ذكر بعض أقوال المخالفين في البعث، والرد عليها
الناس في البعث على أربع طوائف:
الأول: إثبات المعاد للبدن والروح جميعًا، وهو قول سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم، بل على ذلك أيضًا اتفق المسلمون، وغيرهم من أهل الملل كاليهود والنصارى.
الثاني: إنكار المعاد للأبدان والأرواح، كما هو اعتقاد مشركي العرب، واليونان والهند.
الثالث: قول من يثبت المعاد للأبدان فقط، ونسب شيخ الإسلام -رحمه الله- هذا القول إلى كثير من المتكلمين من الجهمية والقدرية.
الرابع: المعادُ للأرواح فقط دون الأبدان، وهو قول الفلاسفة أتباع أرسطو من أمثال ابن سينا، وغيره من المنافقين، والصابئين، والمجوس، والباطنية.
والذي عليه سلفُ الأمة، وجمهور العقلاء: أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل ترابًا كما كانت، عدا عجب الذنب كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خُلِقَ وفيه يركب)). رواه مسلم، وهذه الاستحالة ليست أمرًا مستحيلًا فإن النطفة تستحيل علقة، ثم مضغة، ثم تكتمل بشرًا سويًّا، وكذلك في أثناء حياته فهو يبدأ طفلًا ثم شابًّا، ثم كهلًا، وهكذا الإعادة، يُعاد الخلق بعد أن استحالوا ترابًا.
وظاهر الأدلة التي أثبتت البعث صريحة في أن البعث يشمل الأجسام والأرواح، وعلى هذا اتفق سلف الأمة، وأئمتها.
قال القرطبي: “وعند أهل السنة أن تلك الأجساد الدنيوية تعاد بأعيانها وأعراضها بلا خلاف بينهم” بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: “ومعاد الأبدان متفقٌ عليه عند المسلمين واليهود والنصارى”.
ومدار ما تشبث به المخالفون للمعاد على ثلاث شبهات:
الأولى: أن الميت إذا مات تفتتت أجزاؤه، واختلطت بالتراب على وجه لا يمكن تمييزه وقالوا: أنت إذا تأملت وتدبرت، ظهر لك أن الغالب على ظاهر التربة المعمورة جثث الموتى المتربة، وقد حرق فيها وزرع، وتكون منها الأغذية، وتغذّى بالأغذية جثث أخرى، فأنى يمكن بعث مادة كانت حاملة لصورتي إنسانين في وقتين لهما جميعًا في وقت واحد، بلا قسمة.
الثاني: أن البعث لا علاقة له بالقدرة.
الثالث: أن البعث والحشر أمر لا فائدة منه، ولا تقتضيه الحكمة والحكمة بقاء النوع الإنساني وتجدده.
وهذا الضلال منشؤه القياس الفاسد، فقد قاسوا بعقولهم قدرة الرب -تبارك وتعالى- بقدرة البشر، فاعتقدوا استحالة ذلك، ولهذا نجد أن القرآن الكريم في تقريره لقضية البعث، يركز على ثلاثة أصول:
الأول: تقرير كمال العلم، قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرّةٍ فِي الأرْضِ وَلاَ فِي السّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلآ أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ} [يونس: 61] وهذه الآية جاءت بعد الآيات التي فيها إثبات البعث.
الثاني: تقرير كمال القدرة كما في قوله تعالى: {أَوَلَـيْسَ الَذِي خَلَقَ السّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَىَ وَهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 81، 82].
الثالث: تقرير كمال الحكمة قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].
وقد تعرض شيخ الإسلام ابن تيمية لبيان أنواع المكذبين بالبعث والنشور من اليهود والنصارى والصابئة والفلاسفة، ومنافقي هذه الأمة، فقال: الذين كفروا من اليهود والنصارى ينكرون الأكل والشرب والنكاح في الجنة، ويزعمون أن أهل الجنة إنما يتمتعون بالأصوات المطربة والأرواح الطيبة مع نعيم الأرواح، وهم يقرُّون مع ذلك بحشرِ الأجسادِ مع الأرواح ونعيمها وعذابها.
وأما طوائف من الكفار وغيرهم من الصابئة والفلاسفة ومن وافقهم فيقرُّون بحشر الأرواح فقط، وأن النعيم والعذاب للأرواح فقط، وطوائف من الكفار والمشركين وغيرهم ينكرون المعاد بالكلية، فلا يقرون لا بمعاد الأرواح، ولا الأجساد، وقد بيَّن الله -تعالى- في كتابه على لسان رسوله أمر معاد الأرواح والأجساد، وردّ على الكافرين والمنكرين لشيء من ذلك، بيانًا تامًّا غاية التمام والكمال.
وأما المنافقون من هذه الأمة الذين لا يقرّون بألفاظ القرآن والسنة المشهورة؛ فإنهم يحرّفون الكلام عن مواضعه، هذه أمثالٌ ضربت لنفيهم المعاد الروحاني، وهؤلاء مثل القرامطة الباطنية الذين قولهم مؤلف من قول المجوس والصابئة، ومثل المتفلسفة الصابئة المنتسبين إلى الإسلام، وطائفة ممن ضاهوهم: من كاتب، أو متطبّب، أو متكلم، أو متصوف، كأصحاب (رسائل إخوان الصفا) وغيرهم، أو منافق، وهؤلاء كلهم كفار يجب قتلهم باتفاق أهل الإيمان.
وذكر -رحمه الله تعالى- في موضع آخر: “أن باطنية الفلاسفة يفسرون ما وعد الناس به في الآخرة بأمثال مضروبة لتفهيم ما يقوم بالنفس بعد الموت من اللذة والألم، لا بإثبات حقائق منفصلة يتنعم بها، ويتألم بها”.