Top
Image Alt

خصائص الشعر العباسي في الخيال والموسيقى

  /  خصائص الشعر العباسي في الخيال والموسيقى

خصائص الشعر العباسي في الخيال والموسيقى

. السمات والخصائص الفنية للشعر العباسي في الخيال:

كان الخيال في الشعر العباسي خيالًا محلقًا مبتكرًا، أفاد من مظاهر التقدم والحضارة والرفاهية في هذا المجتمع، ومن المرئيات الجديدة التي لم يكن للناس عهد بها قبل العصر العباسي، مثل: النباتات والزهور، والحدائق الغناء، والقصور الفاخرة، والبرك، وحمامات السباحة،… وغير ذلك من المشاهد التي لم تكن معروفة في الحياة البدوية، ومن شأن ذلك كله أن يُفسح المجال للخيال فيبدع.

ولقد تجلى ذلك في وصف الشعراء لهذه المرئيات الجديدة، ومن ذلك قول ابن الرومي في تفضيل النرجس على الورد يقول:

خَجِلتْ خُدودُ الوردِ مِن تفضيله

*خجلًا تَورُّدُها عليه شاهدُ

لم يخجل الورد المورّد لونه

*إلا وناحِلُه الفضيلةَ عاندُ

للنرجس الفضلُ المبينُ وإن أبى

*آبٍ وحاد عن الطريقة حائد

فصْلُ القضية أن هذا قائد

*زهرَ الربيع وأن هذا طاردُ

شتَّان بين اثنين هذا مُوعدٌ

*بتسلب الدنيا وهذا واعدُ

وإذا احْتَفَظْتَ به فأمتَعُ صاحبٍ

*بحياته لو أن حيًَّا خالدُ

يحكي مصابيحَ السماء وتارةً

*يحكي مصابيح الوجوه تَراصَدُ

يَنْهى النديم عن القبيح بلحظِه

*وعلى المدامة والسماع يُساعدُ

ثم يقول:

هذي النجوم هي التي ربَّتهما

*بِحَيَا السحاب كما يُربي الوالدُ

فتأمل الاثنين مَنْ أدناهُما

*شَبَهًا بوالده فذاك الماجدُ

ولابن المعتز في وصف الزهر تشبيهات رائعة أثنى عليها عبد القاهر الجرجاني في باب التشبيه والتمثيل في كتابه (أسرار البلاغة)، ومن ذلك قوله في وصف البنفسج:

وَلازَوَردِيَّةٍ تَزهو بِزُرقَتِها بَينَ

*الرِياضِ عَلى حُمرِ اليَواقيتِ

كأنها فوق قاماتٍ ضعفن بها

*أوائلُ النَّار في أطرافِ كِبْريتِ

ومنه قوله في النرجس:

عُيونٌ إِذا عايَنتَها فَكَأَنَّما

*وقوع النَدى مِن فَوقِ أَجفانِها دُرُّ

محاجرها بيضٌ وَأَحداقُها صُفرٌ

*وأجسادها خُضرُ وَأَنفاسُها عِطرُ

ومن هذا القبيل أيضًا، وصف البُحتري لبركة المتوكل، وفيه يقول:

كَأَنَّ جِنَّ سُلَيمانَ الَّذينَ وَلوا

*إِبداعَها فَأَدَقّوا في مَعانيها

فَلَو تَمُرُّ بِها بَلقيسُ عَن عُرُضٍ

*قالَت هِيَ الصَرحُ تَمثيلًا وَتَشبيها

تنصب فيها وُفودُ الماءِ مُعجَلَةً

*كَالخَيلِ خارِجَةً مِن حَبلِ مُجريها

كَأَنَّما الفِضَّةُ البَيضاءُ سائِلَةً

*مِنَ السَبائِكِ تَجري في مَجاريها

إِذا عَلَتها الصَبا أَبدَت لَها حُبُكًا

*مِثلَ الجَواشِنِ مَصقولًا حَواشيها

فَحاجب الشَمسِ أَحيانًا يُضاحِكُها

*وَرَيِّقُ الغَيثِ أَحيانًا يُباكيها

إِذا النُجومُ تَراءَت في جَوانِبُها

*لـَيلًا حَسِبتَ سَماءً رُكِّبَت فيها

وهذا وصف رائع، الذي أمد به الشاعر هو الخيال الخصب الرائع.

2. السمات والخصائص الفنية للشعر العباسي في الأوزان والقوافي:

كان للغناء، وتنوع أنغامه، وشيوعه وكثرته في العصر العباسي: أثر قوي في تطويع الشعر وأوزانه، والخروج بهذه الأوزان عما رسمه له الخليل بن أحمد من دوائر، وما حدد له من بحور، ويبدو أن اعتداد الشعراء الكبار من العباسيين بأذواقهم -كما يقول الدكتور عبد الرحمن عثمان -عليه رحمة الله- وغرامهم بمسايرة الذوق العام، جعلهم لا يلتزمون الموروث من الأوزان العربية، وحدا بهم إلى استحداث أوزان أخرى.

فإذا كان الخليل قد اهتدى بذكائه إلى ضبط علم العروض، واستنبطه من الشعر العربي القديم فإن هؤلاء -أي: الشعراء العباسيين- قد اهتدوا بأذواقهم الحضارية إلى موازين رأوا أنها تليق بتصاريف المجون، وتوائم النغم والموسيقى، وتنهض بحاجة الغناء والطرب.

ويضيف الدكتور عبد الرحمن عثمان -عليه رحمة الله- كلامًا نفيسًا في إجازة أن يستجيب الشاعر لنفسه؛ فيقول: “والشاعر له نغمه الذي يستثيره، ويُحب أن يتغنى به، وهو لهذا يكره أن يراد على نغم بعينه، ما دام مستجيبًا بحكم الضرورة إلى هواتف نفسه وألحان وجدانه، وهكذا كان الحال مع شعراء الجاهلية؛ حيث لم يكن هناك عروض أو بحور ينظمون عليها، وإنما هي الموسيقى النفسية التي كانوا يشدون على لحنها، وينشدون على رتابتها قصائدهم ومقطوعاتهم”.

يقول: “ولعلنا ندرك على ضوء هذا ذهاب أبي العتاهية بموهبته الخارقة حينما قال لمن يلومه على استحداث الأوزان: أنا أكبر من العروض”.

فإذًا أبو العتاهية رأى أنه أكبر من العروض. وأكبر من الضوابط التي وضعها أو استقاها الخليل بن أحمد، وأباح أبو العتاهية لنفسه أن يخترع أوزانًا جديدة؛ لكن لا بد أن يكون هذا الاختراع وهذا التجديد في إطار من القواعد، أيضًا فليس الخروج المطلق هو المقصود بالتجديد؛ فإن التجديد ينبغي أن يحفظ على الشعر موسيقاه التي تميزه عن النثر، فهذا هو الأساس الذي كان العباسيون يجددون في أوزان الشعر عليه، وتمثل تجديدهم في عكس دوائر البحور؛ فتولدت عندهم بحور أو أوزان جديدة؛ فجاءوا بالمستطيل وهو مقلوب بحر الطويل، ويجيء على “مفاعيل/ فعول/ مفاعيل/ فعول” مرتين. وجاءوا بالممتد وهو مقلوب المديد، وأجزاءه: “فاعل/ فاعلات/ فاعل/ فاعلات” مرتين. وجاءوا بالمتوافر وهو محول عن الرمل وتفاعيله: “فاعلات/ فاعلات/ فاعل” مرتين. وجاءوا بالمتئد، وجاءوا بالمنسرد، وجاءوا بالمطرد.

كما نظم المولّدون على أوزان اخترعوها، وأنماط من القافية ابتدعوها، كالشعر المزدوج وغيره، وأشهر هؤلاء: أبو نواس، وأبو العتاهية، ومسلم بن الوليد، وابن المعتز.

ومن أمثلة هذا التجديد مزدوجة أبو العتاهية في الحكم وقد جمع فيها أربعة آلاف مثل، منها قوله:

ما عَيشُ مَن آفَتُهُ بَقاؤُهُ

*نَغَّصَ عَيشًا كله فَناؤُهُ

ما زالَتِ الدُنيا لَنا دارَ أَذى

*مَمزوجَةَ الصَفوِ بِأَنواع القَذى

مَن لَكَ بَالمَحضِ وَلَيسَ مَحضُ

*يَخبُثُ بَعضٌ وَيَطيبُ بَعضُ

إنّ الشَباب حجة التَصابي

*رَوائِحُ الجَنَّةِ في الشَبابِ

وظهرت أشعار فيها ميل إلى استخدام العامية، أو ألفاظ من لغة العامة؛ لتناسب أذواق العامة من الناس، ولتصلح أيضًا للغناء لهم.

وعلى هذا النحو من التجديد والإضافة مضى الشعراء العباسيون في عناصر القصيدة كلها؛ لتكون هذه السمات أو الخصائص التي تميز بها الشعر في العصر العباسي في: أسلوبه، ومعانيه، وخياله، وألفاظه، وأوزانه وموسيقاه.

error: النص محمي !!