Top
Image Alt

دعوى أصحاب شعر التفعيلة أن الشعر العربي شعر إنشادي

  /  دعوى أصحاب شعر التفعيلة أن الشعر العربي شعر إنشادي

دعوى أصحاب شعر التفعيلة أن الشعر العربي شعر إنشادي

وثَمّ دعوة أخرى يقول أصحابها من ناظمي شعر التفعيلة: إن الشعر القديم كله شعر إنشادي؛ بمعنى إنه عالي النغم، مجلل على الدوام بغض الطرف عن المناسبة والسياق، والقائلون بذلك يقصدون الزراية عليه، إذ يهدفون إلى القول بأنه كان شعرًا خطابيًّا، يلقى في المحافل، ولم يُنظم ليقرأه الفرد بينه وبين نفسه.

لكنّ هذا غير صحيح، إذ أمامنا نصوص شعرية متنوعة لا حصر لها، بعضُها عالي النغم فعلًا كـ”معلقة عمرو ابن كلثوم” التي يتحدى فيها ملك الحيرة، ويتهدّده بعظائم الأهوال إن هو فكر في أن يقترب منهم، وليس هذا عيب فيها إذ السياق يتطلب النغم العالي المجلل؛ لأنه سياق حروب وصراعات وتهديدات وقعقعات، وليس من المعقول أن يهمس الشاعر في مثل ذلك الأوان، وإلّا كان ذلك منه دربًا من الخبلِ والعجز عن تقدير الظروف، وما تتطلبه تلك الظروف؛ فضلًا عن أن صور الشاعر صور مفترعة مدهشة.

وبعض هذه النصوص فخر، وإن لم يكن فخرًا مقعقعًا؛ إذ هو فخر في ميدان الغرام لا في ميدان القتال، والفخرُ على كل حال لا يناسبه الهمس والنجوى، وهذا ملحوظ في أبيات “البهاء زهير” الرشيقة الأنيقة الرائقة الشائقة، التي يتغنى فيها بزعامته للمحبين. ومهما قلت فيها من ثناء وإشادة؛ فهي تستحقه وأكثر.

أما نصّا “البحتري” و”ابن الرومي” عن الربيع؛ فبهجة عارمة بمقدم فصل الحب والنجوى، ، وما يبثه في الوجود المستكن الهاجع من يقظة، ويسربله به من حيوية وحسن وتوثب.

وهناك أبيات “الحمى للمتنبي” وهي أبيات أثيانة منكسرة، وإن خالطت ذلك نَغمة من التهكم المتشائم، والاعتزاز المكتوم بالنفس والتعجب من مفارقات الوجود… إلخ.

والواقعُ أنّ أصْحَاب الدّعوى الإنشادية؛ إنما يهدفون بدعواهم إلى الغض من عبقرية الشعر العربي، تمهيدًا للقفز عليه وطعنه في مقتل، ولقد فعلوها وإن كان الشعر العربي الكريم الأصيل لم يمت ولن يموت، رغم كل الطعنات والبثور والتقيحات، التي أصابت جسده ووجهه وشوهت محياه الجميل، وأوصلته في شعر الطاعنين إلى طريق مسدود، بعد أن كان يكثر حيوية وعرامًا.

والحق أنّ اتهام الشعر العربي بأنه كله شعر محافل لا يعرف إلا النغمة العالية، هو اتهام باطل كله تدليس؛ فإنّ النّغمة العالية ليست سمة لشعرنا القديم بالإطلاق، بل لبَعض نصوصه ليس إلّا، إلا أن القوم ذوي غرض، والغرضُ مرضٌ كما يقولون.

أترى معلقة “امرئ القيس” أو “طرفة” هما من الشعر العالي النغمة؟! أترى قصائد “ابن أبي ربيعة” أو “جميل” أو “قيس” أو “كثير” في حبائبه هو من الشعر العالي النغمة؟!. أترى قصائد “أبي العاتية” هي من الشعر العالي النغمة؟! أترى غزليات “العباس بن الأحنف” الرقيقة المترفة ورسائله الشعرية لحبيبته “فاوس” هي من الشعر العالي النغمة! أترى قصيدة المتنبي في “الحمى” أو ميميته في الانفصال عن “سيف الدولة” هما من الشعر العالي النغمة! أترى أشعار “ابن الرومي” التهكُميّة أو قصيدته في رثاء ابنه محمد، أو قصيدته في توحيد المغنية هي من الشعر عالي النغمة؟!.

أترى أشعار “ديك الجن” في حبيبته التي قتلها غيرة، ثم قضى سائر عمره يندبها ويشعر بالذنب والويل هي من الشعر عالي النغمة؟! أترى أشعار الصوفية كـ”رابعة العدوية” و”الحلاج” و”ابن الفارض” أشعارًا عالية النغمة؟ أترى غزليات “البهائي زهير” وإخوانياته أشعارًا عالية النغمة؟!. إن القوم ليدلسون أبشع التدليس وأشنعه، وهم يعرفون أنهم يدلسون وهم يفعلون ذلك التدليس لغرض في نفس يعقوب.

error: النص محمي !!