ذكر الأمور التي ينتفع بها الميت بعد موته
روى الدارقطني: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان لي أبوان أبرهما حال حياتهما؛ فكيف لي ببرهما بعد موتهما؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من البر بعد الموت أن تصلي لهما مع صلاتك, وتصوم لهما مع صومك)).
وسوف نتناول هذا الحديث بعد ذكر رأي العلماء فيما يصل من الأعمال للميت, وتقسيمهم لهذه الأعمال:
فقد قال الحنفية والحنابلة, ومن وافقهم من المتأخرين من علماء المالكية والشافعية بوصول ثواب العمل من الغير إلى الميت مطلقًا؛ سواءٌ أكان العمل عبادة بدنية محضة –أي: خالصة- كالصلاة والصوم والاعتكاف وقراءة القرآن والذكر، أم مالية محضة كالزكاة والصدقة، أم مركبة منهما -أي: مشتركة من العمل والمال- كالحج.
القول الثاني: عدم وصول الثواب للميت مطلقًا, وهم المعتزلة.
القول الثالث: فصّل فيما يصل إلى الميت من أعمال، وفيما لا يصل إليه من أعمال، وبناءً على ذلك فصّل هؤلاء في العبادة فقالوا: إن كانت بدنية محضة؛ فلا يصل ثوابها للميت، وإن كانت ماليةً محضة أو مشتركة -بمعنى أنها مركبة منهما- وصل ثوابها للميت.
وهنا نذكر للاستدلال رأي ابن تيمية في هذه المسألة؛ فقد سئل الإمام ابن تيمية في مجموع فتاويه عن قوله تعالى: {وَأَن لّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاّ مَا سَعَىَ} [النجم: 39], وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات ابن آدم؛ انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له)), فهل يقتضي ذلك إذا مات ألا يصل إليه شيء من أفعال البر؟
وقد أجاب -رحمه الله- فقال: ليس في الآية ولا الحديث أن الميت لا ينتفع بدعاء الخلق له، وبما يُعمل عنه من البر؛ بل أئمة الإسلام متفقون على انتفاع الميت بذلك، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، فمن خالف ذلك كان من أهل البدع، قال الله تعالى: {الّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَا وَسِعْتَ كُـلّ شَيْءٍ رّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلّذِينَ تَابُواْ وَاتّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}(7) {رَبّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنّاتِ عَدْنٍ الّتِي وَعَدْتّهُمْ وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرّيّاتِهِمْ إِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}(8) {وَقِهِمُ السّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} [غافر: 7- 9], فقد أخبر سبحانه أن الملائكة يدعون للمؤمنين بالمغفرة ووقاية العذاب ودخول الجنة, ودعاء الملائكة ليس عملًا للعبد.
وقال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19], وقال الخليل عليه السلام: {رَبّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41], وقال نوح عليه السلام: {رّبّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28], فقد ذكر استغفار الرسل للمؤمنين أمرًا بذلك، وإخبارًا عنهم بذلك.
ومن السنن المتواترة التي من جحدها كفر: صلاة المسلمين على الميت ودعاؤهم له في الصلاة، وكذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة؛ فإن السنن فيها متواترة، بل لم ينكر شفاعته لأهل الكبائر إلا أهل البدع، بل قد ثبت أنه يشفع لأهل الكبائر, وشفاعته صلى الله عليه وسلم دعاؤه وسؤاله الله -تبارك وتعالى- فهذا وأمثاله من القرآن والسنن المتواترة؛ وجاحد مثل ذلك كافر بعد قيام الحجة عليه.
والأحاديث الصحيحة في هذا الباب كثيرة، مثل ما في الصحاح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي توفيت, أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: ((نعم))، قال: إن لي مَخرفًا -أي: بستانًا- أُشهدكم أني تصدقت به عنها.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن رجلًا قال للنبي: إن أمي افتلتت نفسها ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقتُ عنها؟ قال: ((نعم)).
وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات ولم يوصِ, أينفعه إن تصدقت عنه؟ قال: ((نعم)).
والأئمة اتفقوا على أن الصدقة تصل إلى الميت، وكذلك العبادات المالية كالعتق، وإنما تنازعوا في العبادات البدنية كالصلاة والصيام والقراءة، ومع هذا ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من مات وعليه صيام, صام عنه وليه)).
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه: أن امرأة قالت: يا رسول الله, إن أمي ماتت وعليها صيام نذر, قال: ((أرأيتِ إن كان على أمك دين فقضيتيه, أكان يؤدي ذلك عنها؟)) قالت: نعم، قال: ((فصومي عن أمك)).
وفى الصحيح عنه: أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: إن أختي ماتت وعليها صوم شهرين متتابعين، قال: ((أرأيت لو كان على أختك دين, أكنت تقضينه؟)) قالت: نعم، قال: ((فحق الله أحق)).
وفي (صحيح مسلم) عن عبد الله بن بريد بن الحصين, عن أبيه: أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر, أفيجزي عنها أن أصوم عنها؟ قال: ((نعم)).
فهذه الأحاديث الصحيحة صريحةٌ في أنه يصام عن الميت ما نذر, وأنه شُبه ذلك بقضاء الدين.
والأئمة تنازعوا في ذلك، ولم يخالف هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة من بلغته؛ وإنما خالفها من لم تبلغه، وقد تقدم حديث عمرو بأنهم إذا صاموا عن المسلم نفعه، وأما الحج فيجزئ عند عامتهم ليس فيه إلا اختلاف شاذ.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ فقال: ((حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمكِ دين أكنت قاضيته عنها؟ اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء)).
وفي رواية البخاري: “إن أختي نذرت أن تحج”، وفي (صحيح مسلم) عن بريدة: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي ماتت ولم تحج, أفيجزئ -أو يقضي- أن أحج عنها؟ قال: ((نعم)).
ففي هذه الأحاديث الصحيحة أنه أمر بحج الفرض عن الميت, وبحج النذر.
وهكذا؛ فإن الصدقة عن الميت ينتفع بها باتفاق المسلمين، وقد ورد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث الصحيحة، وأما الصيام عنه وصلاة التطوع عنه وقراءة القرآن عنه، فهذا فيه قولان للعلماء؛ أحدهما: ينتفع به وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم، والقول الثاني: لا تصل إليه وهو المشهور في مذهب مالك والشافعي، وهذا هو ما قاله ابن تيمية -رحمه الله.
ونريد أن نختم هذا الفصل -وهو الإيمان بالبرزخ- بقولنا: إن حياة البرزخ ضرورة شرعية؛ وذلك لأن الإخبار عن هذه الحياة جاءنا عن طريق الشرع الحنيف بواسطة القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهذا الشرع الحنيف قائم على القسط والعدل؛ ولذلك يخوّف الله سبحانه وتعالى عباده ليلفت أنظارهم إلى الحقيقة الكبرى والغاية العظمى ومآلهم المحتوم، فقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. إنه من مقتضى العدل لا بد أن يكون هناك موقف يقفه هذا الإنسان ليحاسب على عمله، ويجازى على فعله بعد انتهاء حياته الدنيا، وانتقاله إلى حياة أخرى هي بداية الحياة الأبدية؛ إنها حياة البرزخ لينعم أو ليعذب؛ فتتحقق العدالة الإلهية، وتطمئن النفس أن لهذا الكون إلهًا عادلًا لا يظلم مثقال ذرة، قال تعالى {وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لّلْعَبِيدِ} [آل عمران: 182].
أثر اعتقاد حياة البرزخ على المسلم:
إن اعتقاد المسلم وإيمانه بحياة البرزخ له أكبر الأثر في سلوكه، وفي انضباط أفعاله ومعاملاته، وخوفه من أن يكون قبره وحياة البرزخ حفرة من حفر النار يجعله من الذين يقفون عند حدود الله تعالى، ولا يتجرأ على حرمات الله، ولا يقدم على معصية الله، ولا يقع في شيء يغضب الله تعالى من ظلم أو بطش أو غش, أو شهادة زور أو أكل حقوق الناس وأموالهم بالباطل, أو إفساد في الأرض أو غير ذلك؛ فيؤدي ذلك الاعتقاد بوجود حياة البرزخ إلى أن يستقيم كل فرد مسلم ومسلمة على شرع الله وعمل الصالحات وترك المنكرات؛ فيعم الخير ويسود الأمن والأمان على مستوى الأفراد، ويتعدى ذلك إلى الجماعات والدول والأمم، ويصلح الفرد وتصلح الأمم، وهذه ثمرة من ثمرات اعتقاد المسلم بوجود حياة البرزخ.