دَوْر خالد بن الوليد والمثني بن حارثة في الفتوحاتِ: معركة ذات السلاسل، والثني، وأُلَيِّسْ، والأنبار
. دَوْرُ خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة الشَّيباني، وموقعة “ذات السلاسل”:
بينما كان العلاء بن الحضرمي قائدَ جيوشِ المسلمين في البحرين، سنة 11 هجريًّا مشغولًا بإخضاع المرتدين هناك، انضم إليه قائد عظيم من قواد المسلمين وشخصية من الشخصيات التي ذكرها التاريخ، ومجدها التاريخ، وهي شخصية المثنى بن حارثة الشَّيباني، والذي كان له دور عظيم في الانتصارات، التي حققها المسلمون في تلك المرحلة.
وحقيقةً فقد تطورت مطاردات حركات الرِّدة؛ لتصل جيوش المسلمين إلى مصب نهر الفرات في الخليج العربي، الذي تفصل مياهُه بين بلاد العرب وبلاد الفرس، ومن ثم كانت هناك مجموعة من المواقع بين المسلمين وبين المرتدين، ومَن ساعدوهم من الفرس.
في هذه المرحلة راسل المثنى أبا بكر الصديق؛ ليأذن له في إتمام الفتوحات. هنا سأل الصديق عن المثنى قيسَ بن عاصم، فقال له قيس بن عاصم: هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول الحسب، ولا دليل العماد، هذا سيد بني شيبان، وما هو إلا أن أقبل المثنى على المدينة.
حيث طلب من أبي بكر أن يوليه مع قومه قتالَ هؤلاء الأعاجم الفرس، فكتب له الصديق عهدًا بذلك، على أن تكون القيادة بعد ذلك للقائد العظيم سيف الله المسلول خالد بن الوليد.
والواقع أنَّه في هذه المرحلة وضعت خطة للقتال، وضعها خالد بن الوليد على أن يكون خالد بن الوليد، والمثنى بن حارثة، والقعقاع بن عمر، يبدءون الفتح من جنوبي العراق.
أما عياض بن غنم عليه أن يقاتل العرب المتنصرة في دومة الجندل، على أن تعود هذه القوات مرة أخرى بعد إتمام فتوحاتها في هذه المناطق. في هذه الأثناء -كما ذكرنا- قام خالد بن الوليد بتقسيم الجيوش…
كيف قسَّم خالد بن الوليد جنده في تلك المرحلة؟
حقيقةً قسم الجند إلى ثلاث فرق، ولم يحملهم على طريق واحد، جعل على مقدمة هذه الفرق وهذه الجيوش المثنى بن حارثة الشَّيباني، ثم جعل بعده بعد ذلك عدي بن حاتم، وكان خالد بن الوليد بعدهما بعد ذلك، وتوعدوا جميعًا على اللقاء في منطقة تسمى “الحفير”؛ ليجتمعوا بها ويصطدموا بعدوهم في تلك المنطقة، سَمِعَ بهم قائد الفرس وكان يسمى “هرمز” في هذه المرحلة.
وكان هذا القائد يحارب العربَ في البر والهند في البحر، لما سمع بهم كتب إلى “أردشير” -ملك الفرس- وتعجل قومه بالذهاب إلى منقطة تسمى “الكواظم”؛ حتى يلتقي بخالد بن الوليد وجنود المسلمين، ولكنه سمع أنهم تواعدوا في هذه المنطقة وهي “الحفير” فسبقهم إليها، ونزل في تلك المنطقة.
في هذه الأثناء فوجئنا بأن جنودَ الفرس يربطون بعضهم بعضًا بالسلاسل، وحقيقةً هم تصرفوا بهذه الصورة.
حتى لا يتمكن أحد من الهروب من موقع المعركة، وحتى يكونوا صفًّا واحدًا في لقاء المسلمين، وحتى يتمكنوا من صد هجمات المسلمين والقضاء عليهم.
وحقيقة وصلت كل هذه الأنباءِ إلى سيف الله المسلول خالد بن الوليد، فمال بالناس إلى “كاظمة”، ولكن “هرمز” سبقه إليها، وكان هذا الرجل سيئ المجاورة للعرب، فكانوا يكرهونه، وكانوا يضربون به الأمثال في الخبث، فيقولون: “أكفر من هرمز”. وقدم خالد فنزل على غير ماء في تلك المرحلة، فقال له جنده وأصحابه في ذلك: لماذا نزلت على غير ماء في تلك المنطقة؟ فقال لهم خالد: “لعمري، ليصيرنَّ الماء لأصبر الفريقين، وأكرم الجندين”.
وهذه القناعة التي ملأت خالدًا كانت سببًا رئيسًا في انتصاره، قناعة في الثقة في الله سبحانه وتعالى واليقين في نصر الله سبحانه وتعالى وعطاء الله سبحانه وتعالى على أن هذا النصر، وهذا اليقين لا يكون إلا لِمَن قدَّم العدة وعنده الاستعداد، وهو الصبر على لقاء العدو، والصبر على بذل الجهد، والصبر على التضحية بالنفس والمال؛ حتى نتمكن من نصرة دين الله، وحتى نتمكن من نشر دين الله، فهذا اليقين من نفس هذا القائد -جزاه الله بما هو أهله- فقد جاء الغمام، ونزلت المياه من السماء، وفرِحَ المسلمون بهذه المياه، وقويت قلوبهم بهذه المياه التي نزلت عليهم من السماء.
في هذه الأثناء خرج “هرمز” ودعا خالدًا إلى المبارزة، ولكنه كان خائنًا، حيث وطأ أصحابه على الغدر بخالد، قال لهم: عندما يخرج خالد للقائِي في المبارزة وأخرج له، ونتقاتل سويًّا، فأنتم تحينوا الفرصةَ حتى تتمكنوا من القضاء على خالد أثناء هذه المبارزة، ولكن خالدًا لم يكن يخشَى شيئًا إلا الله سبحانه وتعالى فبرز إليه خالد، ومشَى نحوه راجلًا. وتضاربَا، فاحتضنه خالد، وحمَلَ عليه حملةً واحدةً؛ ليقتله، في هذه الأثناء أقبل جند “هرمز”؛ ليدافعوا عنه وليقتلوا خالدَ بن الوليد، شعر القعقاع بن عمرو بذلك، فحمل سيفَه واستطاع أن يزيح هؤلاء الجنودَ عن خالد بن الوليد، مما مكن خالد بن الوليد من القضاء على قائد الفرس، ومن ثم حلت الهزيمة بالفرس، وانهزموا، وركبهم المسلمون إلى الليل، وكما ذكرتُ لكم سميت هذه الوقعة بـ”ذات السلاسل”.
تقول الروايات وتقول مصادر التاريخ: أن قلنسوة “هرمز” هذا كانت بمائة ألف؛ لأنه كان قد تم شرفه، وهذا الفكر كان منتشرًا بين الفرس في هذه المرحلة، أن مَن يتم شرفه ويصل للقمة، فتكون قلنسوته بمائة ألف.
هذه من الأفكار التي تناقلتها المصادر التاريخية.
على أية حال، بعث خالد بن الوليد بالفتح وبالأخماس إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه وسار حتى نزل بموضع الجسر الأعظم بالبصرة، وهنا يظهر مرةً أخرى دور القائد العظيم العربي المثنى بن حارثة الشيباني، حيث بعثه خالد بن الوليد في آثار تلك القوات المنهزمة؛ حتى يطارد فلولَ المنهزمين، ويتتبعهم ويقضي عليهم، وبالفعل تمكن المثنى من ذلك، وإن كانت هذه القوات قد لجأت إلى حصن معروف يسمى “حصن المرأة”، فنجد أن المثنى تتبع هذه القوات، ووصل إلى هذا الحصن، واستطاع أن يقتحمه، فأسلمت تلك المرأة، ولكن المثنى لم يعرض هو وخالد، كانت لهم سياسة واضحة، وهي التي أمرهم بها الصديق رضي الله عنه حيث كانت سياستهم تقوم على عدم التعرض للفلاحين إطلاقًا من الفرس؛ لأنهم يعلمون أن هذه البلاد بلادٌ زراعية، وقوامها الرئيسي هؤلاء الفلاحون، فمن ثم هو لم يحاول أن يعرض لهؤلاء الفلاحين على الإطلاق، كما أمره الصديق رضي الله عنه.
2. موقعة “الثني” وموقعة “أُلَيِّسْ”:
وقعت واقعة أخرى تسمى: “وقعة الثني”، وحقيقة العرب تسمي كل نهر “ثنيا”، ومن ثم فإن اسم هذه الموقعة ينطلق من المكان التي وقعت فيه هذه الوقعة -وقعة “الثني”- فقد كانت عند هذا النهر، ومعروف باسم “نهر الثني”.
أ. كتاب هرمز إلى أردشير وإمداده بـ”قارن”:
لَمَّا وصل كتاب “هرمز” إلى “أردشير” بخبر خالد، أمدَّه بـ”قارن” -أحد قواد الفرس- فلما انتهى خرج “قارن” مددًا لـ”هرمز” وانتهى إلى المزار، فلقيته الجموع المنهزمة، اجتمعوا جميعًا ورجعوا مرةً أخرى حتى نزلوا “الثني”، وهنا سار إليهم خالد بن الوليد، فلقيهم واقتتلوا قتالًا شديدًا، وتمكن قواد المسلمين من القضاء على أمهر وأشهر قواد الفرس؛ فعلى سبيل المثال تمكن عاصمٌ من قتل “أنو شجان”، وتمكن عدي بن حاتم من قتل “قُبَال”.
على أية حال، كان النصر في هذه المعركة -وهي معركة “الثني”- من نصيب المسلمين، وقتل من الفرس مقتلة عظيمة.
تقول بعضُ الروايات: بلغ قتلهم ثلاثين ألفًا سوى مَن غَرِقَ، ومنعت المياهُ المسلمينَ من تتبعهم ومِن طلبهم.
قسم الفيء، وأُنْفِذت الأخماس إلى المدينة، وأعطي الأسلاب لأصحابها، وكانت الغنيمة عظيمة، وعلى أي حال أخذت الجزية من الفلاحين، ومن ثم صاروا ذمة للمسلمين، وعلى المسلمين الدفاع عنهم، وعدم تحميلهم بأي ضرائب، أو مكوس، أو إتاوات أخرى كما يصنع الفرسُ معهم، مِمَّا مَثَّلَ نَوْعًا من أنواع الراحة لهؤلاء الفلاحين، والاستبشار لهم بمجيء المسلمين وجنود المسلمين ودين الإسلام بينهم؛ لأنه حقق لهم العدل والحرية.
في هذه المرحلة كان من هؤلاء السبي أبو الحسن البصري، كان نصرانيًّا، وأصبح من أعظم أبناء الإسلام، ومن أعظم علماء الإسلام، ومن أعظم جند الإسلام، ومَنْ مِنَّا لا يعرف أبا الحسن البصري؟!
أمر خالد بن الوليد سعيدَ بن النعمان بأن يكون أميرًا على الجند، وأمره بنزول “الحفير”، وبث العمال في مختلف المناطق في تلك المرحلة، ووضع يده في الجباية، وقام خالد بن الوليد يتجسس الأخبار؛ ليتعرف على أخبار الفرس في هذه المرحلة، وفي هذه المناطق.
ب. تجمُّع الفرس المنهزمين مع قارن، ونزولهم الثني، ومسير خالد بن الوليد إليهم:
موقعة أخرى من تلك المواقع، التي خاضها القائدُ العظيمُ سيفُ الله المسلول خالدُ بنُ الوليد، وهي موقعة “أُلَيِّسْ”، وهكذا ضبطها ياقوت الحموي في (معجم البُلدان)، وهي على وزن “فُلَيِّسْ” يعني: هو تصغير “فلس” مع التشديد.
هذه الموقعة كان فيها الكثيرُ من الكلام والحديث بين المستشرقين وغيرهم؛ لأنهم حاولوا أن يستغلوا الأحداث التي ذكرت فيها؛ للإساءة -إن صح التعبير- للمسلمين ولجنود المسلمين.
إن خالدَ بن الوليد تمكَّنَ يوم موقعة “الولجة” من إصابة بعض نصارى بكر بن وائل، وهؤلاء أعانوا الفرس ضد المسلمين، فغَضِبَ لهم نصارى بكر بن وائل، فكاتبوا الفرس على أن يجتمعوا مع بعضهم البعض لقتال خالد بن الوليد؛ انتقامًا لقتلاهم، وكانت فكرتهم أن التجمع يكون على نهر “أُليس”، وعليهم كان عبد الأسود العجلي.
والغريب أن المسلمين من بني عجل كانوا أشدَّ الناس على أولئك النصارى؛ لأن الإسلام لا يعرف العصبيات والقبليات البسيطة التي نتعامل بها، الإسلام قوميةٌ واحدةٌ، المسلم أخو المسلم في كل مِنطقة في العالم، أخوك الحقيقي هو أخوك في هذا الدين وهذه العقيدة؛ ولذلك نجد المسلمين من بني عجل -كما ذكرت- يكون هم أشدُّ الناس عداوة على بني قومهم من نصارى بكر بن وائل.
على أي حال، كتب “أردشير” إلى “جازويه جابان” وأمره بالقدوم على نصارى العرب بـ”أُليس” حتى يصير عونًا لهم، ويتمكنوا جميعًا من قتال خالد بن الوليد. قدم عليهم “جابان” هذا واجتمع معهم ومع نصارى بني عجل وبعض القبائل العربية الأخرى، ومثَّلوا قوةً عسكرية ضخمةً لا يُستهان بها كما ذكرت عرب الضاحية من أهل الحيرة وغيرهم، خالد لَمَّا بلغه تجمع نصارى بكر بن وائل وغيرهم سار إليهم، وكانت همة خالد هي مَن تجمع عليه من العرب.
يعني: كان يثيره هذا الأمر، نحن عرب وأنتم عرب، وقتالنا اليوم موجه إلى الفرس، فكيف تقفون في وجوهنا؟ فيعني على الأقل إن لم تنتصروا لنا فعلى الأقل تكونوا على الحياد. ومن ثم هذه الأمور أثارت خالد بن الوليد إثارةً شديدةً.
لَمَّا طلع “جابان” بـ”أُليس” قالت العجم له -كان خالد بن الوليد وقوات خالد قد ظهرت-: أنعاجلهم أم نغدي الناس؟ يعني: يذهبون لتناول الطعام للغداء ولا نريهم أنَّا نحفل بهم، ثم نقاتلهم بعد الفراغ من الطعام؟ فقال “جابان”: إن تركوكم فتهاونوا بهم، فعصوه، وبسطوا الطعام ووضعوا الأطعمة، وتداعوا إليها، هنا وصل خالد بن الوليد وحط رحاله وأثقاله، وطلب خالد بن الوليد مبارزة عبد الأسود، فبرز إليه أحدهم؛ لقتاله، فقال له خالد: يا ابن الخبيثة، ما جرأك عليَّ من بينهم؟ واستطاع خالد بن الوليد أن يقاتله وأن يقضي عليه، وأمر جنده فعاجلوا الأعاجم عن طعامهم قبل أن يأكلوه، ودارت الحرب. قال لهم “جابان”: ألم أقل لكم: والله ما دخلتني من مقدم جيش وحشة إلا هذا، ومن ثم قال لهم: حيث لم تقدروا على الأكل، فسِمُّوا الطعام، أي: ضعوا السمَّ في الطعام؛ لأنكم إن ظفرتم وكان النصر من نصيبكم لن تخسروا شيئًا، أما إن انهزمتم فسوف يتناول المسلمون هذا الطعام، فيكون سببًا في هلاكهم، ويهلكون بسببه، فهم لم يفعلوا هذا ولا ذاك، واقتتلوا قتالًا شديدًا.
كفة الشرك كانت فيها شيءٌ شديدٌ من الإصرار ومن المقاومة ومن الثبوت، زادهم هذا توقعهم بأن هناك مددًا سوف يأتيهم من قبل الفرس، ومن ثم هذا الأمر زادهم إصرارًا وقتالًا، حتى قتلوا من المسلمين، وحتى تمكنوا من البقاء والثبات أمام قوات المسلمين، وصابروا المسلمين.
عندئذٍ قال خالد بن الوليد: “اللهم إن هزمتهم فعليَّ ألا أستبقي منهم مَن أقدر عليه، حتى أجري من دمائهم نهرهم -نهر “أليس”.
هنا انهزمت فارس، فنادى منادي خالد: اجمعوا الأسرى ولا تقتلوهم إلا من امتنع، فأقبل بهم المسلمون أسرى، وأراد خالد بن الوليد أن ينفذ هذا النذر وهذا الوعدَ؛ لأن الله سبحانه وتعالى حقق له النصر عليهم بعد ما عاناه المسلمون منهم، فقال له القعقاع وغيره من قواد المسلمين: لو قتلت أهل الأرض لن تجري دماؤهم، يعني: عملية أن النهر يجري بالدماء، هذا لن يحدث إطلاقًا، وحتى تبر بيمينك فإنه يكفيك قتل بعض هؤلاء الأسرى، ثم فَتْح مياه النهر على هذه الدماء، وتكون بهذه الصورة قد بررت بيمينك وبررت بقسمك، ولن تتعرض لِمَا هو أكثر من ذلك، وبالفعل تغلبت روح الرحمة على المسلمين وعلى خالد بن الوليد، وحققوا هذا التصرف، ألا وهو إسالة مياه النهر وفتح مياه النهر بعد أن أغلقه المسلمون، لكنهم استطاعوا أن يجروا مياه النهر، وأخذت أمامها بعضَ هذه الدماء، واعتبروا أن خالد بن الوليد قد بر بيمينه وقد بر بقسمه.
وهذا فيه رد كثير على مَن حاولوا أن يستغلوا هذه المعركة للإساءة إلى المسلمين، وإلى جنود المسلمين، وإلى مشاعر المسلمين، ومحاولة الإساءة إلى هذه القوات الإسلامية بأنها قوات بربرية وقوات سَفَّاكة للدماء… إلى آخر كل ذلك؛ لأن ما حدث بالفعل يؤكد على فكرة تغلغل روح الرحمة في نفوس المسلمين؛ لأنهم آثروا أن يجدوا حلًّا لهذا اليمين وهذا القسم لا يكون على أساس قتل كل هؤلاء الأسرى.
3. فتح الأنبار:
أ. لماذا سُميت الأنبار بهذا الاسم؟
حقيقة هذه التسمية نبعت من أن هذه المدينة توجد فيها كميات الطعام كأنها أنابير، يعني: مكومة فوق بعضها البعض بصورة تمثل الأنابير، من كلمة “أنابير” جاءت كلمة “منبر”؛ لأنه يعلو فهذا العلو يطلق عليه هذا التعبير، لكن الواقع أن هذه المدينة العلو فيها كان بكميات الطعام، التي كانت متواجدة بها.
ب. تحرك خالد بالجيش، وتوجيهه للجند، وفتح الأنبار:
على أية حال، تحرك خالد بن الوليد وعلى مقدمته الأقرع بن حابس، فلما بلغ الأنبارَ، أطاف بها وأنشب القتالَ بها. تقول الروايات: إن خالدَ بن الوليد كان شديدًا في القتال، وكان لا يتأخر عنه، لا يجبن إطلاقًا إذا نشب القتال ولا يتأخر، ومن ثم تقدم إلى رماته فأوصاهم، قال لهم: اقصدوا عيونَ الأعداء بالسهام والنبال، فرشقوهم رشقًا واحدًا بالسهام والنبال، وتابعوا هذا الرشقَ في عيونهم، فأصابوا ألف عينٍ -كما تذكر الروايات- ومن ثم تقول المصادر: أن هذه الموقعة سميت أو أطلق عليها: “ذات العيون”؛ لكثرة مَن أصيب فيها بعينيه من خلال سهام ونبال المسلمين.
كان على مَن بها من الجند “شير زاد” صاحب “ساباط”، وكان أعقلَ أعجمي في هذه الموقعة؛ لأنه لما رأى ذلك أرسل رسله إلى خالد بن الوليد يطلب الصلح، ولكن عندما عرض الصلح على خالد بن الوليد وضع من الشروط والضوابط ما رفضه خالد بن الوليد.
ومن ثَم رد خالد بن الوليد هؤلاء الرسلَ، ووضع خطة عسكرية لاقتحام الأنبار، كانت هذه الخطة تقوم على نحر بعض الإبل الضعيفة والكبيرة في السن وإلقائها في ذلك الخندق، الذي كان موجودًا والذي كان يفصل المدينة عن قوات المسلمين.
وبهذه الصورة استطاع خالد بن الوليد أن يكون ما يشبه الجسرَ الذي يعبر عليه من الأرض المحيطة بالمدينة إلى داخل المدينة، فاستطاع أن يكون جسرًا من أجسام هذه الإبل التي نحرها وألقاها في الخندق.
ومن ثم تمكن المسلمون من عبور هذا الخندق، ودخلوا المدينة، واجتمعوا بالكفار في الخنادق وفي المدينة، ودارت بينهم رَحى معركة هائلة.
حينئذٍ أرسل “الشير زاد” إلى خالد وبذل له ما أراد من ضوابط وشروط؛ حتى يتم الصلح بين الفرس وبين المسلمين.
وبالفعل وضعت هذه الضوابط والشروط وكان على رأسها وأهمها أن يخرج الفرس، وليس معهم من المتاع شيء إطلاقًا، يتركوا كل المتاع والأموال والحلقة والسلاح وخلافه، فلا يأخذون منها شيئًا.
وبهذه الصورة استطاع المسلمون تحقيق هذا النصر الكبير والعظيم في فتح الأنبار، وبهذه الصورة تكون قد فُتِحَتْ الأنبار على يد خالد بن الوليد.