، ويعتبر عنصرًا مهمًّا في النقد التاريخي، فإنَّ الحفاظ عليه كان من الأمور المهمة؛ ولذلك حافظ عليه العلماء الأعلام الذين قاموا بالجمع والتدوين، سواء في السيرة النبوية أم في بقية الأخبار التاريخية.

وهناك من العلماء من التزم بموضوع الإسناد، نجد هذا مثلًا عند الطبري، وعند خليفة بن خياط، وعند الزهري، وعروة بن الزبير… كثيرين من هؤلاء الرواة التزموا موضوع الإسناد وساروا على نهجه ولم يتخلوا عنه، ومن ثم تركوا لنا أحداثًا تاريخية موثقة بذكر الإسناد الذي يخصها والرواة الذين رووها.

ثانيًا: البساطة في التأليف، والبعد عن الإنشاء، والنظرة الواقعية الصريحة:

وإذا كان هذا الحديث يدور عن الإسناد باعتباره ملمحًا مهمًّا من ملامح وخصائص التدوين التاريخي في القرنين الثاني والثالث الهجريين؛ فإننا يمكن أن نضيف إلى تلك الخصائص والسمات أمرًا آخر هو ما عرف عن عملية خصائص التدوين التاريخي في القرنين الثاني والثالث الهجريين: البساطة في التأليف والبعد عن الإنشاء والنظرة الواقعية الصريحة:

والأهم من كل ذلك -من وجهة نظري: البعد عن المبالغة، تلك السمة التي ستبدو واضحة في كتابات الأجيال التالية لهم، ووصل الأمر بهؤلاء في التزامهم بهذا المنهج الصادق في نقل الخبر، والنظرة الموضوعية؛ حتى لأفعال الرسول القائد صلى الله عليه  وسلم، حيث نجد أنَّ أفعال الرسول صلى الله عليه  وسلم تعرض أحيانًا على أنها موحى بها، وقد تعرض على أنها مجرد تدابير بشرية عملية من قائد هذه الدعوة، عندما دعته الظروف إلى ذلك دون تدخل من الوحي.

هذه النظرة الموضوعية وعدم المبالغة: تلك النظرة التي لو عرضت على كثير من المسلمين اليوم لرفضوها؛ نظرًا لما ملئت به كتب التاريخ من افتراءات ومبالغات وتهويل،.

وهي بعيدة عن منهج السلف في الكتابة أو النقل أو النقد؛ ومن ثم فإن التزام المنهج على يد هؤلاء المؤرخين -وبالرغم من قلة إنتاجهم، الذي نجده منثورًا في كتابات ابن إسحاق والطبري وغيرهم هنا أو هناك- هو الذي يمكن أن يعطي الصورة الصادقة الحقيقية والواقعية عن هذا الدين العظيم، ورسوله الأمين في نطاق من عالمية هذا الدين وبشرية هذا الرسول صلى الله عليه  وسلم.

ولا يخفى أن الكتابات التاريخية قد تطورت بعد ذلك، وأصبحت تتخذ شكلًا خاصًّا بها وإن كانت تعتمد على بعض أسس من منهج المحدثين؛ ولكنه أصبح خاصًّا بالمؤرخين، نستطيع أن نجد هذا في كتابات ابن قتيبة الذي توفي عام ستة وسبعين بعد المائة الثانية الهجرية، وفي كتابات محمد بن جرير الطبري، الذي توفي في العام العاشر بعد المائة الثالثة الهجرية.

ثالثًا: استقرار هيكل تاريخ السيرة بصورة نهائية:

وفي خلال القرن الثاني الهجري استقر هيكل تاريخ السيرة بصورة نهائية، وأصبحنا نرى تواريخ السيرة التالية تتبع نفس الخطة وتسير على نفس المنهج ونفس نسق السابقين وخطاهم.

كذلك نستطيع أن نضيف: أنَّ العناية بالحديث أدت إلى العناية بالدراسات التاريخية، ومن ثم لما توسع الحديث؛ ليشمل فعاليات الصحابة وأقوالهم والتابعين وتجارب الأمة والإجماع خاصة -كل هذه الأمور أصبحت مصدرًا في التشريع- توسعت الدراسات التاريخية لتشملها، كذلك كان للقضايا السياسية مثل الخلافة أثرها في نواحٍ تاريخية معينة.

رابعًا: دراسة السيرة وكتابة تاريخ عالمي يمثل تاريخ الأمة:

وكذلك نستطيع أن نضيف لما سبق أنه ظهرت نظرات تاريخية مع المبادئ الإسلامية، تتمثل في دراسة السيرة وفي كتابة تاريخ عالمي يمثل تاريخ الأمة.

كذلك أريد أن ألفت الأنظار إلى أن الاتجاه الثاني للكتابة التاريخية -والذي تحمل مسئوليته بلدين شهيرين البصرة والكوفة، وهو الاتجاه الذي كان يهتم بموضوع الأنساب وموضوع الأيام وخلافه- تطور هذا الاتجاه أيضًا من عملية استمرار الاهتمام بالمآثر والأنساب القبلية.

وأضافت الفتوحات مآثر وأمجادًا جديدة إلى الموضوعات القبلية، وسرعان ما ظهرت عصبيات جديدة مثل: العصبية المحلية للمكان والاعتزاز بها لدى القبائل التي تسكن هذا المكان، ويلاحظ أن الأمويين شجعوا مثل هذه الدراسات؛ فكانت ضرورة للثقافة الحسنة في العصر الأموي.

خامسًا: مشاركة النسابين، ومشاركة اللغويين، ومشاركة الشعراء في الكتابة التاريخية:

كذلك يلاحظ أنه من بين خصائص هذه المرحلة كان موضوع مشاركة النسابين، ومشاركة اللغويين، ومشاركة الشعراء، كل هذا كان له دوره في موضوع الكتابة التاريخية. ونستطيع أن نركز القول شيئًا ما في موضوع القرن الثالث الهجري؛ لأننا نجد أن الاتجاهين التاريخيين – اتجاه المدينة، واتجاه الكوفة والبصرة- أصبحا يلتقيان في حقول مشتركة للدراسات التاريخية في أثناء القرن الثالث الهجري، وفي آراء تاريخية مشتركة.

سادسًا: وجود مادة تاريخية واسعة على مستويات مختلفة من الدقة…

كذلك أنتجت الدراسات التاريخية المارة الذكر مادة تاريخية واسعة على مستويات مختلفة من الدقة؛ كما أن الاتجاه نحو استعمال أسلوب المحدثين في النقد ازداد قوة واستقر في العراق، وظهر الحماس للرحلة في طلب العلم لغرض الدراسة، ولجمع أكثر ما يمكن جمعه من المعلومات، وقد بدأ المحدثون في هذا المنهج وتابعهم بعد ذلك المؤرخون.

سابعًا: الشعور بأهمية الخبرة المتجمعة لدى الأمة وبأهمية الإجماع على نطاق واسع، تركز أكثر من قبل نتيجة التطورات الثقافية ووجد عناية خاصة.

ثامنًا: ظهور المبادئ والاتجاهات الإسلامية على السطح بصورة حاسمة، وعلوها على الاتجاهات القبلية في المجتمع.

كل هذه الظروف والعوامل والخصائص أثرت في موضوع نطاق الدراسات التاريخية، وعلى النظرة إلى كتابة التاريخ.

error: النص محمي !!