Top
Image Alt

دور الشيخ حسين المرصفي في الاتجاه إلى النقد القديم

  /  دور الشيخ حسين المرصفي في الاتجاه إلى النقد القديم

دور الشيخ حسين المرصفي في الاتجاه إلى النقد القديم

مظاهر الاتجاه نحو القديم في مرحلة الإحياء

مظاهر الاتجاه نحو النقد القديم في مرحلة الإحياء:

نتحدث عن مظاهر الاتجاه نحو النقد القديم في مرحلة الإحياء:

ونتوقف عند أبرز النقاد ومؤلفاتهم على هذا المنهج الذي جعل من النقد القديم قبلته التي توجه إليها، ومن مَظَاهر الاتجاه نحو القدماء في أصول النقد وطريقته: أننا نجد النقاد في هذه الفترة -فترة الإحياء أو مرحلة الإحياء- نجدهم يأخذون آراء النقاد القدماء؛ كالباقلاني والجرجاني وابن خلدون وغيرهم، يأخذون هذه الآراء القديمة ويعيدون نشرها، ويعيدون تدريسها كذلك.

ونجدهم أيضًا يهتمون بكتب النقد القديم إحياءً ودرسًا وشرحًا للآراء والنظريات، التي وردت في هذه الكتب، ولبعضهم مراجعات لهذه الآراء القديمة.

وبذلك نجد أن الملمح الرئيس في فترة الإحياء هو: إعادة الآراء النقدية القديمة والاهتمام بكتب القدماء شرحًا وتدريسًا وتوجيهًا ونقدًا.

ومن أبرز النقاد الذين كان لهم أثر كبير في مرحلة الإحياء: “المرصفيان”، وعندما أقول المرصفيان أعني: “الشيخ حسين بن أحمد المرصفي، والشيخ سيد بن علي المرصفي”، كلاهما من قرية اسمها مرصفا تقع في محافظة القليوبية، وهي أقرب المحافظات إلى القاهرة من جهة الشمال.

الشيخ حسين بن أحمد المرصفي:

نتحدث أولًا عن الشيخ حسين بن أحمد المرصفي: يقول المؤرخون: إنّ هذا الرجل وُلد عام ألف وثمانمائة وخمسة عشر تقريبًا، وتعلم في الأزهر الشريف وأحاط بعلومه المختلفة، وبرع في علوم اللغة من نحو وصرف وبيان ومعان وبديع، وعرف منطق أرسطو من خلال الكتب التي كانت تُدرس في الأزهر في ذلك الوقت، وتوسع في الاطلاع على أمهات الكتب الأدبية القديمة، وعايش الشعر العربي دراسة وتمثلًا -الشعر العربي القديم في عصوره المختلفة- وكان هذا الرجل مكفوف البصر، وكان ذكيًّا أريبًا، وهبه الله سبحانه وتعالى ذوقًا مرهفًا وحسًّا أدبيًّا عاليًا.

وتعلم الفرنسية قراءة وكلامًا مستعينًا في ذلك بالطريقة التي يتعلم بها المكفوفون، وهي طريقة برايل، وألف الشيخ حسين المرصفي عددًا من الكتب، أهمها كتابه (الوسيلة الأدبية)، وقد حَمل الجزء الأول من هذا الكتاب هذا العنوان (الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية)، وأما الجزء الثاني فقد جاء عنوانه هكذا (الجزء الثاني من الوسيلة الأدبية للعلوم العربية)، بدل “إلى العلوم العربية” “للعلوم العربية”.

والشيخ حسين المرصفي هذا عُهد له بالتدريس في الأزهر، وألقى محاضرات في مدرسة دار العلوم، وكان له أثرٌ كبير في رائد البعث في الشعر العربي الحديث محمود سامي البارودي، وكتابه (الوسيلة الأدبية) يُعد من أخصب الكتب التي شهدتها مطالع الحياة النقدية في العصر الحديث، وكما أشرت؛ هذا الكتاب من جزأين:

عرف الشيخ حسين المرصفي في مقدمة الجزء الأول: بالعلوم التي سيتحدث عنها في كتابه على أنها ضرورية ومهمة للشاعر وللناقد، وتحدث عن تعريف الأدب، وتحدث عن علم المنطق، وتحدث عن تعريف اللغة، وشرح فقه اللغة، وبين أقسام اللفظ بحسب الوضع وبحسب الاختصاص والاشتراك والحقيقة والمجاز، وتحدث عن النحو فأوضح أبوابه، وختم الجزء الأول بباب تحدث فيه عن كيفية العمل في تحصيل علوم العربية واختلاف ذلك بحسب العصور وبين أحسن أنواع هذا التحصيل.

وفي الجزء الثاني تحدث عن فنون البلاغة التي هي البيان والمعاني؛ فتحدث في البيان عن المجاز والاستعارة والكناية، وفي المعاني تحدث عن أجزاء الجملة، والذكر والحذف، والتقديم والتأخير، والتعريف والتنكير، وغير ذلك من مباحث هذا العلم، ثم تحدث عن فن البديع فاستوفى الكلام على أقسامه، وهي: حسن الابتداء، والجناس، والتجنيس، والاستطراد، والمقابلة، والتوشيح، والتورية، إلى غير ذلك من مسائل فن البديع.

ثم بعد ذلك انتقل إلى علم العروض والقافية، كما تحدث عن الكتابة والإملاء والإنشاء، ثم بعد ذلك تحدث عن صناعة الشعر ووجه تعلمه، وساق نماذج للشعراء القدماء، وذكر نماذج من شعر المحدثين، وكان معجبًا جدًّا بالشاعر محمود سامي البارودي، ولذلك ذكر أمثلة من شعر البارودي، ووازن بينها وبين ما يشبهها من بعض شعر القدماء، وكان يفضل البارودي.

وبهذا كله اكتسب هذا الكتاب أهمية كبيرة في هذه المرحلة؛ لأنه يُعد أول كتاب نقدي يدرس الأدب، من خلال النصوص وتذوقها ويحشد مجموعة كبيرة من النصوص الأدبية من عصور مختلفة، بما في ذلك العصر الحديث.

وأهم ما ميز المرصفي في كتابه (الوسيلة الأدبية) ما ذكره الدكتور عبد العزيز الدسوقي في كتابه (تطور النقد العربي الحديث في مصر) حيث يذهب إلى أنّ أهم ميزة للمرصفي أكدت منزلته، وجعلته أكبر شخصية من شخصيات مرحلة البعث، هي: موهبته في الانتقاء وتخيره المقاييس النقدية التي ضمها كتابه، ثم إحساسه المرهف بحاجة العصر الذي جعله يتابع كل ما قال العرب، ويدعو إلى التحرر والأخذ بما يفيدنا من مقاييسهم، وترك ما لا يتلاءم معنا.

ويؤكد المرصفي في وضوح أنه لا يصح تقليد العرب في جميع ما نطقوا به؛ “فقد عرفت مما سلف أن بعضَ كلامهم يجب اجتناب مثله، وأنهم لا يُتابعون إلا فيما كان أوفق للغرض من الكلام، وهو التفاهم، وفي خصوص الشعر والإنشاء من التأثير في الطباع، وتحويلها إلى الميل الذي يريده الشاعر والكاتب”. فهذه النظرة المتحررة من التقليد هي التي جعلت لكتابه قيمة علمية ومنحته كل هذا التأثير، على أبناء جيله ومن جاءوا من بعده.

ثم إن هذه النظرة جعلته يقف من الشعر العربي موقف الصديق والمحب، لا موقف المقدس المقلد، فكان لا يرى بأسًا في أن ينقد بعض عيوب الشعر العربي، وكان يُراجع مقاييس النقاد العرب القدامى، ويختبر تطبيقاتهم؛ ويقول رأيه في تذوقهم دون حرج.

وقد قسم الشيخ حسين المرصفي في كتابه (الوسيلة الأدبية) النقاد إلى صنفين، فقال: “اعلم أنّ الناس في نقد الشعر وسائر الكلام صنفان:

الصنف الأول: الشعراء والكتاب، ورواة المنظوم والمنثور من العلماء لغرض التعليم والتأديب، وهؤلاء نقدهم موضوعي؛ لأنهم مهما أخذوا على العمل الفني من التعقيد والحشو والتطويل والخطأ في المعاني، واستعمال ألفاظ لائقة بمقام في غيره، يتسامحون في أشياء ليست بتلك المنزلة لإدراكهم القصور الطبيعي الذي عليه بنو البشر”. هذا رأيه في الصنف الأول.

أما الصنف الثاني من النقاد: فهم علماء البلاغة الذين تكلموا في إعجاز القرآن، ووضعوا في ذلك مصنفات، وقد انتقدهم المرصفي في موضوعية وجرأة؛ لأنّهم قرنوا بين الكلام البريء من كل عيب، جلَّ أو دقَّ ظهر أو خفي، وهو كلام من لا يخفى عليه خافية، وبين كلام الناس الذين هم موضع السهو والنسيان.

إذًا المرصفي في نظرته إلى النقاد العرب القدماء يصنفهم إلى صنفين: صنف هو مقتنع بهم وبنقدهم، ويثني عليهم ويقول: إن نقدهم موضوعي؛ وهم الشعراء والكتاب والذين تضلعوا وتشبعوا من النصوص الشعرية والنثرية، فكانوا رواة لهذه النصوص، وإن كان غرضهم من ذلك التعليم والتأديب.

والصنف الثاني: علماءُ البَلاغَةِ أو عُلماء الإعجاز القرآني، الذين حاولوا إثبات إعجاز القرآن الكريم عن طريق موازنة أسلوب القرآن بغيره من كلام العرب. والمرصفي يرى أن كلام الله عز وجل  مبرأ من كل عيب جل أو دقّ، ظهر أو خفي؛ لأنّه كلام الله الذي لا يخفى عليه خافية، فهذا الكلام في رأي المرصفي لا يُوازن به كلام البشر.

ولذلك قام المرصفي بعملية نقدية مهمة جدًّا في كتابه هذا استعرض خلالها نموذجًا قديمًا من نقد علماء الإعجاز، هو: نموذج الباقلاني الذي وازن بين القرآن الكريم وبين معلقة امرئ القيس، وأخذ يفتش في معلقة امرئ القيس ويظهر ما فيها من العيوب حسب تذوقه ورأيه -هذا فعل الباقلاني- ليثبت من خلال ذلك أن القرآن الكريم يتفوق في أسلوبه على هذا الشعر الجاهلي، وامرؤ القيس من المعروف أنه إمام هذا الشعر.

فالباقلاني يرى أنه بإظهاره لعيوب شعر امرئ القيس خاصة في معلقته المشهورة: “قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل”، يرى الباقلاني من خلال بيان عيوب هذه القصيدة أنه ينتصر لإعجاز القرآن.

المرصفي لا يعجبه هذا المنهج، وكان الرجل صاحب ذوق عالٍ، وحس مرهف، وعلم واسع، وكان جريئًا في تناوله لنقد الباقلاني لمعلقة امرئ القيس، وكان مع ذلك منصفًا وعارفًا للباقلاني قدره.

error: النص محمي !!