دريد بن الصمة الجشمي وداليّته
دريد: هو دريد بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن بكر بن علقة بن جداعة بن غزية بن جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وكلمة: “دُرَيد” تصغير أدرد، و”أدرد” أي: تحاتت أسنانه وسقطت، و”الصِّمَةُ” لقب أبيه، وهي كلمة معناها: الرجل الشجاع، ويقال: إن الصمة من أسماء الأسد، وأمه: ريحانة بنت معديكرب الزبيدي. يقولون: إن أباه الصمة سباها في غارة له على بني زبيد، ثم تزوجها فولدت له بنيه ومنهم دريد، ويبدو أنها أيضًا كانت شاعرة، إذ يذكر ابن قتيبة أنها حضت دريدًا بشعر لها على الطلب بثأر أخيه، وقد خلا شعر دريد من الإشارة إليها، لكنه أشار إلى هذه المطالبة بالثأر، ووعده إياها بأنه سيأخذه بقوله:
ثَكِلتِ دُرَيدًا إِن أَتَت لَكِ شَتوَةٌ | * | سِوى هَذِهِ حَتّى تَدورَ الدَوائِرُ |
أي: حتى تقوم الحرب، وآخذ بثأر أخي.
وتحدثت الأخبار عن إخوة أربعة له هم: عبد الله، وعبد يغوث، وقيس، وخالد، وقد قتلوا جميعهم، وكان مقتل عبد الله في غارة له على غطفان، ويبدو أن عبد الله هذا كان آثرهم عند دريد، وقد كان شريكًا له في هذه الغارة التي قتل فيها، والقصيدة التي سندرسها تشير إلى عبد الله هذا.
أما أبناء دريد؛ فتشير المصادر إلى اثنين من الأبناء هما: ابنه سلمة، وابنته عمرة. ويقولون: كان كلاهما شاعرًا، وقد كان دُريد متزوجًا من امرأتين؛ أولاهما: سمادير، وكنيتها أم معبد، ويبدو أن ابنيه كانا منها، وقد ذكروا أنه طلقها؛ لأنها تعرضت له باللوم حين رأته شديد الجزع لفقد أخيه، وراحت تصغر من شأنه لذلك؛ فأثاره هذا منها ودفعه إلى طلاقها. أما المرأة الثانية فيبدو أنه لم يطل عهده بها، وأنه فارقها، ولم يعش معها طويلًا.
ودريد من الشعراء المعمرين المخضرمين، عاش شطرًا من حياته في الجاهلية وأدرك الإسلام ولكنه لم يسلم، وكانت وفاته في يوم حنين من العام الثامن للهجرة، وقد خرجت جموع هوازن وثقيف، وخرج دريد مع هوازن أو أخرجته هي معها؛ لأنه كان في ذلك الوقت شيخًا كبيرًا ذاهب البصر، لا مكان له في الحرب، وإنما أخذهم إياه معهم كانت للتيمن، والانتفاع برأيه وخبرته.
ويقال: إن الذي قتله غلام مسلم اسمه ربيعة بن رفيع بن أهبان السلمي.
وقد تصرف دريد في فنون الشعر، وقال في الأغراض كلها، وعرف النقاد في القديم وفي الحديث مكانته بين الشعراء، وممن تعرضوا للحكم على شاعريته: أبو الفرج الأصفهاني، فقال في ترجمته: شاعرٌ فحلٌ، كان أطول الفرسان الشعراء غزوًا وأشعرهم. وقال عنه الأصمعي: دُريد بن الصِّمة من فحول الفرسان. ومنهم من يجعله أشعر الفرسان، ويعقبه بعنترة، ثم خفاف بن ندبة، ثم بعد ذلك يأتي غيرهم من الشعراء الفرسان.
أما قصيدته، فيقال في مناسبتها: إن أم معبد كانت زوجته، ولما قُتل أخوه، ورأت جزع زوجها دُريد الشديد عليه لامته، وعاتبته فطلَّقها، وقال هذه القصيدة.
أما القصيدة فيقول فيها:
أَرَثَّ جَديدُ الحَبْلِ مِنْ أُمِّ معبدِ | * | بعاقِبَةٍ وأخْلفَتْ كلَّ موْعِدِ |
وبانَتْ ولَمْ أَحْمَدْ إليْكَ جِوارها | * | ولَمْ ترْج فينا رِدَّةُ اليَوْمِ أوْ غَدِ |
مِنَ الخَفِراتِ لا سَقوطًا خِمارُها | * | إِذا بَرَزَت وَلا خَروجَ المُقَيَّدِ |
وَكُلَّ تَباريحِ المُحِبِّ لَقيتهُ | * | سِوى أَنَّني لَم أَلقَ حَتفي بِمَرصَدِ |
وَأَنِّيَ لَم أَهلِك سُلالًا وَلَم أَمُت | * | خُفاتًا وَكُلًّا ظَنَّهُ بِيَ عُوَّدي |
وفي هذه المقدمة ذكر أن صلته بأم معبد انقطعت، وأنها ذهبت، ولم ترج منه أو فيه ردة، لا في اليوم ولا في الغد، وأثنى على هذه المرأة بأنها حيية: “من الخفرات”، وأنها لا يسقط خمارها إذا برزت، ولا يبرز كعبها ولا يظهر، ويذكر أن تباريح المحب لقيها وجربها، لكنه لم يلق حتفه بعد ولم يمت.
ثم يتوجه بالكلام إلى زوجته التي لامته على حزنه الشديد على أخيه، فيقول:
أَعاذِلَ مَهلًا بَعضُ لَومِكِ وَاِقصِدي | * | وَإِن كانَ عِلمُ الغَيبِ عِندَكِ فَاِرشِدي |
أَعاذِلَتي كُلُّ اِمرِئٍ وَاِبنُ أُمِّهِ | * | مَتاعٌ كَزادِ الراكِبِ المُتَزَوِّدِ |
أَعاذِلَ إِنَّ الرُزءَ في مِثلِ خالِدٍ | * | وَلا رُزءَ فيما أَهلَكَ المَرءُ عَن يَدِ |
وهو في هذه الأبيات يطلب من امرأته أن تتمهل، وأن تدع لومها إياه وأن تتخفف من ذلك، ويخبرها بأن كل امرئ وأخيه لا بد أنهما يفترقان، كما يخبرها أن المصيبة في مثل أخيه مصيبة كبيرة، وأن إهلاك المال أو نفاد المال لا يعد من المصائب إذا قورن بفقد الأخ. ثم يذكر دريد موقفًا له مع قومه، نصحهم فيه وبصرهم، ولكنهم لم يستجيبوا له فقال:
وقلتُ لِعراضٍ وأصحابِ عَارضٍ | * | وَرَهط بني السَّودَاء والقوم شُهَّدي |
علانِيةً ظُنُّوا بألفَي مُدَجَّجٍ | * | سراتهُمُ في الفارسيّ المُسرَّدِ |
وَقُلتُ لَهُم إِنَّ الأَحاديث هذه | * | مُطَنِّبَةً بَينَ السِتارِ فَثَهمَدِ |
فَما فَتِئوا حَتّى رَأَوها مُغيرَةً | * | كَرِجلِ الدِبى في كُلِّ رَبعٍ وَفَدفَدِ |
وَلَمّا رَأَيتُ الخَيلَ قُبلًا كَأَنَّها | * | جَرادٌ يُباري وِجهَةَ الريحِ مُغتَدي |
أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِوى | * | فَلَم يَستَبينوا الرشد إِلّا ضُحى الغَدِ |
فَلَمّا عَصوني كُنتُ مِنهُم وقد أرى | * | غِوايَتَهُم وَأَنَّني غَيرُ مُهتَد |
وما أَنا إِلّا مِن غَزِيَّةَ إِن غَوَت | * | غَوَيتُ وَإِن تَرشُد غَزيَّةُ أَرشَدِ |
في هذه الأبيات يحكي دريد لنا موقفًا: أنه كان مع قومه في يوم من أيام الحرب، وأنه نصح قومه وبصرهم وأخبرهم أن القبائل التي تحاربهم مخيمة بين جبل النسار وجبل ثهمد، وأخبرهم أنهم إذا لم يبدءوا بمهاجمة أعدائهم؛ فإن أعداءهم سيهاجمونهم، وسيفعلون بهم الأفاعيل؛ لكن القوم لم يستجيبوا له:
أَمَرتُهُمُ أَمري بِمُنعَرَجِ اللِوى | * | فَلَم يَستَبينوا الرشد إِلّا ضُحى الغَدِ |
ولما كان ضحى الغد قد جاء، كان القوم قد هاجموهم وجاءوا إليهم بجنود كالجراد:
وَلَمّا رَأَيتُ الخَيلَ قُبلًا كَأَنَّها | * | جَرادٌ يُباري وِجهَةَ الريحِ مُغتَدي |
ومع أنهم عصوه؛ لكنه رأى نفسه واحدًا منهم، ورأى أن ضلالهم ضلال له ورشدهم رشد له:
وما أَنا إِلّا مِن غَزِيَّةَ إِن غَوَت | * | غَوَيتُ وَإِن تَرشُد غَزيَّةُ أَرشَدِ |
وهذا البيت يُتمثل به للدلالة على أن الشاعر في الجاهلية كان يقدم قبيلته على نفسه، وكان الواحد منهم يذهب إلى حيث أرادت القبيلة أن تذهب، وأنه يقدم رأي الجماعة رأيه حتى لو كان رأيه مصيبًا، ورأي الجماعة مخطئًا، ثم ينتقل دُريد إلى الحديث عن أخيه عبد الله الذي قُتل في غارة كان هو معه فيها، يقول:
دَعاني أَخي وَالخَيلُ بَيني وَبَينَهُ | * | فَلَمّا دَعاني لَم يَجِدني بِقُعدَدِ |
أَخ أَرضَعَتني أُمُّهُ من لِبانِها | * | ِبثَديِي صَفاءٍ بَينَنا لَم يُجَدَّدِ |
تَنادوا فَقالوا أَردَتِ الخَيلُ فارِسًا | * | فَقُلتُ أَعَبدُ اللَهِ ذَلِكُمُ الرَدي |
غداة دعاني وَالرِماحُ تَنوشُهُ | * | كَوَقعِ الصَياصي في النَسيجِ المُمَدَّدِ |
وَكُنتُ كَذاتِ البَوِّ ريعَت فَأَقبَلَت | * | إِلى جلَدٍ مِن مَسكِ سَقبِ مُقَدَّدِِ |
فَطاعَنتُ عَنهُ الخَيلَ حَتّى تَنَددت | * | وَحَتّى عَلاني حَالِكُ اللَونِ أَسوَدِ |
وقوله: “وكنت كذات البوِّ ريعت…” إلى آخره. يخبر أنه لما ذهب لإنقاذ أخيه وجده قد مزق كل ممزق، لكنه طاعن القوم وحاربهم، ووصف هذا الطعان، فقال:
طِعَانُ اِمرِئٍ آسى أَخاهُ بِنَفسِهِ | * | وَيَعلَمُ أَنَّ المَرءَ غَيرَ مُخَلَّدِ |
فَما رِمتُ حَتّى خَزَّقَتني رِماحُهُم | * | وَغودِرتُ أَكبو في القَنا المُتَفَصِّدِ |
ثم يذكر أخاه عبد الله ويثني عليه بما كان فيه من الشجاعة والإقدام، فيقول:
وإِن يَكُ عَبدُ اللَهِ خَلّى مَكانَهُ | * | فَما كانَ وَقّافًا وَلا طائِشَ اليَدِ |
وَلا بَرِمًا إِن ما الرِياحُ تَناوَحَت | * | بِرَطبِ العِضاهِ والضَّريع المُعَضَّدِ |
كَميشُ الإِزارِ خارِجٌ نِصفُ ساقِهِ | * | صَبورٌ عَلى العَزاءِ طَلّاعُ أَنجُدِ |
رَئيسُ حُروبٍ لا يَزالُ رَبيئَةً | * | مُشيحًا عَلى مُحقَوقِفِ الصُلبِ مُلبِدِ |
صَبُور على رزء المُصيباتِ حافِظٌ | * | مِنَ اليَومِ أَدبَار الأَحاديثِ في غَدِ |
تَراهُ خَميصَ البَطنِ وَالزادُ حاضِرٌ | * | عَتيدٌ وَيَغدو في القَميصِ المُقَدَّدِ |
وَإِن مَسَّهُ الإِقواءُ وَالجهدُ زادَهُ | * | سَماحًا وَإِتلافًا لِما كانَ في اليَدِ |
لَهُ كُلُّ مَن يَلقى مِنَ الناسِ واحِدًا | * | وَإِن يَلقَ مَثنى القَومِ يَفرَح وَيَزدَدِ |
صَبا ما صَبا حَتّى عَلا الشَيبُ رَأسَهُ | * | فَلَمّا عَلاهُ قالَ لِلباطِلِ اِبعَدِ |
في هذه الأبيات يصف دريد أخاه بأنه كان شجاعًا، وكان كريمًا، وكان صبورًا، وكان رئيس حروب، يتقدم قومه على فرس صلبة شديدة، يستطلع لهم الأمر، وكان في الحرب صبورًا، وفي السلم كريمًا: “تراه خميص البطن والزاد حاضر”؛ فيصفه بقلة الطعام مع اتساع الحال، وكثرة الزاد كأنه يتعفف عن إشباع نفسه، ويبذل الطعام لغيره، “وإن مسه الإقواء والجهد” زاده سماحًا وإتلافًا لما كان في اليد، أي: في وقت الجهد، ووقت المشقة والفقر؛ فإن سماحه يزيد. وكان من شجاعته كفؤًا لمن يلاقيه من الأقران؛ فإن لاقى فردًا قتله، وإن لاقى الفرسان مثنى مثنى فرح بذلك؛ ثقة منه في شجاعته وقوته:
صَبا ما صَبا حَتّى عَلا الشَيبُ رَأسَهُ | * | فَلَمّا عَلاهُ قالَ لِلباطِلِ اِبعَدِ |
يصفه بأنه استمتع بشبابه غاية الاستمتاع، وأنه أدرك في شبابه كل ما صبت إليه نفسه، بهذا التعبير المبهم الذي يترك للنفس أن تتخيل أبعد ما يمكن تخيله: “صبا ما صبا”؛ لكنه عندما علا الشيب رأسه، قال للباطل: ابعد. وأخذ نفسه بما يلائم الشيب ويناسبه من البعد عن اللهو والباطل، والالتزام بالحكمة والحق.
ثم يصف دريد حزنه على أخيه، وأن هذا الحزن هوَّنه عليه أنه لم يسئ إليه قط، ولم يتأخر عنه أبدًا، ولم يبخل عليه بما ملكت يده، كما هون هذا الحزن وخففه علمه أن أخاه سبقه، وأنه في أثره ذاهب، يقول:
وَهَوَّنَ وَجدي أَنَّني لَم أَقُل لَهُ كَذَبتَ | * | وَلَم أَبخُل بِما مَلَكَت يَدي |
وهون وجدي أنما هو فارط | * | أمامي وأني وارد اليوم أو غد |
و تكرار قوله: “وهون وجدي” دالٌّ على أن وجده وحزنه كان كبيرًا، وأن الذي هونه هو ما ذكرت، ثم يدعو دريد لأخيه بعدم البعد:
فَلا يُبعِدَنكَ اللَهُ حَيًّا وَمَيِّتًا | * | وَمَن يَعلُهُ رُكنٌ مِنَ الأَرضِ يَبعُدِ |
يقول: إن الذي يموت ويُدفن يبعد لا محالة؛ لكنه سيظل ذاكرًا له، وهذا معنى دعائه في قوله: “فلا يبعدنك الله حيًّا وميتًا”، ثم يقول دريد:
وَإِن تُعقِبِ الأَيّامُ وَالدَهرُ تَعلَموا | * | بَني قارِبٍ أَنّا غِضابٌ بِمَعبَدِ |
يخاطب أعداءه الذين قتلوا أخاه، بأن قومه غضاب على معبد، وأنهم لن يتركوا ثأره. ثم يفتخر دريد بنفسه وبفرسه القوية، فيقول:
وَغارَةٍ بَينَ اليَومِ وَالليلِ فَلتَةٍ | * | تَدارَكتُها رَكضًا بِسِيدٍ عَمَرَّدِ |
سَليمِ الشَظى عَبلِ الشَوى شَنِجِ النَسا | * | طَويلِ القَرا نَهدٍ أَسيلِ المُقَلَّدِ |
يَفوتُ طَويلَ القَومِ عَقدُ عِذارِهِ | * | مُنيفٌ كَجِذعِ النَخلَةِ المُتَجَدِّدِ |
إِذا هَبَطَ الأَرضَ الفَضاءَ تَزَيَّنَت | * | لِرُؤيَتِهِ كَالمَأتَمِ المُتَبَدِّدِ |
وَتُخرِجُ مِنهُ صَرَّةُ القَومِ مصدقًا | * | وَطولُ السُرى ذَرِّيَّ عَضبٍ مُهَنَّدِ |
قوله: “وغارة بين اليوم والليل”، تقدير الكلام: ورب غارة بين اليوم والليل. بمعنى: كم من غارة بين اليوم والليل قمت بها على فرس يشبه الذئب في سرعته وخفته. وقوله: “سليم الشظى…” إلى آخره. عدد فيه صفات هذا الفرس القوي الطويل السليم. وقوله: “يفوت طويل القوم عقد عذاره” كناية عن علو هذا الفرس وارتفاعه، وقوله: “منيف كجذع النخلة المتجدد” يشبهه بجذع النخلة العظيمة، ثم أخبر أن الأرض الفضاء تتزين وتفرح إذا هبط هذا الفرس فيها، ويخبر كذلك أنه إذا اجتمع القوم أو التقى الجيشان في الحرب؛ فإن هذا الفرس يجري جريًا طويلًا كثيرًا سريعًا حتى يخرج منه عرق كأنه السيف المهند في لمعانه.
هكذا رثى دريد ابن الصمة أخاه في هذه القصيدة، وهكذا افتخر بنفسه.