دلالةُ هذا العلم المعتبرةُ، وأهم المصنفات فيه
حقيقة، هذا العنوان يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتفصيل والمتابعة؛ للوقوف على مصطلح السياسة الشرعية مرة أخرى, لكن لكي نبتعد عن تكرار ما سبق أن قلناه بخصوص الشرعية وهي الجزء الثاني في العنوان, نقول: قسّمنا هذا العنصر إلى قسمين, فقلنا عن الشق الأول ما يلي:
أولًا: لعلنا لاحظنا أن موضوعات أو مباحث السياسة الشرعية كبيرة، وفروعها ومسائلها كثيرة؛ فضلًا عن المناقشات أو الخلافات حول الصلاحيات والشروط والضوابط مثلًا؛ ألا نرى أن الخلاف قد يقوم على مشروعية بعض القضايا والنوازل, التي يصدر بشأنها حكمٌ اجتهادي من ولي الأمر أو من ينوب عنه، كالضرائب والمكوس في النظام المالي، وكيفية تطبيق الحدود والتعازير ومقدارها في النظام العقابي، وبعض شروط الولاية العامة من خلافة أو إمارة أو غيرهما في النظام الإداري أو نظام الحكم، ثم العلاقات الدولية في أوقات السلم والحرب؛ وبخاصة معاملة الأسرى والصلح مع الأعداء وأحكام الغنائم والفيء وغيرها؟ هذا بالإضافة إلى أهمية بيان مصطلحات السياسة والشرعية أو الشريعة وخصائصها ومصادرها وحجيتها ومجالاتها وعناية الفقهاء بها، ثم الدخول بعد ذلك في تفصيلات النظام السياسي بكل مقوماته وأشكاله: الإداري, المالي, القضائي, الجنائي… إلى آخره.
ولما كانت السياسة بهذا المعنى أساس الحكم؛ لذلك سميت أفعال رؤساء الدول وما يتصل بالسلطة سياسة، وقيل بأن الإمامة الكبرى -رئاسة الدولة- موضوعة لخلافة النبوة، وقيل بأن الإمامة الكبرى -رئاسة الدولة- موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا. وهذا عن الماوردي وعن أبي يعلى وغيرهما.
وعلى ذلك، فإن علم السياسة هو العلم الذي يعرف منه أنواع الرياسات والسياسات الاجتماعية والمدنية وأحوالها؛ من أحوال السلاطين والملوك والأمراء وأهل الاحتساب والقضاء والعلماء، ومن يجري مجراهم، فلا غرو أن نرى من يقول: السياسة داخلة تحت قواعد الشرع، وإن لم ينص عليها بخصوصها، فإن مدار الشريعة -بعد قواعد الإيمان- على حسم مواد الفساد لبقاء العالم، بل لقد اتفق جمهور الفقهاء على أن السياسة يجب أن تكون في حدود الشريعة لا تتعداها، حتى قالوا: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، وحتى رأينا ابن القيم رحمه الله يرفض تقسيم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة، وإنما هي تنقسم في رأيه إلى قسمين: صحيح وفاسد؛ فالصحيح قسمٌ من أقسام الشريعة لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها.
ثانيًا: لعل ما سبق أيضًا يفسر اهتمام فقهائنا -على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم- بالسياسة الشرعية، ويبدو ذلك بوضوح من خلال تناولهم لها ضمنَ أبواب الفقه العام تارة، وفي كتب متخصصة تارة أخرى؛ نذكر منها على سبيل المثال (الأحكام السلطانية) للماوردي الشافعي، ومثلها لأبي يعلى الحنبلي، و(غياث الأمم في التياث الظلم) لإمام الحرمين الجويني وهو شافعي أيضًا، ثم (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) لشيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي، وله أيضًا (الحسبة في الإسلام) ولصديقه وتلميذه ابن قيم الجوزية (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية)، ثم هنالك كتاب (الخراج) لأبي يوسف الحنفي، ومثله ليحيى بن آدم القرشي و(الأموال) لأبي عبيد القاسم بن سلام، وغير ذلك كثير، بالإضافة إلى بعض المؤلفات المعاصرة مثل: (السياسة الشرعية) للشيخ عبد الوهاب خلاف, ومثله -أي: بهذا العنوان- للدكتور يوسف القرضاوي، وبنفس العنوان عند الدكتور إبراهيم عبد الرحيم والدكتور عبد الله شاكر، ثم (فقه السياسة الشرعية) للدكتور خالد العنبري، وكتب العلاقات الدولية في الإسلام وهي كثيرة؛ منها لأبي زهرة، ومثلها للدكتور وهبة الزحيلي، وغير هؤلاء وهؤلاء.
ومن المؤكد أن في تراثنا مفادًا في علم المطبوع والمخطوط والمندثر غير هذا الكثير والكثير، ومن المؤكد أيضًا أنه ليس بوسع أحد -كائنًا من كان- أن يستقصي كل ما كُتب عن السياسة الشرعية في القديم أو الحديث، فهذا فوق طاقة البشر بالتأكيد.