دوْر الشِّيعة في وضْع الحديث
سبَق أنْ ذكرْنا أنّ هناك طائفة من الزنادقة اتخذت التشيُّع ستارًا لبثِّ باطلها في الناس، ووضْع الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لِهدْم الدِّين مِن الدّاخل وتنفير الناس منه…
ولهذا، فقد انخرط كثير مِن الزنادقة في هذا المذهب الخبيث، ووضعوا عشرات الآلاف مِن الأحاديث الغريبة المُستهجَنة التي لا يُصدِّقها عقْل، مِن أجْل إفساد الدِّين وإظهار تناقضه.
وقد أطبق العلماء على أنّ للشِّيعة أثرًا بارزًا في الكذِب ووضْع الحديث، ولم يخالف في ذلك أحَد؛ بل إنّ نفرًا من الشِّيعة أنفسهم يُقرّون بأنّ بعض مَن انتسب إليهم كان يفتري ويقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته؛ والاعتراف كما يقال: سيِّد الأدلة.
يقول ابن أبي الحديد: إنّ أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان مِن جهة الشِّيعة؛ فإنّهم وضعوا في مبدإ الأمْر أحاديثَ مختلفة في صاحبهم، حمَلهم على وضْعها عداوةُ خصومهم. فلما رأت البكريّة ما صنعت الشِّيعة، وضعت لصاحبها في مقابلة هذه الأحاديث.
وهاك أقوال بعض أئمّة الحديث المُعتدّ بأقوالهم، يصرِّحون بدوْر الشِّيعة في وضْع الحديث:
يقول الإمام الشافعي: وتُقبَل شهادةُ أهل الأهواء، إلاّ الخطابيّة مِن الرّافضة، لأنهم يروْن الشهادة بالزور لمُوافِقيهم. وحُكي أنّ هذا مذهبُ ابن أبي ليلى وسفيان الثوري، ورُوي مثله عن أبي يوسف القاضي.
وأخرج الخطيب بإسناده إلى حرملة بن يحيى قال: سمعت الشافعيّ يقول: لمْ أرَ أحدًا مِن أهل الأهواء أشْهدَ بالزور مِن الرّافضة.
وروى أيضًا بإسناده إلى عليّ بن الجعد، قال: سمعت أبا يوسف يقول: أجيز شهادة أهلِ الأهواء، أهل الصِّدق منهم، إلاّ الخطابيّة والقدَرية. قال أبو أيوب: سُئل إبراهيم عن الخطابيّة، فقال: صنف مِن الرافضة.
كما روى الخطيب أيضًا، بسنده إلى ابن المبارك، قال: سأل أبو عصمة أبا حنيفة: ممّن تأمرني أن أسمع الآثار؟ قال: مِن كُلِّ عدْل في هواه، إلاّ الشيعة؛ فإن أصْل عقْدِهم: تضليلُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال يونس بن عبد الأعلى: قال أشهب: سئل مالك عن الرافضة؟ فقال: لا تكلِّمْهم، ولا تَرْوِ عنهم، فإنهم يَكذِبون.
وقال يزيد بن هارون: يُكتب عن كلِّ مُبتدِع إذا لم يَكنْ داعية، إلاّ الرّافضة؛ فإنهم يكذبون.
وقال شريك: احمل العلْم عن كلّ مَن لقيتَه، إلاّ الرافضة؛ فإنهم يضعون الحديث ويتّخذونه دِينًا.
وقال أيضًا: أدركتُ الناس وما يُسمُّونهم إلاّ: “الكذّابِين” -يعني: أصحاب المغيرة بن سعيد، يعني: المغيرية، وهم طائفة من غلاة الرافضة-.
وقال الذهبي: والرافضة يُقرُّون بالكذِب حيث يقولون: دِينُنا: التقية، وهذا هو النفاق. ثم يزعمون أنهم هم المؤمنون، كما قيل: رمتني بدائها وانسلَّتِ.
هذه بعض الآثار الواردة عن سلَف الأمّة وخلَفِها تجاه الشِّيعة وأثَرهم في وضْع الحديث. ولو أمعنّا النظر لرأينا أنّ ثمّة مؤثِّرات حدَتْ بكثير مِن مُنتسِبي الشِّيعة إلى الوضع في الحديث.
وهذه المؤثِّرات يُمكن تقسيمُها إلى قسميْن:
القسم الأول: مؤثِّرات خارجيّة.
القسم الثاني: مؤثِّرات داخليّة.
أ. المؤثِّرات الخارجيّة: وتتمثّل فيما يلي:
أولا: انخراط الكثير مِن أعداء الإسلام -بعْد أنْ تظاهروا بالدخول فيه- في صفوف كثير مِن الشِّيعة، وانتحلوا مذهبهم وتظاهروا بحبّ آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهُم يهدفون بذلك نشْر آرائهم الباطلة، وبثّ نظريّاتهم المُعادية للإسلام؛ فاتخذوا التّشيّع ستارًا يعملون مِن خلْفه لتحقيق أهدافهم، والوصول إلى مآربهم. وقد استغلّوا مكانة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس المسلمين، وبُعْدهم عن السلطة بعد تنازل الحسَن عن الحُكم، فأشعلوا نار الفتنة وأذكوها، حتى اشتدّ أوارُها باسم آل البيت، ليبلغوا ما أرادوا. فلم يكتفوا بتفريق كلمة المسلمين، حيث غدَوْا يشتُم بعضُهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، بل يضرِب بعضُهم رقابَ بعض، حتى بثّوا تعاليمَهم المخالفة صراحة للإسلام، فسوَّوْا بيْن الأئمة وبيْن الأنبياء، بل جعَل بعضهم الأئمة آلهة عبَدُوها من دون الله، وطعنوا في الذّات العليّة، وجعلوها مكانًا للجهل والتناقض. وما تعدُّدُ طوائف غلاة الشِّيعة، والمبادئ التي نادَوْا بها، إلاّ دليلٌ قاطع على أنّ دعاة هذه الطوائف قوْمٌ انتحلوا الإسلام بِقصْد هدْمه وإفساده. ولمّا كان من الصعب الجهر بهذه الآراء ابتداءً، فقد زمّلوها ثوبَ التّشيُّع، ودثّروها حبّ آل البيت؛ فتقوّلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أئمّة أهل البيت ما لمْ يقولوا، وألصقوا بهم ما برّأهم الله منه ممّا صدَح به اليهود، ودعا إليه النصارى، واعتقده أصحاب الأديان الوثنيّة. ولا أدلّ على ما أقول، مِن تَزعُّم ابن سبإ، والمغيرة بن سعيد، ومحمد بن أبي زينب أبي الخطاب، وغيْرهم مِن أمثالهم، ممّن كانوا طالِعَ سوء على الشِّيعة الذين اتّبعوهم وجعلوهم أئمّة لهم، بهم يهتدون وعلى سننهم يستنّون.
ثانيا: انتحال بعض الكذّابِين والفسَقة مذهب التشيّع والقيام بالدعوة لبعض أئمة آل البيت، والأخذ بترّهاتهم، وإنما غرضُهم مِن ذلك: الوصولُ إلى السّلطة، والحياة في ظلّ الإمْرة. وقد سوّغوا لأنفسهم الكذِب ووضْع الحديث والحضّ عليه، بل تجاوزوا الأمْر في ذلك حتى ادّعَوا الإمامة، بل النبوّة. ويكفي في ذلك مثالًا: قيام المختار الثقفي الكذّاب، الذي طلب من بعض الصحابة وأبنائهم أنْ يُقوُّوه بأحاديث يضَعونها على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ليبلغ بها الوصولَ إلى الأمارة والسّلطة.
ب. المؤثِّرات الدّاخليّة:
وهي تتمثّل في بعض آراء انفرد بها الشِّيعة، ومحور هذه الآراء يتعلّق بالإمامة وغيرها، إذ يترتّب على ادّعائها لبعض رجال آل البيت: الوقوعُ في الكذب مِن حيث يشعرون أو لا يَشعرون.
أولًا: فقد جعلوا شرْط الإمامة: الأفضليّة، وقالوا بفضل عليّ على الإطلاق، بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يكتفوا بما صحّ مِن الآثار في فضْله، حتى اختلقوا أحاديث يؤكِّدون فيها ذلك؛ فوضعوا أحاديث تبيِّن المادّة التي خُلق منها، تدلّ على مِيزته وفضْله. كما وضعوا أحاديث في سبْقه للإسلام، واستقرار الإيمان في قلبه قبل غيْره. ووضعوا أحاديث تنصّ على أنه خيْر الناس مُطلقًا، ويكفِّرون مَن يُنكر ذلك. ووضعوا أحاديث توعد مَن لا يحبّه، فضلًا عمّن يُبغضه ويَشنؤه.
ثانيًا: كما اقتضى إثباتُهم الوصيّة له مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم: التّقوُّلَ عليه بأنْ وضعوا أحاديثَ تنصّ على أنه وارِثُه، وأنه وصيّة من بَعده. ولما عورضوا في دعواهم هذه بإجماع الصحابة على أبي بكر وعُمر، ومبايعتهم لهما، حكَموا بتخطئة الصحابة أو بِكذِبهم؛ بل تجرّأ بعضُهم فحَكم بكُفرهم -مع أن الله تعالى صرّح بأنه رضي عنهم-، وأنّ عليًّا رضي الله عنه نصّ بالوصية لِمَن بعده، وكذلك كلّ إمام ينصّ على مَن بَعْده.
ثالثًا: كما أنّ دعواهم بأنّ الأئمة مُحيطون بالأحكام المتعلِّقة بأفعال العباد، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لقَّنهم إيّاها، سواء فيما وقع أو فيما سيقع، وأنّ معرفة هذه الأحكام ممّا استأثر الأئمّة به، فلا يعلمُها غيرهم إلاّ مِن طريقهم، كلُّ هذا سوَّغ لبعض مَن انتسب إليهم: أنْ يضَعَ في ذلك أحاديثَ يَنسِبها إليهم، ويُسلسِل إسناده بأئمّتهم.
فقد اشتهر لدى أئمة الحديث نُسخٌ موضوعة أُلصِقت بآل البيت. مِن ذلك:
- نسخة أحمد بن عامر بن سليمان الطائي، عن آل البيت.
- نسخة محمد بن سهل بن عامر البجلي، عن موسى الرّضى، عن آبائه.
- نسخة أحمد بن علي بن صدقة، عن علي بن موسى الرضى، عن آبائه.
- وغيْر ذلك مِن النُّسَخ التي حَكَم عليها الجهابذةُ بالوضع والكذِب.
- كما أنّ قول الشِّيعة بالبداء قد سوَّغ لبعض المنتسِبين منهم بالوضْع والكذب على الله عز وجل، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا كُشف أمْرُه، وبَدَتْ عورتُه، وأُسقِط في يَدِه، زعم أنه بدا لله غيْر ما أخبر.
- زيادة على ذلك: قولُ بعضهم أنّ الأئمة يُحيطون بعلْم الظاهر والباطن، سوّغ لبعْض أدعيائهم أنْ ينسِبوا إلى أئمّتهم كلّ تفسير للقرآن الكريم مُتعسّف أو تأويل مُتكلّف، زعمًا منهم أنّ ذلك تأويل الباطن المتلقَّى عن أئمّتهم.
كلّ هذه المبادئ وغيْرها ممّا انفرد به الشِّيعة، سوَّغتْ لبعضهم الوضعَ في الحديث، والتقوّلَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أئمّة آل البيت.
ولم يقتصر وضْع الشِّيعة على هذه المسائل، بل تجاوز الأمْر إلى مسائل أخرى، يتلخّص أهمُّها فيما يلي:
- الوضْع في مثالب الشيْخيْن: أبي بكر وعمر، وقذْفُهما بالظّلم، والحَطّ مِن قدْرهما وفضلهما، وادّعاءُ إساءتهما لعليّ وآل بيته، ممّا لا يخفى كذبه. وقد أشار ابن أبي الحديد إلى كذِب الشِّيعة في ذلك، فقال: “فأمّا الأمور الشنيعة المستهجَنة التي تَذكرها الشِّيعة، من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة… وأنّ عمر ضغطها بين الباب والجدار، وجعَل في عُنق عليٍّ حبلًا يُقاد به، فكلُّه لا أصل له عند أصحابنا، ولا يُثبِته أحدٌ منهم، ولا رواه أهل الحديث ولا يعرفونه؛ وإنما هو شيء تَنفرد الشيعة بنَقْله. وقد أُلِّفتْ كُتب في مثالب الشيْخيْن، لو بحثنا عن مؤلِّفيها لوجدناهم مِن الشِّيعة.
- لمْ يَكْتف الشِّيعة مِن النيل مِن معاوية بِلَعْنِه أو شتْمِه أو الطّعن فيه، لخروجه على عليّ ومحاربته له، حتى وضعوا أحاديثَ على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يأْمُر فيها بقتْله، ويوعده على ولايته، ويدعو عليه وعلى عمرو بن العاص بالأركاس والدَّعّ في النار. بل لم يقتصروا على ذلك حتى ألحقوا بني أميّة كلّهم، وتقوّلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إنّ الله عَناهم بقوله: {وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ} [الإسراء: 60]”.
كلّ هذا وغيْره يُبيِّن لنا دَوْر الشِّيعة في الوضع في الحديث، وأجِدُني غيْر غالٍٍ إذا قلت: إنّ الشِّيعة كان لها نصيب وافر في ذلك، وكُتب الموضوعات أكبرُ شاهد على هذا القول -والله أعلم.