دلالة الأحكام السابقة على تميز التشريع الإسلامي
ظهر مما سبق أن الإسلام دين الفطرة؛ لأن غريزة الأبوة وغريزة الأمومة غريزة قوية، فكانت تلبيتها من مقاصد التشريع الإسلامي، وذلك بجعل التناسل أحد أهداف الزواج الأساسية، ولما كان الأمر كذلك جاز للزوجين أن يشبعا غريزتهما في الأبوة والأمومة بأي أسلوب شرعي، ولما قدم العلم منجزاته في مجال الإنجاب عن طريق التلقيح الداخلي، والتخصيب الخارجي في الأنابيب، وكان ذلك من أبرز القضايا المعاصرة عقدت المجامع الفقهية جلسات لمناقشة هذه القضية، وكتبت البحوث وتمت المناقشات، وانتهت إلى قرارات تجيز بعض هذه الأساليب في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، ومرونة التشريع الإسلامي، وتحرم بعض هذه الأساليب أيضًا في ضوء مقاصد الشريعة.
وكان الجواز والتحريم قائمين على ما يناسب مصالح الزوجين، والآثار الشرعية التي يرتبها الزواج والإنجاب للزوجين وللأرحام وللمجتمع، وبهذا تظهر مرونة الشريعة الإسلامية وصلاحيتها للتطبيق في كل زمان ومكان، وملاءمتها للفطرة ودوام ذلك، فلا ينضب معينها ولا ينفد عطاؤها، فهي أبدًا تفي بحاجات كل مصر، وبمتطلبات كل دهر، فلا تجد حادثة إلا وللشريعة فيها حكم، ولا تنزل نازلة إلا ولأهل العلم وأهل الفقه فيها رأي، استنادًا إلى النصوص تارة، أو القياس والاجتهاد تارة أخرى.
وفي ذلك يقول الشيخ السيد سابق رحمه الله: إن ما لا يختلف باختلاف الزمان والمكان، كالعقائد والعبادات جاء مفصلًا تفصيلًا كاملًا، وموضحًا بالنصوص المحيطة به، فليس لأحد أن يزيد فيه أو ينقص منه، وما يختلف باختلاف الزمان والمكان كالمصالح المدنية، والأمور السياسية والحربية جاء مجملًا؛ ليتفق مع مصالح الناس في جميع العصور، ويهتدي به أولو الأمر في إقامة الحق والعدل.
وحتى نتبين الأمر فسنطالع المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الثانية حيث يقول:
الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وبعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في الدراسة، التي قدمها عضو المجلس مصطفى أحمد الزرقا حول التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب الأمر الذي شغل الناس، وكان من أبرز قضايا الساعة، واستعرض المجلس ما تحقق في هذا المجال من إنجازات طبية، توصل إليها العلم والتقنية في العصر الحاضر لإنجاب الأطفال من بني الإنسان، والتغلب على أسباب العقم المختلفة المانعة من الاستيلاد.
وقد تبين للمجلس من تلك الدراسة الوافية المشار إليها أن التلقيح الاصطناعي بغية الاستيلاد بغير الطريق الطبيعي، وهو الاتصال الجنسي المباشر بين الرجل والمرأة يتم بأحد طريقين أساسيين، وبدأ القرار يفصل طريق التلقيح الداخلي، وطريق الطريق الخارجي، وما يعتبر ذلك من مآخذ ثم أخذ يشرح الأساليب السبعة التي أشرنا إليها؛ اثنين للتلقيح الداخلي، وخمسة للتلقيح الخارجي، وبعد أن انتهى من بيان الأحكام الشرعية لكل أسلوب من هذه الأساليب السبعة عقب على ذلك بقوله: هذا ما ظهر لمجلس المجمع في هذه القضية ذات الحساسية الدينية القوية من قضايا الساعة، ويرجو من الله أن يكون صوابًا، والله سبحانه أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل وهو ولي التوفيق.
وقد أضاف أيضًا أنه يترتب على الأساليب الشرعية في التلقيح المجهري ثبوت الحقوق للمولود، يقرر المجمع أن نسب المولود يثبت من الزوجين مصدر البذرتين، ويتبع الميراث والحقوق الأخرى ثبوت النسب، فحين يثبت نسب المولود من الرجل أو المرأة يثبت الإرث وغيره من الأحكام بين الولد، ومن التحق نسبه به.
والزوجة المتطوعة بالحمل عن ضرتها في الأسلوب السابع المذكور، تكون في حكم الأم الرضاعية للمولود، فلا ترث منه ولا يرث منها؛ لأنه اكتسب من جسمها ومن عضويتها أكثر مما يكتسب الرضيع من مرضعته في نصاب الرضاعة، الذي يحرم به ما يحرم من النسب.