Top
Image Alt

دواوين الشعراء، ودواوين القبائل

  /  دواوين الشعراء، ودواوين القبائل

دواوين الشعراء، ودواوين القبائل

المصدر السادس للشعر الجاهلي: هو الدواوين:

والدواوين نوعان:

النوع الأول: دواوين الشُّعراء.

النوع الثاني: دواوين القبائل

أما دواوين الشعراء: فبين أيدي الدارسين الآن عددٌ كبيرٌ منها، بعضها من رواية القدماء وصنعتهم، وبعضها من جمع الدارسين المحدثين.

ومن هذه الدواوين (ديوان امرئ القيس) و(ديوان زهير بن أبي سلمى) و(ديوان النابغة الذبياني) و(ديوان الأعشى) و(ديوان لبيد)، و(ديوان طرفة)، و(ديوان أوس بن حجر)، و(ديوان عبيد بن الأبرص).

وقلت: إن الدارسين المحدثين قد يلجأ بعضهم إلى الأشعار المبثوثة في كتب الأخبار، وكتب الأدب والشواهد فيجمع شتاتها ويضمها ويجمعها ويسميها ديوانَ فلان، وهو يكون بذلك جامعًا لديوان هذا الشاعر من مظانِّه المختلفة.

أما دواوين القبائل: فالظاهر أنه كانت هناك دواوين مجموعة لكثيرٍ من قبائلِ العربِ، فقد روي: أن أبا عمرو الشيباني جمع شعرَ نيِّفٍ وثمانين قبيلة، ولكن كلُّ هذا ضاع، ولم يبقَ لنا إلا بعض من ديوان قبيلة هذيل، وهو مطبوع باسم (ديوان الهذليين)، أو (شعر الهذليين).

وكما فعل بعض الدارسين المحدثين فيما يتعلق بالدواوين المفردة بالشعراء في جمعها من مظانها، ومن بطون الكتب المختلفة فعل كثير من الدارسين أيضًا ذلك فيما يتعلق أيضًا بدواوين القبائل، فبعض الدارسين جمع شعر قبيلة أسد، وبعضهم جمع أشعار قبائل أخرى، وكل هذا يُعَدُّ مصدرًا من مصادر الشعر الجاهلي، لمن أراد أن يدرسه أو يطَّلِعَ عليه.

مصدر آخر من مصادر الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي عامة، بما في ذلك النثر، هذا المصدر يتمثل في: كتب الأدب والنقد، واللغة والمعاجم، والتاريخ والتراجم:

ففي هذه الكتب مادة غزيرة من الشعر الجاهلي ومن النثر كذلك. ومن هذه الكتب (طبقات فحول الشعراء) ، و(الشعر والشعراء) ، و(الكامل في اللغة والأدب) ، وكتاب (البيان والتبيين) وهو للجاحظ، وكتاب (الحيوان) له كذلك و(كتاب الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني، وكتاب (الموشح) للمرزباني، وكتاب (العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي، وكتاب (النقائض) لأبي عبيدة معمر بن المثنى، و(خزانة الأدب) لعبد القادر البغدادي، و(الأمالي) لأبي علي القالي، و(تاريخ الطبري) و(تاريخ ابن الأثير)، و(السيرة النبوية لابن هشام)، و(معجم الأدباء) و(معجم البلدان) و(لسان العرب) وغير هذه كثير.

هذه هي مصادر الأدب الجاهلي.

ولقد وصل هذا الأدب إلى عصر التدوين عن طريق الرواية؛ فالرواية هي وسيلة حفظه وانتشاره وذيوعه، إلى أن وصل إلى مرحلة التدوين، ولقد كان للشاعر راوية أو أكثر من راوية؛ يَلْزَمُهُ ويحفظ عنه شعره ويرويه لغيره؛ فالشعراء يروي بعضهم عن بعض، وكانت هناك طائفةٌ تتخذ الرواية مهنةً وحرفةً هي طائفة الرواة. وكان الشاعر النابه يلزمه الناشئون من الشعراء؛ يأخذون عنه ويروون، ويتأثرون بأسلوبه في القريض ويتمرسون؛ حتى تنضج مواهبهم؛ فذكروا أن امرأ القيس كان راويةً لأبي دؤاد الإيادي، والأعشى كان راوي  للمسيب بن علث، وطرفة كان راويةً للمتلمس، وكان زهير راويةً لخاله أوس بن حجر وبشامة بن الغدير، وكان كعب بن زهير والحطيئة  يرويان شعر زهير. وعن الحطيئة روى هدبة بن خشرم العذري، وعن هدبة روى جميل بن معمر، وعن جميل روى كثير، وهكذا نجد سلسلة من الرواية متتابعة الحلقات؛ يروي شاعر عن شاعر، وجيلُ عن جيلٍ.

ولم يكن الاهتمام بالرواية في الشعر حكرًا على الشعراء، فلقد كان أفراد القبيلة أكثرهم يفعلون هذا الفعل. ومن الأخبار ما يدل على أن العرب في الجاهلية كانوا يروون القصائد التي تمجد قبائلهم ويعنون عناية خاصة، ويحفظها صغيرهم وكبيرهم؛ حتى إن التغلبيين الذين هجاهم الشاعر البكري لكثرة احتفالهم بنونية عمرو بن كلثوم:

أَلاَ هُبّي بِصَحْنِكِ فَاصبَحينا

*….. …. …. ….


 قال الشاعر البكري الذي يهجوهم:

ألهَى بني تَغلبٍ عن كلِّ مكرُمَةٍ

*قصيدةٌ قالَهَا عمرُو بن كلثُومِ


يروونها أبدًا مذ كان أولهم

*يا للرجال لشعرٍ غير مسئوم

فهو يذكر أن هذه القصيدة شغلت بني تغلب عن كل مكرمة، وأنهم كانوا يروونها مُذْ كان أولهم.

ويتجاوز ذكر القصائد وحفظها، وروايتها أبناء القبيلة إلى القبائل الأخرى؛ حيث تنشد القصائد الجيدة، ويتمثل بها في المجالس والأسواق؛ حيث كان الشعر عندهم غذاءً وثمرًا وعلمًا لم يكن لهم علم أصح منه.

واتصلت الرواية بعد ظهور الإسلام، فلم ينشغل العرب عن رواية الشعر، ولم يتركوا قول الشعر، وبقيت الرواية محل اهتمام كثير منهم، حتى أوصلوا هذا الشعر وهذا الأدب إلى عصر التدوين.

لقد روي أن الرسول صلى الله عليه  وسلم كان يستمع إلى الشعر من رواته، وأن بعض الرواة كانوا ينشدونه ما يستحسنه؛ ومن ذلك أن الرسول صلى الله عليه  وسلم سمع قول عنترة:

وَلَقَدْ أَبِيتُ على الطَّوَى وأَظَلُّهُ

*حتَّى أَنالَ بهِ كَريمَ المَأْكَل


والمعنى: أصبر على الجوع وأظل صابرًا عليه ليلًا ونهارًا حتى أرزق بطعام من مصدر كريم؛ أعجب الرسول صلى الله عليه  وسلم بهذا المعنى الذي عبر عنه عنترة. وقال صلى الله عليه  وسلم: “ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة”، ورووا كذلك أن الرواة للشعر أسمعوه قول لبيد:

ألاَ كُل شيءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ

*وكُلُّ نَعيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ


فقال صلى الله عليه  وسلم معلقًا: ((أصدق كلمة قالها الشاعر قول لبيد…)) وذكر البيت.

وذكروا أن عائشة أم المؤمنين كانت كثيرًا ما تنشد الشعر، أو تتمثل بأبيات منه، فيستمع الرسول صلى الله عليه  وسلم إلى ذلك، ويُعَلِّقُ عليه، قالوا: إنه صلى الله عليه  وسلم سمعها تنشد قول الشاعر:

ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه

*يومًا فتدركه عواقب ما جنى



يجزيك أو يثني عليك فإن من

*أثنى عليك بما فعلت كمن جنى

فقال صلى الله عليه  وسلم: ((صدق يا عائشة، لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس)).

ورووا أنه كان يستنشد أصحابه من شعر أمية بن أبي الصلت، وأنه كان يستمع من الخنساء ويستزيدها، وأنه استمع لحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، ينشدونه من شعرهم؛ فيشجعهم ويثني عليهم.

كما ذكروا أن كعب بن زهير لما أراد الاعتذار إلى رسول الله صلى الله عليه  وسلم وذهب إليه في المدينة استعطفه بقصيدة مدحه فيها، واعتذر إليها وهي القصيدة المشهورة بــ(بانت سعاد) وفيها يقول كعب:

نبئتُ أنَّ رسولَ الله أوعدني

*والعفوُ عندَ رسولِ الله مأمولُ


مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاكَ نَافِلَةَ الـ

*قُرْآنِ فِيْهَا مَوَاعِيْظٌ وَتَفْصِيْلُ

وفيها قوله:

إنَّ الرسولَ لسيفٌ يُُْسَتضَاءُ بهِ

*مهنَّدٌ من سيوفِ اللهِ مسلولُ


وهكذا لم تتوقف رواية الشعر ولا الاهتمام به في عهد النبوة.

وكما كان الرسول صلى الله عليه  وسلم يستمع الشعر ويستنشده من بعض أصحابه ورواته كان أصحابه الكرام رضي الله  عنه  م يتناشدون الأشعار، ويروونها، ويحكمون عليها ويبدون آراءهم فيها، ويعلقون على بعض ما ورد فيها، واتصلت الرواية في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله  عنه  م وكان لهم نصيب من روايةِ الشعرِ وإنشاده وحفظه.

يروى أن أبا بكر الصديق كان كثير الحفظ كثير الرواية، واسع الاطلاع، غزير المعرفة؛ لذلك فإن الرسول صلى الله عليه  وسلم كان يسأله عن صحة ما يروى من الشعر.

ومعروف أن أبا بكر رضي الله  عنه   كان من أعلم الناس بأنساب العرب، ولا بد أن الذي يعلم أنساب العرب يعلم أشعارهم وأخبارهم، ويروي ما صح عنده منها. وكان الصديق يستشهد في خطبه بأبياتٍ من الشعر أحيانًا.

وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله  عنه   يتمثل بالشعر في مناسبات مختلفة، حتى إن ابن سلّام يقول: “لا يكاد يعرض له أمر إلا أنشد فيه بيت شعر” ورووا أن عمر رضي الله  عنه   كان يعجبه شعر زهير بن أبي سلمى، ويستنشده الناس، وكان عمر يفضل زهيرًا على سائر الشعراء، ويثني عليه بأنه: كان لا يعاضل في الكلام، أي: لا يعقده، وكان يتجنب وحشيه، ولم يمدح أحدًا إلا بما فيه، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري يقول: مُرُوا مَن قِبَلَكَ بتعلُّم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب.

وكذلك كان شأن علي بن أبي طالب رضي الله  عنه   فقد كان ذا علم غزير، وبصرٍ ثاقبٍ بكلامِ العربِ، ومناحي تعبيرهم، وكان يستنشد الشعراء، ويتمثل بالشعر الجيد، ويُقبل عليه، وقد حفظت له كتب الأدب والتاريخ مجموعة من الآراء النقدية الناضجة، وكلامًَا بليغًا رائعًا، كما حفظت له بعض الأشعار.

وكان ابن عباس رضي الله  عنه   يهتمُّ برواية الشعر، ويستعين به على فهمِ كتاب الله وتفسيره، ويروى عنه أنه قال: إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه، فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإن الشعر ديوان العرب. وكان إذا سُئل عن شيء من القرآن أنشد فيه شعرًا؛ ليوضح المعنى اللغوي بكلام العرب.

وهكذا استمرت الرواية في عهد الرسول صلى الله عليه  وسلم وفي عهد خلفائه الراشدين تحافظ على الشعر العربي وتهتم به، حتى جاء العهد الأموي؛ فنشطت الحركة الأدبية نشاطًا كبيرًا، وعلت معها مكانة الشعر والشعراء، وصارت مجالس الولاة، والخلفاء منتدياتٍ أدبيةً تُنْشد فيها القصائد، وتُروى الأشعار، ويتبارى الرواة ويتنافسون في ذكر ما يحفظون؛ لينالوا بذلك إعجاب الخلفاء الأمويين وجوائزهم.

وكان هؤلاء الخلفاء يشجعون الرواة كما يشجعون الشعراء، ويجزلون لهم العطايا والهبات، وكان للرواة في مجالس الخلفاء مكانةٌ مرموقةٌ، يستدعيهم الخلفاء ليَسْمُروا معهم، ويستنشدون ما يحفظون من طريف الشعر وجيد الحكم والأمثال.

ولقد كان المؤدبون في هذا العصر يُعَلِّمُونَ الناشئة الشعر واللغة والأخبار، وكان عبد الملك أمير المؤمنين يوصي مؤدب ولده أن يعلمه الشعر، وقد نشطت حركة جمع الشعر والعناية به روايةً وحفظًا وتدوينًا؛ للمحافظة على القرآن الكريم ومعرفة تفسيره، ومعرفة معاني الحديث النبوي؛ وبذلك أصبح الأدب العربي الجاهلي بشعره ونثره مادةً صالحةً للأخذ منها والاستشهاد بها على معاني القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، ولنا أن نطمئن إلى هذه المادة ونثق فيها ونعتز بها.

error: النص محمي !!