رد فعل قريش وفداؤهم للأسرى
مكث أهل مكة ينوحون على قتلاهم مُدة، ثم تواصوا فيما بينهم ألَّا يسرعوا في بذل الفداء للأسرى، وقالوا: لا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء -أي حتى لا يبالغ المسلمون في أمر الفداء-، ولكنهم لم يطيقوا صبرًا على ما اتفقوا عليه، وانسل بعضهم واحدًا تلو الآخر يريدون فداء أسراهم، حتى إن أبا وداعة بن ضبيرة السهمي، وكان في أسارى القوم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن له بمكة ابنًا كيسًا تاجرًا ذا مال، وقد جاء الابن في طلب فداء أبيه، وكان هو أول مَنْ انسل ليلًا وقدم المدينة، وفدى أباه بأربعة آلاف درهم، وكان هذا أول أسير فدي من أسارى قريش، ثم بعثت قريش بعد ذلك في فداء أساراهم، وكان من الأسارى سهيل بن عمرو، وهو من كبار الرجال الذين تم أسرهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينما عاد من الطائف بعد أن ذهب إليها طلب أن يدخل مكة في جوار سهيل بن عمرو، فبعث إليه وإلى الأخنس بن شريق، وإلى المطعم بن عدي، فلم يجب إلا المطعم، وهاهنا هذا الرجل أسير مع أسارى قريش، وقد جيء به مجموعة يداه إلى عنقه، هذا الرجل الذي لم يُجِبْ طلبَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حينما بعث إليه في وقت هذه الشدة التي كان يمر بها النبي صلى الله عليه وسلم واستجاب لهذا الطلب المطعم بن عدي.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لو أن المطعم بن عدي حي لوهبت له هؤلاء النتنى”، يقصد الأسارى.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله دعني أنزع ثنية سهيل، وكان مشقوق الشفة العليا. فأراد عمر أن ينزع ثنيته حتى لا يقدر أن يتكلم؛ لأنه كان خطيبًا، حتى إذا ذهب يتكلم اندلع لسانه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا أُمثل حتى لا يُمثل بي، ولو كنت نبيًّا وعسى أن يقوم مقامًا تحمده له يا عمر، وقد حدث ذلك حقًّا وتحققت نبوءة ما قال به النبي صلى الله عليه وسلم حينما قام ذلك الرجل بعد أن أسلم، وبعد أن بلغ أهل مكة نبأ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، قام هذا الرجل ليشد من أزر المسلمين والإسلام في مكة بما قام يحفز الناس على الثبات على الدين، ويقول: إذا كان محمد قد مات فإن الله حي لا يموت، هذا الرجل جاء صديقه مكرز بن حفص ليقوم بفدائه.
كذلك كان من الأسارى العباس بن عبد المطلب وهو الذي عرض الأنصار أن يتنازلوا عن فدائه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أبى من ذلك، وأخذ من عمه الفداء، وألزمه بفداء ابني أخويه، وهنا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقف موقفًا لا محاباة فيه مع عمه العباس رضي الله عنه وأصر على أن يأخذ الفداء منه ومن ابني عمه وألزم عمه العباس بذلك.
وأيضًا كان من الأسارى أبو العاص بن الربيع زوج بنت النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وهي التي بعثت في فدائه مالًا كان فيه قلادة أعطتها أمها السيدة خديجة رضي الله عنها لها، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم رق لها، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا أسيرها وتردوا لها قلادتها.
فهنا نرى الالتزام ونبذ المحاباة في التعامل حتى مع أمس الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم عمه وابني عمه وزوج بنته صلى الله عليه وسلم.
لكنه صلى الله عليه وسلم كان قد أخذ على أبي العاص بن الربيع أن يبعث زوجه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوفى أبو العاص بذلك، ورجعت زينب، كما سنرى بعد ذلك.
وعلى الرغم من تشدده صلى الله عليه وسلم بأخذ الفداء من أمس الناس رحمًا به لأنهم أغنياء، إلا أننا نرى أنه صلى الله عليه وسلم مَنّ على أُناس من المشركين، ومنهم أبو عزة الشاعر، فكان هذا الرجل من أسارى قريش وقد شكا للنبي صلى الله عليه وسلم فقره وعوزه، فمَنَّ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ألا يظاهر عليه بشعره أحدًا، وأخلى سبيله، ولكنه عاد فألّب بشعره على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، وكان من أبواق الدعاية في الجمع لغزوة بدر، ولكنه وقع أسيرًا بعد أن خالف ما عاهد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان جزاءه القتل في غزوة أحد. وكان من الأسارى -كذلك- وهب بن عمير بن وهب الجمحي الذي حذر المسلمين قبل بداية المعركة، وكان هذا الرجل من شياطين العرب، وشياطين قريش شديد الإيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة، وكان جلس يومًا بعد الحرب مع صفوان بن أمية يتذاكران مصاب قريش ببدر، فقال عمير: والله لولا دين عليّ ليس عندي قضاؤه، وعيال أخشى عليهم الضيعة لركبت إلى محمد فأقتله، فإن ابني أسير عنده، فاغتنمها صفوان بن أمية، فقال له: عليّ دينك أنا أقضيه عنك، وعيالك مع عيالي أواسيهم ما بقوا لا يسعني شيء ويعجز عنهم، فقال له عمير: فاكتم عليّ قال: سأفعل، ثم أمر عمير بسيفه فشحذ له وسم، ثم انطلق حتى قدم المدينة، فبينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر، وما أكرمهم الله به إذ نظر إلى عمير قادمًا، وقد أناخ بعيره على باب المسجد متوشحًا سيفه، فقال: هذا عدو الله عمير بن وهب ما جاء إلا لشر، وهو الذي حرش بيننا وحذرنا للقوم يوم بدر، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره به فقال له صلى الله عليه وسلم: أدخله عليّ فأقبل به عمر آخذًا بحمالة سيفه في عنقه فلببه بها، وقال لمن كان معه من الأنصار ادخلوا على رسول الله، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر آخذ بحمالة سيفه في عنقه قال أرسله يا عمر، ثم قال: ادن يا عمير فدنا فقال له: فما جاء بك يا عمير؟ قال: جئت لهذا الأسير الذي في أيديكم فأحسنوا فيه، قال: فما بال السيف في عنقك؟ قال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئًا، قال اصدقني ما الذي جئت له؟ قال: ما جئت إلا لذلك، قال: بل قعدت أنت وصفوان بن أمية في الحجر، فذكرتما أصحاب القليب من قريش ثم قلت: لولا دين عليّ وعيال عندي لخرجت حتى أقتل محمدًا فتحمّل لك صفوان بدينك وعيالك على أن تقتلني، والله حائل بينك وبين ذلك، فقال عمير: أشهد أنك رسول الله قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، وما ينزل عليك من الوحي، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فوالله إني لأعلم ما أتاك به إلا الله، فالحمد لله الذي هداني للإسلام، وساقني هذا المساق، والله أعلم