Top
Image Alt

خيار العيب

  /  خيار العيب

خيار العيب

خيار العيب: هو حق شرعي يثبت بمقتضاه الحق للمشتري في إمضاء العقد أو فسخه، إذا وجد بالمعقود عليه عيبًا مخلًّا لم يكن قد علمه وقتَ التعاقد، يعني: شخص اشترى شيئًا وبعد أن تعاقد عليه واستلمه، اكتشف أن به عيبًا، وكان هذا العيب موجودًا بالسلعة قبل شرائها. فالشرع قد أعطاه الحق في إمضاء العقد والرضا بالعيب، أو أن يرد السلعة.

فالفقهاء متفقون على أن البائع إذا علم بسلعته عيبًا لم يجز له بيعها؛ حتى يبين للمشتري عيبها، فإن لم يبينه فهو عاصٍ آثمٌ بذلك، غاش؛ لِمَا روي عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم أنه قال: ((المسلمُ أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعًا إلا بيَّنَه له)).

وقال صلى الله عليه  وسلم: ((مَن باع عيبًا لم يبينه لم يزل في مقت الله، ولم تزل الملائكة تلعنه))، أعاذنا الله.

وهذا وعيد في غاية الخطورة: ((لم تزل الملائكة تلعنه))، يعني: تستمر الملائكة في لعنه؛ حتى يصحح ما غَشَّ به أخاه، فإذا خالف البائع ذلك، فباع شيئًا معيبًا دون أن يبينه للمشتري، فالبيع صحيح عند جمهور الفقهاء: الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، والعمدة في ذلك عندهم، أن النبي صلى الله عليه  وسلم نَهَى عن التصرية، ثم صحح البيعَ معها.

والتصرية، يعني: أن يبيع الإنسان شاةً أو بقرة أو ناقة وقد ربط أخلافها، فيظن مَن يشتريها أنها كثيرة اللبن، فإذا حَلَبها أول مرة وجد لها لبنًا كثيرًا، فإذا حلبها مرة ثانية تبين أنه قد خُدِعَ فيها، ففي هذه التصرية، صحح النبي صلى الله عليه  وسلم العقد، وجعل للمشتري الخيارَ، إن رضيها فبِها ونعمت، وإن سخطها ردَّها ومعها صاع من تمر، أو صاع من شعير.

والأصل في مشروعية هذا النوع من الخيار -وهو خيار العيب- الكتاب، والسنة، والمعقول:

أما الكتاب: فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوَاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ} [النساء: 29]، ومعناها: أن المشتري عندما رضِيَ بهذه الصفقة، رضي على أن ما اشتراه سليم؛ لذلك رضي، فمِن تمام الرضا ألا يكون في السلعة عيب، إذ أن المشتري لو علم أن بها عيبًا لَمَا رضي من الأصل.

وأما السنة: فقد استدلوا على ثبوت خيار العيب، بما ثبت عن النبي صلى الله عليه  وسلم وروته عنه السيدة عائشة رضي الله  عنها أن رجلًا ابتاع عبدًا -اشترى عبدًا- فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيبًا، فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه  وسلم فردَّه عليه، فقال الرجل: يا رسول الله، لقد استعمل غلامي، فقال صلى الله عليه  وسلم: ((الخراج بالضمان)).

ووجه الدلالة من هذا الحديث واضحة، فالنبي صلى الله عليه  وسلم أمر بالرد -رد هذا الغلام- وأبطل هذه الصفقة؛ لأن البائع كان قد أخفَى هذا العيبَ، وجعل منفعة المبيع أثناء استعمال المشتري له قبل أن يعلم بالعيب مقابل الضمان؛ لأنه لو كان قد تلف أثناء شرائه قبل أن يكتشف العيب ويرده، لَكَان هلاكه في ذمته هو، وضمانه عليه هو، فكان له الحق في أن يستفيد من غلته، فقال صلى الله عليه  وسلم: ((الخراج بالضمان)).

ومن السنة أيضًا: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه  وسلم أنه قال: ((لا تصروا الإبل والغنم، فَمَن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سَخِطها ردها وصاعًا من تمر)).

فقد نص النبي صلى الله عليه  وسلم في هذا الحديث، على الرد بالعيب، فقال: ((إن سخطها ردها))، مع أن التصرية عيب من العيوب، فالنبي صلى الله عليه  وسلم أمر بالرد بالعيب، أو الرضا، فهذا أمر متروك له الخيار فيه.

وأما المعقول: فإن سلامة المعقود عليه أمر مقصود للمشتري بلا شك، ومشترطُ في العقد دلالةً وضمنًا وإن لم يصرح بذلك؛ لأنه لا أحدَ يرضَى بأن يشتري شيئًا معيبًا، فرضاه يدل على أنه كأنه اشترط السلامة من العيب، فلما جاءت السلعة فيها عيب، معنى ذلك أن رضاه لم ينصب على هذه السلعة، فكان له الخيار حتى يستدرك ما فات، فإما أن يرضَى ويمضي العقد، وإما أن يرده.

وحكمة مشروعية هذا النوع من أنواع الخيار: هي رفع الضرر، فأيُّ شخص مهما كانت براعته ومهارته، قد يشتري أحيانًا بعض الأشياء، وبعد أن يتسلمها يكتشف أن بها عيبًا، فالشرع أعطاه هذا الحق؛ ليكون رضاه كاملًا، هنا كانت السلامة مشروطةً في العقد دلالةً وإن لم يشترطها المشتري صراحةً؛ لأن غرضه هو الانتفاع بالمبيع، والانتفاع بالمبيع لا يكون إلا بقيد السلامة؛ ولأنه ما دفع جميع الثمن إلا ليتسلم سلعةً كاملةً دون نقص أو خلل.

ومِمَّا يدل على أن مطلق العقد يقتضي السلامة من العيب، ما أخرجه البخاري معلقًا عن العدَّاء بن خالد، أن رسول الله صلى الله عليه  وسلم كتَبَ له في شراء عبد منه: ((هذا ما اشترى محمد رسول الله صلى الله عليه  وسلم من العدَّاء بن خالد بيع المسلم من المسلم، لا داءَ ولا خِبْثةَ ولا غائِلةَ))، وقال قتادة الغائلة الزنا والسرقة، فثبت أن السلامة شرطٌ في المعقود عليه في جميع العقود، وباختلال هذه السلامة؛ يختل الرضا، ويثبت الخيار.

لكن هل العيب له ضابط، أو أن السلعة ترد بأي عيب، أو يعطَى المشتري الخيار؟

الواقع أن الفقهاء، قد اتفقوا على أن العيب الذي يثبت به خيار الرد بالعيب، هو العيب الفاحش، العيب المخل بالرضا، أما العيب اليسير الذي لا يفوت غرضًا ولا ينقِصُ قيمةً، فلا تُرد به السلعة.

وعلامة ذلك أن السلعة إذا نقص ثمنها بسبب وجود العيب، كان هذا العيب مما ترد به السلعة، لكن إذا كان هذا العيب لا يؤثر في ثمن السلعة؛ فإنه لا تُرد به هذه السلعة.

لكن الفقهاء اختلفوا في بيان الضابط الجامع لتلك العيوب، مما أدى إلى اختلافهم في بعض آحاد العيوب؛ منها: أن المالكية ذهبوا إلى أن العيب المؤثر في العقد، هو ما نقص عن الخِلقة الطبيعية، أو عن الخلق الشرعي، نقصانًا له تأثير في ثمن المبيع، يعني: المهم عندهم أن يكون لهذا العيب تأثير في الثمن، ويكون عيبًا في أصل الخِلقة، وهذا العيب عندهم يختلف باختلاف الأزمان والعوائل والأشخاص، فربما كان النقص في خِلقة فضيلة عند قوم دون قوم، وفي زمان دون زمان، كالخِفاض في الجارية، والخِتان في العبد، في بعض البيئات وفي بعض الأزمنة، لا تعتبر الجارية المختونة أو المخفوضة هذه ميزة فيها، وفي بعض البلاد يعتبر ذلك عيبًا، وكذلك الختان بالنسبة للغلام.

ثم إن المالكية -بعد وضعهم هذا الضابط الجامع للعيوب التي تؤثر في العقد- اختلفوا في رد المبيع بتلك العيوب، ففرقوا بين أن يكون المبيع عقارًا أو غير عقار، ولهم في ذلك تفصيلات. ذهب الإمام مالك إلى التفرقة بين العيب اليسير والكثير، فقال: إن كان العيب يسيرًا؛ لم يجب الرد، ووجبت قيمة العيب، وإن كان كثيرًا، كتصدع جدار؛ وجب الرد به.

لكن ذهب الحنفية والحنابلة: إلى أن العيب الموجب للخيار، هو كل عيب أوجب نقصانَ الثمن في عادات التجار، نقصانًا فاحشًا أو يسيرًا؛ لأن المبيع إنما صار محل العقد باعتبار صفة المالية، فما يوجب نقصًا في هذه المالية يكون عيبًا، والمرجع في ذلك عندهم إلى العادة والعُرف، ونعني: عادة التجار وعرف التجار، فما قالوا عنه: إنه عيب فاحش يؤثر في الثمن ترد به السلعةُ، وإلا فلا، وهم قريبون كما رأينا من مذهب الإمام مالك.

وذهب الشافعية إلى أن العيب الذي يثبت به الرد هو كل عيب تنقص به العين نقصًا يفوت به غرض صحيح أو ينقص قيمتها، وغلب في جنس المبيع عدمه، يعني: أن الشافعية لم يقتصروا كما اقتصر غيرهم، إلى أن العيب المؤثر هو الذي ينقص الثمن، بل ذهبوا أيضًا إلى أن العيب الذي ترد به السلعة، غير موجود في جنس المبيع، فإذا كان جنس المبيع خاليًا من هذا العيب، وكان هذا العيب ينقص الثمن، يردون به السلعة، ويجعلون للمشتري الخيار.

لكن هل هناك شروط للرد بالعيب، أو أي عيب في أيِّ وقت يرد المشتري به السلعة؟

الواقع أن الفقهاء قد اشترطوا عدةَ شروط حتى يكون من حق المشتري الخيار في الرضا بالعيب أو الرد:

الشرط الأول: ثبوت العيب في المبيع عند البيع، يعني: يثبت أن هذا العيب لم يكن عند المشتري، أي: لم يطرأ على السلعة وهي عند المشتري، بل كان موجودًا عند البيع، أو بعد العقد، ولكن قبل القبض وقبل التسليم، وعليه فإذا كان العيب موجودًا في محل العقد قبل أن يتسلمه المشتري ثبت به الخيار، سواء أكان العيب موجودًا قبل التعاقد أو كان حادثًا بعد التعاقد وقبل التسليم، يعني: المحك أنه ما وُجِدَ قبل التعاقد وقبل التسليم، فهذا ترد به السلعة ويكون للمشتري الخيار، لكن ما طرأ بعد التسليم، ليس من حق المشتري أن يرد السلعة؛ لأنها أصبحت في حوزته وفي مِلكه، فما طرأ عليها يكون من ملكه، أو آفة أصابه بها القدر، كما يصيب أيّ شيء يملكه الإنسان.

وعلى هذا، فإن العيب الحادث عند المشتري بعد القبض، لا يثبت به خيارٌ من غير خلافٍ في ذلك بين فقهاء المذاهب بالإجماع، إلا ما روي عن الإمام مالك، حيث قال: إن العيب إذا حدث في زمان العهدة ثبت به الرد، والعهدة عند الإمام مالك، كأنه يرى أن البائع يتعهد بسلامة المبيع لفترةٍ زمنيةٍ، والعهدة عنده على نوعين:

– نوع عهدته ثلاثة أيام فقط، وتكون من جميع العيوب الحاصلة أو الحادثة عند المشتري، وهذا شيء طيب جدًّا، يعني: يظَل من حق المشتري أن يرد السلعة بالعيب حتى بعد ثلاثة أيام؛ لأن هذه الأيام في جميع السلع عهدة يجب أن يتعهد البائع للمشتري بالسلامة فيها.

– ونوع ثانٍ من العهدة لمدة سنة، وتكون من عيوب ثلاثة فقط، هي الجذام -والعياذ بالله- والبَرص، والجنون، وهذا بالنسبة للرقيق، وتثبت هذه العهدة عند المالكية في الرقيق من غير خلاف بينهم في ذلك، ويُلحق به بعض أصناف البيوع التي يقصد منها المماكسة والمحاكرة ولم تكن في الذمة، واختلفوا فيما عدا ذلك.

الشرط الثاني: جهل المشتري بوجود العيب عند العقد والقبض، فلو أن المشتري كان يعلم بوجود العيب عند العقد والقبض وسكَت عن هذا، فسكوتُه يدل على رضاه بالعيب فيسقط حقه في الخيار.

واتفق الفقهاء على أن المشتري إذا كان عالِمًا بالعيب حين التعاقد أو حين التقابض، فلا خيارَ له؛ لأن إقدامَه على التعاقد على سلعة من السلع مع علمه بوجود العيب فيها، هو رضا بالعقد.

الشرط الثالث: زاد الحنفية: عدم اشتراط البراءة من العيب في عقد البيع، وجاز عند الحنفية اشتراط البراءة من العيب، فإذا رضي المشتري بهذا، فعند الحنفية ليس من حقه أن يرد السلعة بعد أن وافق على هذا الشرط.

وخالف فقهاء الشافعية في ذلك، فقالوا: إن شرط البراءة لا يصح مطلقًا، فلو شرطه البائع في المبيع، فلا يبرأ إلا عن عيب خفي، ووجود حال العقد غير معلوم له دون غيره من العيوب، وعليه فيثبت الخيار للمشتري بكل عيب يثبت بعد ذلك عند الشافعية، حتى لو كان هذا شرطًا بالبراءة من العيوب، وسبق أن وافق عليه.

ومن الفقهاء مَن خَصَّ جواز البراءة ببعض العقود دون بعض، وببعض أنواع المبيعات دون البعض الآخر.

على أيِّ حال، فوجهة نظر الحنفية في أن البائع ما دام قد اشترط على المشتري البراءة؛ كان على المشتري أن يبحث ويفحص ويستعين بأهل الخبرة في ذلك، لكنه لم يفعل، فهو الذي غرر بنفسه وخدعها.

لكن متى يكون خيار العيب؟ يعني: هل له وقت محدد أو لا؟

الواقع أن الفقهاء اتفقوا على أن الرد بالعيب ليس له وقت محدد، بل يثبت متى اطلع المشتري علي العيب، طال الزمن أم قصر، بَيْدَ أنهم اختلفوا في وقت الرد بالعيب بعد ظهوره، هل يكون على الفور أو على التراخي؟

ففقهاء الشافعية وبعض مَن وافقهم، ذهبوا إلى أن الرد بالعيب يشترط أن يكون على الفور؛ لأن معنى التراخي في هذا أنه رضِيَ بهذا العيب، والمرجع في تقدير هذا القدر عندهم هو العرف، الفور وعدم الفور يرجع إلى العرف.

بينما ذهب الحنابلة ومَن وافقهم إلى أن خيار الرد بالعيب يثبت على التراخي، فمتى علم العيب فأخَّر الرد؛ لم يبطل خياره حتى يوجد منه ما يدل على الرضا، وحجتهم في ذلك أنه حق أعطاه الشرع إياه، فَمن حقه أن يتراخَى فيه، ومن حقه الفورية.

لكن لعل الراجح، هو أن على المشتري أن يبادر بالرد فورًا، فإذا تقاعس وتأخَّر يشي هذا بأنه رضي بالسلعة معيبةً.

ومسقطات هذا الخيار متعددة:

يسقط الخيار إذا ما أسقطه المشتري بنفسه، ويسقط أيضًا إذا كانت هناك براءة من العيوب عند الحنفية ومَن وافقهم، ويسقط الخيار بالرضا بالعيب، ويسقط الرد أو الخيار إذا كانت هناك زيادة حدثت في المبيع بعد قبضه.

error: النص محمي !!