خيار الشرط
النوع الثاني من الخيار؛ هو: خيار الشرط:
وخيار الشرط معناه: أن يشترط العاقدان أو أحدهما في العقد خيار مدةٍ معلومةٍ، فخيار الشرط يثبت لأحد المتعاقدين أو لكليهما، يعني: إذا اشترط كل منهما شرطًا، فيثبت له خيار الشرط. أواشترطه أحدهما، فيثبت لمن اشترطه.
وبعض الفقهاء حصر هذه المدة، في ثلاثة أيام إذا وافقه البائع على ذلك، وبعضهم قد يزيد عنها، وفي ذلك نوعٌ من التفصيل.
أما سبب ثبوت خيار الشرط:فهو مستفاد من اسمه، لا يثبت إلا بالشرط، خلافًا لخيار المجلس، فخيارُ المجلس يثبته الشرع كحق للمتعاقدين، لكن خيار الشرط لا يثبت إلا إذا اشترطه أحد المتعاقدين، فيثبت لمن اشترطه، أو اشتراطاه؛ فيثبت لهما.
إذًا خيار الشرط مستفاد من اسمه، فلا يثبت إلا بالشرط خلافًا لخيار المجلس، فسبب ثبوته هو الشرط نفسه، سواء صدر من أحد المتعاقدين أم منهما معًا، فالشرط سببه، وأصل التركيب شرط الخيار، وعليه عبارة بعض الفقهاء، كالنووي في مجموعه: إنه في مجموعه يسميه شرط الخيار، وأما قولهم: خيار الشرط، فمن باب إضافة المسبب إلى السبب، فالشرط: هو المسبب، والخيار: هو الذي ترتب على هذا الشرط، أي: خيار سببُه الشرط.
و اختلف العلماء في ثبوته: فذهب جمهور الفقهاء من الأئمة الأربعة، ومَن وافقهم، إلى مشروعية خيار الشرط، واستدلوا على ذلك: بثبوته في السنة الصحيحة بصريح اللفظ، ومن ذلك:
ما رُوِيَ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يُخدَع في البيوع، فقال: ((إذا بايعتَ، فقل: لا خِلَابةَ))، والخلابة: هي الخديعة والغَبن.
إذًا فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي علمه أن يشترط هذا الشرطَ.
وزاد مسلم في رواياته، لهذا الحديث: “فكان -يعني: هذا الرجل- إذا بايع يقول: لا خلابة”. يعني: يقول الشرط الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى النووي، في: (المجموع)، عن يونس بن بُكير، قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رجلًا من الأنصار يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يزال يُغبن في البيع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذَا بايعتَ فقل: لا خلابةَ، ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاثَ ليالٍ، فإن رضيتَ فأمسِكْ، وإن سخطْتَ فَارْدد)).
هذا رأى جمهور العلماء؛ حيث يثبتون خيارَ الشرط بالشرط.
وذهب بعض الفقهاء، كالثوري، وابن شُبرمة، وطائفة من أهل الظاهر، إلى نفيه وعدم مشروعيته، فليس عندهم ما يسمَّى بخيار الشرط، وعمدتهم في ذلك، أنه نوع من الغرر، يعني: الذي لم يشترطه بالنسبة لمن اشترطه فيه غرر، لا يدري هل الشرط ينفذ أو لا ينفذ؟ فلا تتم الصفقة، ويكون الطرف الآخرُ على خطر، وأن الأصل في البيع اللزوم، فلماذا نسمح بالغرر؟ اللهم إلا أن يقوم دليل، على جواز البيع على الخيار من كتاب، أو سنة ثابتة، أو إجماع.
وحديث حِبان ابن منقذ؛ الرجل الذي شَكَا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يزال يُغبن، يُجاب عنه: بأنه إما غير صحيح، أو أنه خاص بحبان ابن منقذ هذا، فتكون واقعةَ عين.
وهذا القول مردود ولا اعتدادَ به بين الفقهاء؛ لأن الحديث ثابت والحمد لله، والزعم بأنه يشتمل على الغرر مردود؛ لأن الغرر ينتفي ما دامت مدة الخيار معلومة، وقولهم: الأصل في البيوع اللزوم، فهو مسلَّم، إلا أن خيار الشرط ثبت على خلاف هذا الأصل. والراجح هو قول الجمهور.
الحكمة في مشروعية هذا الاختيار:
أنه أعطَى صاحبَ هذا الشرط فرصة للتروي، وإعمال الفكر، واستشارة أهل الخبرة في مدة الخيار، حتى إذا ما وجد في إمضاء هذا العقد مصلحة أمضاه، وإلا فسخه.
أما مدة هذا الخيار ففي ذلك خلاف:
اتفق جمهور الفقهاء على أن هذا الخيار لا يجوز إلا إذا حُددت له مدة معلومة، فإذا أطلق الخيار دون تحديد مدة، كما إذا قال: على أني بالخيار، أو على أني بالخيار أبدًا، أو حددت له مدة مجهولة، كأن يقول: على أني بالخيار أيامًا، أو على أني بالخيار إلى أن يعودَ زيدٌ من سفره، كان شرطًا فاسدًا، يفسد به العقد من غير خلاف في ذلك، إلا ما رُوي عن بعض الفقهاء كالثوري، والحسن، وجماعة.
غير أن هؤلاء الفقهاء، قد اختلفوا في تحديد المدة على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: وهو مذهب الشافعي، وأبي حنيفة، وزفر، وذهبوا إلى أن خيار الشرط مدته ثلاثة أيام دون زيادة، واستدلوا على ذلك: بحديث حبان بن منقذ، وقد قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((وأنت بالخيار ثلاثة)).
وأشار القرآن الكريم، إلى أن مدة الإمهال قد تكون ثلاثةَ أيام، كما قال تعالى: {تَمَتّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ} [هود: 65]؛ ولأن الحاجة لا تدعو إلى أكثرَ من ذلك غالبًا، ثم إنه قد جاء تحديد الخيار بالثلاث أيضًا، في حديث المصراة، قال صلى الله عليه وسلم: ((مَن اشترى مصراةً، فهو بالخيار ثلاثة أيام)).
المذهب الثاني: وهو مذهب الإمام مالك، فقد ذهب إلى أن المدة ليس لها قدر محدود، وإنما تتقدر بقدر الحاجة، فهذه الحاجة قد تختلف من سلعة إلى أخرى، فبعض الأمور قد تحتاج إلى بعض يوم، وبعضها قد يحتاج إلى يوم، وبعضها قد يحتاج إلى اليوم واليومين، وأحيانًا الشهر… إلى آخره.
إذًا لا يجوز عند مالك الأجل الطويل، لكن يكون هناك أجل حسب السلعة، وهذا خاضع للعرف.
المذهب الثالث: هو مذهب أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، من الحنفية، وأحمد بن حنبل، فقد ذهبوا إلى أن المدة تكون على حسب ما اتفقَا عليه وإن طالت، حُكي ذلك عن ابن المنذر، وابن أبى ليلى وغيرهم، واستدلوا على ذلك ببعض الأدلة، منها، السنة:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم))، يعني: أيّ شرط اشترطوه ما دام تم عن رضا فيلزم العمل به، واستدلوا كذلك بحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الخيارَ إلى شهرين، فلو كانت الزيادة على الثلاثة ممنوعة، ما فعلها صلى الله عليه وسلم)).
ومن المعقول أيضًا:
خيار شرع للحاجة إلى التأمل والروية؛ ليندفع بذلك الغبن فقد يقع عليه، وقد تمس الحاجة إلى أكثر من اليومين والثلاثة، وأكثر من الشهر، فقال كثير من العلماء: المدة يعني السنة، والمدة يمكن تكون أكثرَ من هذا أو أقل، فالتأجيل يخضع في ذلك للحاجة.
والواقع أن الطرف الذي يقول: إن المدة بثلاثة، وأن المدة تخضع للسلعة نفسها، والمدة تخضع للعرف، ورد بينهم مناقشات، وكل منهم حاول أن ينتصر لرأيه، والمختار في هذا، هو ما ذهب إليه الإمام مالك، في أن شرط الخيار هذا -شرط هذه المدة- يختلف بحسب السلعة، فقد يكون يومًا أو أكثر، وقد يكون أسبوعًا، أو قد يكون شهرا، لكن ينبغي ألا تطول هذه المدة.
لكن مَن الذي يثبت له هذا الخيار؟
المثبتون لخيار الشرط، على أنه يجوز شرط الخيار لكل واحد من المتعاقدين، أو لأحدهما دون الآخر، واختلفوا في اشتراطه لغير العاقدين، كأن يشترطاه لأجنبي عن العقد، يقول يعني: بما يحدده فلان، لكن الواقع أن تعليق هذا الشرط بكلام شخص أجنبي، فيه شيء من البعد، خصوصًا وأن البيع نفسه أصله اللزوم، وأن خيار الشرط جاء على غير الأصل، فينبغي أن يكون في أضيق الحدود.
ولكن ما أثر خيار الشرط في العقود؟
اشتراط الخيار في العقد يترتب عليه أثران:
الأثر الأول: متفق عليه، والأثر الآخر مختلف فيه:
أما الأثر المتفق عليه بين الفقهاء: هو منع لزوم العقد لمن شرط له الخيار، يعني: يبقى العقد بالنسبة له جائزًا، إن شاء أمضاه وإن شاء فسخه في أيّ وقت، ما دامت مدته ممتدة لم تنقضِ بعد.
الأثر الثاني: وهو عدم ترتب أحكام العقد وآثاره عليه، فقد اختلف فيه على مذهبين:
– المذهب الأول: ذهب الحنفية والمالكية والحنابلة -في أحد القولين عندهم- وكذا الشافعية -في أحد الأقوال عندهم- إلى أن الخيار مانع من ترتب أحكام العقد وآثاره عليه، فلا يثبت به ملكًا، إلا بعد انقضاء مدة الشرط.
– والمذهب الثاني: وهو مذهب الشافعي، في القول الثاني عنده، وأحمد في أظهر القولين عنده: إلى أن العقد تترتب عليه آثاره، سواء أكان الخيار للعاقدين أم لأحدهما.
كيفية انتهاء خيار الشرط؟
إن خيار الشرط ينتهي بعدة أمور؛ منها:
انتهاء خيار الشرط، بإمضاء العقد أو فسخه، يعني: إذا فُسِخَ العقد، انتهى خيار الشرط، ولم يعد للشرط أيَّة فائدة، أو اختارَا إمضاء العقد.
إذًا فخيار الشرط، لا لزومَ له، كأن من اشترطه بإمضائه قد تنازل عن هذا الشرط، لكن هل يكون الإمضاء بالقول فقط، أو يكون بالقول والفعل؟
يعني: يقول: أنا موافق على العقد، أو أنا متنازل عن هذا الشرط، أما القول فلم يشترط الفقهاء له لفظًا معينًا، بل كل قول يفيد أنه تنازل عن هذا الشرط، أو أنه يريد إمضاء العقد، أو يريد فسخ العقد، فأيَّ قول يفيد هذا المعني، يصح به إمضاء العقد، كما يصح به فسخه، كما لو قال: فسخت البيع أو رفضته، وما أشبه ذلك.
والانتهاء بالقول عندهم، يسمَّى إنهاءً حقيقيًّا؛ لأن التعبير باللفظ، هو أقوى أنواع التعبير عن الإرادة.
لكن ماذا عن الفعل؟ هل الفعل له قوة القول أيضًا؟ ويسمى الإمضاء أو الفسخ بطريق الفعل: بالفسخ الحكمي، أو الإمضاء الحكمي، فيتم بكل فعل أيضًا يدل على ذلك، كأن يتصرف البائع في السلعة في مدة الخيار، كأن باعها لشخص آخرَ، أورهنها أو وقفها أو أهداها أو وهبها، أو تصرف فيها على أيِّ نحو كان، فمعناه أنه قد أقدم على فسخ العقد، فكل ذلك يعد فسخًا للعقد، وكذلك لو كان الخيار للمشتري، وتصرف هذا المشتري في المبيع تصرفَ المُلاك، كأن يبيعه لشخص آخرَ، أو يهبه أو نحو ذلك، فجميع هذه التصرفات تدل على أنه أمضَى العقد.
هذا، وقد اختلف الفقهاء في اشتراط علم الطرف الآخر بالفسخ، يعني: إذا افترضنا أن أحد الطرفين خلال مدة خيار الشرط، فسخ العقد، هل من الضروري أن يعلم الطرف الآخر، بأن صاحبه قد فسخ العقد، أو ليس ذلك من الضروري؟
اختلف الفقهاء في هذا، بعد اتفاقهم على إمضاء العقد، فلا يُشترط علم الطرف الآخر، ولا حضوره.
أما الفسخ، فقد ذهبوا في علم الطرف الآخر به إلى مذهبين:
المذهب الأول: مذهب جمهور الفقهاء، من الشافعية والمالكية والحنابلة، وأبي يوسف، وزُفر من الحنفية، ذهبوا إلى أن مَن اشترط له الخيار، يثبت له حق الفسخ بغير حضور صاحبه ولا علمه، يعني: لو أن البائع هو الذي اشترط الخيار لمده معينة وأراد الفسخ في هذه المدة، فجمهور الفقهاء ذهبوا إلى أنه من حقه أن يفسخ العقد دون حضور صاحبه، حتى ولا إعلامه، ولا علمه ولا معرفته لهذا؛ لأن من يتصرف في حقه لا يُلام ولا يعاتب، وعمدة هذا القول، أن مَن له الخيار في الفسخ، إنما امتلكه بعلم صاحبه ورضاه، يعني: امتلك هذا الحق، وكل مَن كان هذا حاله، لا يتوقف فعله أو تصرفه على علم صاحبه.
المذهب الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، حيث ذهبَا إلى أن الفسخ لا ينفذ ولا يرتب أثرًا، إلا إذا علم به الطرف الآخر، قبل انقضاء مدة الخيار، فإن انقضت المدة ولم يعلم بالفسخ؛ لزم العقد.
يترتب بِناءً على هذين المذهبين أمور مهمة جدًّا.
لكن ما حجة المذهب الثاني، الذي قال: لا بد من علم الطرف الآخر، وأنه إذا مضت المدة ولم يعلم الطرف الآخر بالفسخ، فقد لزم البيع؟
الحجة عند أبي حنيفة ومحمد في ذلك، أن نفاذ الفسخ من غير إعلام للطرف الآخر، قد يترتب عليه إلحاق الضرر به؛ لأنه إن كان بائعًا فقد يسكت عن البحث عن مشتر آخر؛ ظنًّا منه أن المشتري الأول لم يفسخ العقد، وإن كان مشتريًا فقد يتصرف في المبيع بما يعود عليه بالضمان؛ ظنًّا منه أن البائع لم يفسخ العقد، فاشتراط العلم رافعٌ للمضرة.
وفي رأيي: أن مذهب أبي حنيفة ومحمد، في هذه المسألة أقوى؛ لأن فيه احتياطًا لحق الطرفين؛ ولأنه يمنع وقوعَ الضرر على أيٍّ منهما.
إذًا فالأمر الأول لإنهاء خيار الشرط: هو الإمضاء أو الفسخ، بالقول أو بالفعل.
أما الأمر الثاني: فهو مضي مدة الخيار، إذا افترضنا أن مدة الخيار -مثلًا- أسبوع، ومضى هذا الأسبوع، فقد تم البيع ومضَى، فإذا مرت المدة من غير فسخ ولا إجازة، تم البيع، ولزم بلا خلاف في ذلك عند الشافعية والحنفية والحنابلة، إلا ما روي عن القاضي أبو يعلَى الفراء من الحنابلة: أن العقد لا يلزم بمضي المدة؛ وهو قول للإمام مالك -رحمه الله.
والراجح: هو القول الذي ذهب إليه الشافعية والحنفية ومَن وافقهم؛ لأنها مدة ملحقة بالعقد زائدة عليه، فبطلت بانقضائها؛ ولأنه حكم مؤقت، ففات هذا الحكم بفوات وقته، مثل سائر المؤقتات.
وأيُّ شيء له وقت، كسداد الدين مثلًا، وفات هذا الوقت؛ فات الحق المترتب عليه.
ولأنه شرط ثبت على خلاف الأصل؛ لأن الأصل لزومُ العقد بالإيجاب والقبول، فينتهي بانتهاء مدته.
وأما الأمر الثالث: فهو هلاك محل العقد.