Top
Image Alt

رأي العلماء في النسخ بالإجماع

  /  رأي العلماء في النسخ بالإجماع

رأي العلماء في النسخ بالإجماع

مِن المنسوخ أيضًا ما يُعرف بالإجماع، كحديث قَتْل شارب الخمر في المرّة الرابعة، فإنه منسوخ، عُرف نسْخه بانعقاد الإجماع على ترْك العمل به، والإجماع لا يَنسخ ولا يُنسخ، ولكن يدلّ على وجود ناسخ غيره.

 قال الحافظ العراقي: وفي هذا أمور:

الأمر الأول: أنه ورَد في الحديث نسْخُه، فلا حاجة للاستدلال عليه بالإجماع.

أمّا المنسوخ، فهو ما رواه أصحاب (السُّنن) الأربعة، من حديث معاوية، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن شرِب الخمْرَ فاجْلدوه! فإن عاد في الرابعة فاقْتُلوه!)). ورواه أحمد في (مسنده) من حديث عبد الله بن عمرو، وشرحبيل بن أوس، وصحابي لم يُسَمَّ. ورواه الطبراني من حديث جرير بن عبد الله، والشريد بن أوس.

وأمّا الناسخ، فهو: ما رواه البزار في (مسنده) من رواية محمد بن إسحاق، عن ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله, أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن شرب الخمْر فاجْلدوه! فإن عاد في الرابعة فاقتلوه! قال: فأتي بالنّعيْمان قد شرب الرابعة فجلَده، ولم يَقتله))، فكان ذلك ناسخًا للقتْل.

قال البزار: “ولا نعلم أحدًا حدّث به إلَّا ابن إسحاق. وذكره الترمذي تعليقًا، من حديث ابن إسحاق”، ثم قال: “وكذلك روي عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا”، قال: “((فرُفع القتْل، وكانت رخصة))”. وقبيصة ذكَره ابن عبد البَرّ في الصحابة، قال: “وُلد في أوّل سنة من الهجرة، وقيل وُلد عام الفتح”. قال: “ويُقال إنه أُتي به للنبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، والصحيح أنه وُلد عام الفتح”.

والأمر الثاني: أنّ دعوى الإجماع في هذا ليس بجيِّد، وإن كان الترمذي قد سبق إلى ذلك، فقال في العِلَل التي في آخِر (جامعه): “جميع ما في هذا الكتاب معمول به، وقد أخذ به بعضُ أهل العلْم، ما خلا حديثيْن”، فذكَر منهما حديث: ((إذا شرب الخمر فاجْلدوه! فإن عاد في الرابعة فاقتلوه!)). قال الإمام النووي في (شرح صحيح مسلم): “وهو كما قاله، فهو حديث منسوخ دلّ الإجماع على نسْخه”.

وفيما قالوه نظَر، فقد روى أحمد بن حنبل في (مسنده)، عن عبد الله بن عمرو,  أنه قال: “ائتوني برجُل قد شرب الخمر في الرابعة، فلَكُم أن أقتُلَه”. وحكي أيضًا عن الحسن البصري، وهو قول ابن حزم؛ فلا إجماع إذًا. وإن قلنا: إنّ خلاف أهل الظاهر لا يَقدح في الإجماع -على أحَد القوليْن- فقد قال به بعض الصحابة والتابعين.

والأمر الثالث: إذا ظهر أنّ الخلاف في قتْل شارب الخمر في الرابعة موجود، فينبغي أن يُمثّل بمثال آخَر أجمعوا على ترك العمل به؛ فنقول: روى أبو عيسى الترمذي، من حديث جابر, أنه قال: ((كنّا إذا حجَجْنا مع النبي صلى الله عليه وسلم نُلبِّي عن النساء، ونَرْمي عن الصبيان))، قال الترمذي بعد تخريجه: “هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلَّا من هذا الوجْه”، قال: “وقد أجمع أهل العلْم أنّ المرأة لا يلبِّي عنها غيرُها، هي تلبي عن نفسها”.

فهذا حديث قد أجمعوا على ترْك العمل به، وهو في كتاب الترمذي، فكان ينبغي له أن يستثنيه في العلل حين استثنى الحديثيْن المتقدِّميْن. وقد أجيب على الترمذي فيما اعتُرض عليه فيه بأجوبة عدّة. فإذا ترجّح أن لفظ رواية الترمذي غلَط، فلنا أن نقول: نحن لا نحكم على الحديث بالنسخ عند ترْك العمل به إجماعًا، إلَّا إذا علِمنا صحّته.

وقد أشار إلى ذلك: الفقيه الصيرفي في كتاب (الدلائل) عند الكلام على تعارض حديثيْن، فقال: “فإن أجمع على إبطال حُكم أحدِهما، فأحدُهما منسوخ أو غلَط، والآخر ثابت”.

فيمكن حمْل كلام الصيرفي على: ما إذا لم يَثبت الحديث الذي أُجمِع على ترْك العمل به، فإنّ الحكم عليه بالنسخ فرْع عن ثبوته. ويُمكن حمْل كلامه أيضًا على: ما إذا كان صحيحًا، وهو خبر آحاد، وأجمعوا على ترْك العمل به. ولا يتعيّن المصير إلى النسخ، لاحتمال وجود الغلَط من راويه؛ فهو كما قال: “منسوخ أو غلَط”.

error: النص محمي !!