Top
Image Alt

خلاف العلماء في هبة الثواب

  /  خلاف العلماء في هبة الثواب

خلاف العلماء في هبة الثواب

الأصل في الهبة أنها من عقود التبرعات، أي: إنّ المَوهُوب له لا يعوِّض الواهب شيئًا عما وهبه له، وإنّ المِلك للشيء الموهوب يثبت للموهوب له في العين الموهوبة من غير عوض؛ إلّا أن الهبة قد تكون بعوض، وهي المسماة بعوض الثواب, وهذا العوض نوعان: عوض مشروط في العقد، وعوض غير مشروط في العقد.

أي: هناك عوض يُصرح بأنّ الإنسان يهب لشخص هبة بشرط أن يعوضه عنها شيئًا آخر، وهذا النوع يسمى الهبة المشروطة في العقد أو العوض المشروط في العقد.

والعوض غير المشروط بمعنى أن الواهب حينما وهب الهبة, لم يشترط على الموهوب له أن يعوِّضه، وإنّما الذي حدث أن الموهوب له عوّض الواهب شيئًا عن هبته بدون شرط؛ أي: جاء في وقت وردّ له شيئًا، ويقول له بعد الرّد أو أثناء الرد: هذا عوض عن هبتك, أو هذا في مقابل ما وهبتني إياه.

لكن الفرق بينه وبين النوع الأول: أنّ النّوع الأول كانَ لِعوض مَشْرُوط في العَقْد, يقول له: أهبك بشرط أن تعوضني عنه, أما النوع الثاني لم يكن فيه هذا الشرط، وإنّما الموهوب له هو الذي عوض من تلقاء نفسه، وقد يقول له: هذا بدل عن هبتك أو عوض عنها، وقد لا يقول ذلك.

أولًا: العوض المشروط في العَقد أو الهبة بشرط العوض أو هبة الثواب، وتكييف ذلك من الناحية الفقهية:

إذا صدرت الهبة من الواهب مقترنة بشرط العوض مقابل الشيء الموهوب -مثال ذلك: أن يقولَ الواهِبُ: وَهَبْتُك هذا الثوب على أن تعوضني عنه هذا القلم أو أي شيء آخر- فهل هذا الشرط صحيح؟

هناك قولان للفقهاء في حكم هذا الشرط:

القول الأول: يذهب إلى صحة هذا الشرط، وإلى صحة العقد الذي اشتمل على هذا الشرط، وقال بذلك الجمهور من الحنفية والمالكية والحنابلة في المذهب، وهو الأظهر عند الشافعية. واستدلوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الواهب أحق بهبته ما لم يُثَبْ منها)), أي: يأخذ عوضًا, وهذا هو هبة الثواب أي العوض.

القول الثاني: يَذْهَبُ إلى أنّ الشَّرط غيرُ صحيح، وهذا القول هو القولُ المُقابل للأظهر عند الشافعية، وقول للحنابلة, وبه قال داود الظاهري وأبو ثور، قالوا: هذا الشرط غير صحيح. وحُجّتُهم في هذا القول: أنّ لفظ الهبة يفيد التبرع، ومن التناقض أن يشترط فيها العوض، فالهبة عقد تبرع والواهب هنا يتناقض مع نفسه؛ لأنه يهب والهبة تبرع وفي نفس الوقت يشترط العوض, فكأن هذه الهبة -كما يقولون- تصيرُ مع الشرط من بيوع الغرر التي لا تجوز.

وقالوا: من بيوع الغرر؛ لأنه قال: هذه هبة بشرط أن ترد لي، والرد على غرر لأنّه رُبّما رَدّ أو لم يَرُدّ، ورُبّما رَدّ مثل ما أخذ أو لم يرد مثله، فهذا الشرط من قبيل بيوع الغرر التي لا تجوز في الفقه الإسلامي. هذين هما الرأيان في شرط العوض في هبة الثواب، أو في الهبة المعوض عنها.

واختلف الفقهاء في التكييف الفقهي للهبة بشرط العوض, على ثلاثة أقوال:

القول الأول: ذهب إليه الحنفية عدا زُفر، وهو قول أيضًا عند كل من الشافعية والحنابلة، وقالوا: إن الهبة بشرط العوض هي عقد هبة ابتداء, عقد بيع انتهاء، فتُطَبّق على هذا العقد أحكام الهبة قبل القبض، أي: قبل أن يقبضها الموهوب له تعتبر هبة إلى هذه اللحظة؛ لكن إذا تسلمها وقبضها الموهوب له، وقبل شرط العوض على أن يعوضه هنا تصِيرُ بيعًا انتهاء.

كأن الواهب سلّم سلعة, ولما قبضها الموهوب له على شرط التعويض، كأنها انقلبت إلى بيع في النهاية؛ لأنه كأنه سلم سلعة ويريد أن يقبض ثمنها. هذا معنى أن الهبة بشرط العوض عند هؤلاء تعتبر عقد هبة ابتداء, بيعًا انتهاء؛ فتطبق على هذا العقد أحكام الهبة قبل القبض.

ومعنى أنه تطبق أحكام الهبة قبل القبض: أنه لا تجوز هِبَةُ المَشَاع إلا إذا كان مفرزًا، ويشترط القبض, ولكل منهما -أي: الذي يشترط وهو الواهب، والشخص الآخر الذي قبل الشَّرط وانقلبت الهبة في النهاية إلى بيع- يجوز الرجوع في السلعتين قبل التّقابُض.

وكذلك لو قبض أحدهما ولم يقبض الآخر؛ أي: ما دامت السلعة في يد الواهب، وأقبضها للمَوهوب له؛ فلكل واحد منهما أن يرجع, القابض وغير القابض سواء إلا إذا تقابضا جميعًا؛ فإذا تقابض كلٌّ مِنْهُما -الواهب والموهوب له- فإن الهبة تكون بمنزلة البيع، ولكل منهما أن يتصرف كتصرف البائع والمبتاع.

والتصرف الذي يجوز لكل منهما, أن كلًّا من البائع والمشتري أو الواهب بشرط العوض والموهوب له الذي قبل أن يرد العوض أصبح بائعًا؛ فلكل منهما أن يَرُدّ بالعيبِ كما يرد في البيع، وأن يرد في حالة الاستحقاق إذا استحقت السلعة من أحدهما، وتجب الشُّفعة في العقار.

وفي نهاية المطاف, كل هذا يُؤَكّد أنّ تكييف هذا الفريق -الحنفية ما عدا زفر, والقول الذي عند الشافعية والحنابلة- لها بأنها عقد هبة في الابتداء وبيع في الانتهاء, أو أنها بيع في النهاية وكانت هبة في البداية.

وحجتهم أو دليلهم في تكييف هذا العَقد بأنه هبة ابتداء وبيع انتهاء، أنه وُجِدَ في هذا العقد لفظ الهبة ومعنى البيع؛ فكأنّه لما قال: وهبت لك بشرط أن تُعوضّني, فيعمل بالشبهين بقدر الإمكان. هذه حجة هذا الفريق.

فيعتبر لفظ هبة وفيه معنى البيع, فيه شبه بكل من الأمرين؛ فيعمل بالأمرين قدر الإمكان فيعمل فيه القبض فيعتبر القبض والحيازة عملًا بشبهة الهبة قبل أن يقبض الواهب العوض، ويَثْبُت حَقُّ الرَّد بالبيعِ بالعيبِ إذا تقابضا، ويكون حق الشفعة من كل منهما إذا تقابضا عملًا بِشُبهة البيعِ, فأعطيناه شبهة الهبة من هذه الزاوية التي قلناها، وأعطيناه شبهة البيع من جواز الرد بالعيب والعمل بالشفعة, فأعطيناه شفعة العقدين؛ لأنه وجد فيه لفظ الهبة ومعنى البيع، هذا تكييفه عند هذا الفريق.

القول الثاني: ذهب المالكية إلى أن هذا العقد يعتبر كالبيع في غالب الأحوال، وقالوا: في غالب الأحوال؛ لأنّه يُخالفه ويخالف البيع في الأقل منه؛ لأنّ هِبَة الثّواب تجوز مع جهل عوضها وجهل أجله.

فالمالكية قالوا: يجوز أن يُجْهَلَ العِوَض, بمعنى أنه لو قال له: وهبتك هذا الثوب بشرط أن ترد لي عوضًا عنه, فالمالكية يقولون: يجوز ذلك مع أن العوض هنا مجهول بعد قبول الموهوب له الرد، ويجوز جهل العوض بأن يقول له: سوف أرد لك البدل, لكن أين البدل؟ إنه مجهول أو غير معلوم, ومتى الرد؟ الأجل مجهول, فقالوا: هبة الثواب يجوز فيها جهل العوض وجهل الأجل، فهي تعتبر من هذه الزاوية خالفت البيع في الأقل، ولكنها كالبيع في غالب الأحوال.

فالمالكية قالوا: إنّها كالبيع في غالب الأحوال، وإن كانت تخالف البيع في الأقل منها، كجواز الجهل في عوضها أي: هبة الثواب، وجهل أجلها أي: الأجل الذي يَرُدّ الموهوب له عليه، أي: بعدما يأخذ الهبة من الواهب في بداية الأمر.

القول الثالث: ذهب إليه الشافعية في الصحيح وهو المذهب عند الحنابلة وزفر من الحنفية؛ لأن زفر خالف الحنفية, حيث قالوا: الهبة بشرط العوض بيع ابتداء وانتهاء، أي: خرجَت عن كونها هبة؛ فبِمُجَرّد أن يشترط الواهب على الموهوب له بقوله: أهبك هذا الشيء بشرط أن تعوضني عنه انقلبت إلى بيع, فصارت بيعًا ابتداء وانتهاء.

والعقد عند هؤلاء -الشافعية في الصحيح عندهم, والرأي الأرجح عند الحنابلة، وعند زفر من الحنفية- يعتبر بيعًا تثبت فيه أحكام البيع؛ فلا يَبْطُل بالشيوع، ويُفيد المِلْكَ بنفسه من غير شرط القبض الذي هو مشروط في الهبة، ويَلْتَزِمُ الموهوب له الذي انقلب إلى مشترٍ؛ لأنّه اشترى وسوف يرد الثمن، بدفع العوض المشروط وتطبق عليه أحكام البيع كلها، من الشفعة والخيار ونحو ذلك، قالوا: والسبب هو أن اشترط العوض صراحة يبطل الهبة.

هذه هي حُجّة هذا الفريق؛ قالوا: بمجرد أن قال: بشرط أن تََرُدّ لي العوض, صار لا يوجد هبة هنا، واشتراط العوض صراحة أبطل كونها هبة؛ لأنّه شَرطٌ مخالف لمقتضى العقد، أي: عقد الهبة، وحُجّة هذا القول عند زُفر أنه قال: إن معنى البيع موجود في العقد؛ لأن البيع عبارة عن تمليك العين بعوض وقد وجد, إلا أن العبارة قد اختلفت، واختلاف العبارة لا يوجب اختلاف الحكم لحصول البيع بلفظ التمليك؛ لأنه لو قال شخص: مَلّكْتُك هذا الشيء بثمن هو كذا جاز؛ فلَمّا لم يتكلم بلفظ البيع، وإنّما تكلم بلفظ التمليك، واختلاف العبارة هنا لا يوجب اختلاف الحكم، فلو قال شخص لآخر: مَلّكتك هذا الثوب بعشرة كذا، فكأنه قال له: بِعْتُك هذا الشيء بعشرة؛ لأنّ المضمون واحد، فاختلاف العبارة عند زفر لا يوجب اختلاف الحكم، وكذلك اختلاف الهبة المشروطة بالعوض لا يوجب اختلاف الحكم, فهذا بيع ابتداء وانتهاء.

حكم العوض غير المشروط, وتكييفه فقهيًّا:

الهبة إذا صدرت مُطلقة ومُجردة عن شرط التعويض؛ حيث إن الهِبَةُ عَقْدُ تبرع، فلو أنّ شخصًا أعطى لشخص وقال له: هذا الثوب هبة مني, وأطلق ولم يكن له شرط، فهل تقتضي الهبة المطلقة عن الشرط والمجردة عنه الإثابة والتعويض, أم لا تقتضي ذلك؟

اختلف الفقهاء في وجوب العوض عن الهبة المجردة عن ذكر العوض, على ثلاثة أقوال:

القول الأول: ذهب إليه الحنفية والشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة, حيث قالوا: إنّ الهِبَةَ المُطْلَقة لا تقتضي عوضًا؛ أي: إذا أعطى شخص شخصًا هبة فلا يعني هذا طلب المقابل؛ أي: لا تقتضي عوضًا, وقالوا بعدم وجوب العوض حتى وإنْ دَلّت قرينة الحال على قصد الثواب, أي: إرادة العوض، فلو دلت قالوا: لا يدل هذا على وجوب العوض؛ لأنها لا تقتضي ذلك.

فإذا أعطى الموهوب له للواهب عوضًا، وكان قد سلمه هبة بدون شرط، أو مطلقًا عن الشرط؛ كان هذا العوض هبة مبتدأة -هبة جديدة- إلا إذا قال الموهوب له: هذا عوض عن هبتك, فإذا قال له: هذا عوض عن هبتك أو بدلٌ منها؛ لم يصل هذا هُنا هبة مبتدأة، وإنّما يُعْتَبر تعويضًا عن الهبة.

والحنفية يقولون: لو أنّ الموهوب له دفع له عوضًا, فليس ذلك ممنوعًا بل هو جائز, مع أنهم قالوا: إن الهبة المطلقة لا تقتضي وجوب العوض, ولكن هذا الجواز مشروط بالشروط الآتية:

الأول: أنْ يُصَرّح الموهوب له بأنّ المَدْفُوع له إنّما هو عوض عن الهبة، بأن يقول له: هذا عوض عن هبتك؛ ونحو هذا. فلا بد من لفظ يدل على أن ما دفعه عوض يقابل المعوض وهو الهبة الأولى؛ فإذا لم يصرح بقصد العوضية كان هبة مبتدأة، والهبة المبتدأة هنا لها أحكامها؛ لكن رد العوض له أحكامه.

الشرط الثاني: ألّا يكون العوض هو ذات الشيء الموهوب؛ أي: لو وهب شخص لآخر شيئًا ثم قال له الموهوب له: خذ ما أعطيتني عوضًا عن هبتك؛ فكأنه رد له ما وهبه له، فهذا لا يصح ولا يكون عوضًا؛ لأنّ العوض في العقد سوف يكون مملوكًا بذات العقد الأول؛ أي: لم يحدث هنا عقدان، وهذا لا يجوز، بل لا بد أن يملك الشيء الموهوب وعوضه بعقدين مختلفين, بمعنى: أن يقول له هذا, أي: يعطيه الهبة، والثاني يقول له: وهذا عوض, فهما عقدان مختلفان.

الثالث: أيضًا إذا دفع الموهوب له عوضًا عن الموهوب، فهو غير ممنوع, بل جائز بشروط, من هذه الشروط أيضًا عند الحنفية: أن يسلم العوض للواهب، أي: لم يحدث استحقاق عليه… إلى آخره، فإن ظهر أنه مستحق لم يكن عوضًا، فبمجرد أن أمسك الموهوب له شيئًا وقال له: خذ هذا العوض, إذا بشخص ثالث يقول: هذا الشيء ملكي, في هذه الحالة وللواهب أن يرجع في هبته هنا؛ لأنّه ظهر أن العوض هنا لم يكن صحيحًا بل استحق. هذا قول الحنفية والشافعية، وقالوا: إن الهبة المطلقة لا تقتضي عوضًا.

القول الثاني: ذهب إليه المالكية والشافعي في مذهبه القديم, حيث قالوا بوجوب العوض إذا دل العرف وحال الواهب على قصد الثواب، مثل أن يهب الفقير للغني، أو لمن يرى من حاله أنه قصد بذلك الثواب، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنا نقبل الهدية, ونكافئ عليها)).

قالوا: إذا دل حال الواهب على قصد الثواب؛ فإن المالكية يقولون: يجب العوض إذا دل العوض على ذلك، بمعنى أنه لو تنازع الواهب فقال: أنا وهبتك ومنتظر الرد، والموهوب له لم ينتظر ذلك, فالقول هنا يكون للواهب مع أنه لم يصرح بذلك، ما دام العرف يشهد له أو لم يشهد له ولا عليه، وشهد العرف للموهوب له بأن مثل الواهب لا يطلب في هبته عوضًا.

القول الثالث -وهو قول عند الحنابلة: الهِبة المُطلقة تقتضي العوض, بدون أي تفسير, لا نظرًا إلى حال الواهب وإلى حال الموهوب، ولا غيره. قالوا: الهِبَةُ المُطلقة تقتضي العوض، وهذا مقابل رأي الحنفية الذين قالوا: الهبة المطلقة لا تقتضي العوض، ولا توجب عوضًا.

بم تكون الإثابة, أو الرّد عند القائلين بوجوبها؟

القول الأول: قال الإمام مالك والشافعي في القديم: ما دام حال الواهب يدل على أنه يريد الرّد، فتلزمه قيمة الهبة، بمعنى: أنها تقوّم بعشرة، فيعطيه ما قيمته عشرة.

القول الثاني: أن يرضي الواهب بأية طريقة كانت.

القول الثالث: أن يكافئ الواهب على ما جرت به العادة في تملك الهبة, أي: ما جرت عليه عادة الناس.

الرابع: تكون على أقل ما يقع عليه الاسم، أي: ما يمكن أن يصلح هبة.

التكييف الفقهي للعوض المتأخر, الذي كانت الهبة فيه مطلقة:

أصحاب القول الأول وهم الذين قالوا بأنّ الهِبَة المُطلقة لا تُوجِبُ العِوَض, يقولون: إنّ التّعويض المُتأخر عن الهبة المطلقة يعتبر هبة مبتدأة، وذلك بلا خلاف عندهم، وإنّ التّعويضَ يَصِحُّ بِمَا تَصِحُّ به الهبة، ويبطل بما تبطل به الهبة، ولا يُخالفها إلا في إسقاط حق الرجوع، بمعنى: أن حق الرجوع يثبت في الهبة الأولى ولا يثبت في الثانية؛ لأنها هبة مبتدأة.

فلا مخالفة بين الأمرين, التعويض الذي حدث، وكانت الهبة مطلقة أي: لم يشترط عليه عوض، ولكن أعطاه عوضًا, هذا التعويض يعتبر صحته بما تصح الهبة، وبطلانه بما تبطل به الهبة، ولا يختلف عن الهبة.

error: النص محمي !!