زيادات الثقات
بعد أن تحدثنا عن التفرد؛ نتكلم عن زيادة الثقات:
إذا روى الثقة حديثًا إلا أنه زاد فيه كلمة أو جملة أو أكثر؛ انفرد بهذه الزيادة عن بقية الرواة الراوين لأصل الحديث -أي: الرواة الراوين للحديث بدون هذه الزيادة التي زادها الثقة- فينظر إلى هذه الزيادة التي زادها الثقة:
- إن كانت هذه الزيادة لا يوجد تعارض بينها وبين أصل الحديث، أي: الحديث بدون هذه الزيادة؛ فتكون هذه الزيادة كالحديث المستقل، الذي ينفرد بروايته ثقة؛ فتكون مقبولة عند جمهور العلماء، كما سبق في التفرد، وسيأتي لذلك مزيد بيان.
- إن كانت هذه الزيادة منافية لأصل الحديث؛ أي: بينها وبين الحديث بدون هذه الزيادة تعارض؛ فللعلماء في ذلك كلام. وألحق الحافظ ابن حجر بزيادة الثقة، زيادة راوي الحديث الحسن، وهو الراوي الصدوق، وعلى ذلك يكون البحث في حكم زيادة الراوي الثقة أو الصدوق، وقبل أن نتحدث عن حكم زيادة الراوي الثقة، أو الراوي الصدوق؛ يجب أن نعلم أن الزيادة الواقعة في متن الحديث تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: زيادة الصحابي.
القسم الثاني: زيادة غير الصحابي من الثقات.
أولًا: زيادة الصحابي: اتفق العلماء على قبول زيادة الصحابي، إذا صح إسناد الحديث إلى هذا الصحابي.
ثانيًا: زيادة غير الصحابي: اختلف العلماء في قبول زيادة غير الصحابي من التابعين الثقات؛ فمن بعدهم، وهذه مذاهبهم.
أولًا: مذهب الجمهور: ذهب جمهور العلماء من المحدثين والفقهاء إلى قبول زيادة الثقة مطلقًا، سواء وقعت ممن رواه أولًا ناقصًا، أم من غيره، وسواء تعلق بها حكم شرعي أم لا، وسواء غيرت الحكم الثابت أم لا، وسواء أوجبت نقض أحكام ثبتت بخبر ليست هي فيه أم لا، وقد ادعى ابن طاهر الاتفاق على هذا القول.
ثانيًا: قيل: لا تقبل زيادة الثقة مطلقًا لا ممن رواه ناقصًا ولا من غيره.
ثالثًا: قيل: تقبل إن زادها غير من رواه ناقصًا ولا تقبل ممن رواه مرة ناقصًا.
رابعًا: قال ابن الصباغ فيه: إن ذكر أنه سمع كل واحد من الخبرين في مجلسين؛ قبلت الزيادة وكانا خبرين، ويعمل بهما، وإن عزا ذلك إلى مجلس واحد، وقال: كنت أُنسيت هذه الزيادة قبل منه، وإلا وجب التوقف فيها.
قال ابن الصباغ أيضًا: إن زادها واحد وكان من رواه ناقصًا جماعة لا يجوز عليهم الوهم سقطت، وقال الصيرفي والخطيب: يشترط في قبول الزيادة كون من رواها حافظًا.
مناقشة هذه الأقوال: انتقد الحافظ ابن حجر من قبل الزيادة مطلقًا بدون قيد ولا شرط، وهم أصحاب الرأي الأول؛ فقال رحمه الله : واشتهر عن جمع من العلماء القول بقبول الزيادة مطلقًا، من غير تفصيل، ولا يتأتى ذلك على طريق المحدثين الذين يشترطون في الصحيح ألا يكون شاذًّا؛ ثم يفسرون الشذوذ: بمخالفة الثقة من هو أوثق منه.
والعجب ممن أغفل ذلك منهم، مع اعترافه باشتراط انتفاء الشذوذ في حد الحديث الصحيح، وكذا الحديث الحسن، والمنقول عن أئمة الحديث المتقدمين؛ كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعلي ابن المديني، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم، والنسائي، والدارقطني، وغيرهم؛ اعتبار الترجيح فيما يتعلق بالزيادة، ولا يعرف عن أحد منهم إطلاق قبول الزيادة، وأعجب من ذلك إطلاق كثير من الشافعية القول بقبول زيادة الثقة، مع أن نص الشافعي يدل على غير ذلك؛ فإنه قال في أثناء كلامه على ما يعتبر به حال الراوي في الضبط ما نصه: ويكون إذا شرك أحد من الحفاظ، لم يخالفه؛ فإن خالفه فوجد حديثه أنقص كان في ذلك دليل على صحة مخرج حديثه، ومتى خالف ما وصفت أضر ذلك بحديثه.
ومقتضى كلام الشافعي: أنه إذا خالف فوجد حديثه أزيد، أضر ذلك بحديثه؛ فدل على أن زيادة العدل عنده لا يلزم قبولها مطلقًا، وإنما تقبل من الحفاظ؛ فإنه اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث ما خالفه من الحفاظ، وجعل نقصان هذا الراوي من الحديث دليلًا على صحته؛ لأنه يدل على تحريه، وجعل ما عدا ذلك مضرًّا بحديثه؛ فدخلت فيه الزيادة، فلو كانت عنده مقبولة مطلقًا، لم تكن مضرة بصاحبها، وقد تنبه ابن الصلاح والنووي لما تنبه له الحافظ ابن حجر، ولذلك قسموا زيادة الثقة إلى ثلاثة أقسام:
أولًا: الزيادة غير المخالفة ولا المنافية لما رواه غيره؛ كأن ينفرد ثقة بجملة حديث لا تعرض فيها لما رواه غيره بمخالفة أصلًا، فهذه الزيادة مقبولة باتفاق العلماء كما قال الخطيب؛ لأن هذه الزيادة في حكم الحديث المستقل الذي ينفرد به الثقة، ولا يرويه غيره.
ثانيًا: زيادة مخالفة منافية لما رواه سائر الثقات؛ فترد هذه الزيادة التي خالف بها الثقة من هم أوثق منه، بالحفظ أو العدد؛ لأنها داخلة في حكم الحديث الشاذ المردود.
ثالثًا: زيادة لفظة في الحديث لم يذكرها سائر رواة الحديث الذي وقعت فيه الزيادة؛ فتخصص هذه الزيادة العام، وتقيد المطلق؛ فهذه الزيادة بينها وبين النوعين السابقين وجه شبه؛ فهي تشبه الزيادة المقبولة من حيث أنه لا منافاة بينها وبين أصل الحديث الذي زيدت فيه، وتشبه الزيادة المردودة من حيث أن ما رواه الجماعة عام، وما رواه المنفرد بالزيادة مخصوص، وفي ذلك مغايرة في الصفة، ونوع من المخالفة يختلف به الحكم.
قال الإمام النووي: والصحيح قبول هذه الزيادة. مثال ذلك: حديث حذيفة رضي الله عنه : «جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا» انفرد أبو مالك سعد بن طارق الأشجعي فقال: “جُعِلَت تربتُها لنا طهورًا” وسائر الرواة لم يذكروا ذلك؛ فهذا يشبه الأول المردود من حيث أن ما رواه الجماعة عام، وما رواه المنفرد بالزيادة مخصوص، وفي ذلك مغايرة في الصفة، ونوع من المخالفة يختلف به الحكم، ويشبه الثاني المقبول من حيث أنه لا منافاة بينهما.
ثم ذكر السيوطي أمثلة لما وقع فيه زيادة لفظة في الحديث؛ فقال رحمه الله : من أمثلة هذا الباب حديث الشيخين عن ابن مسعود قال: «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة في وقتها» الحديث أخرجه البخاري ومسلم، زاد الحسين بن مكرم وبندار في روايتهما لهذا الحديث: «في أول وقتها» والحديث بهذه الزيادة أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان في صحيحهما، وأخرجه الحاكم في (المستدرك)، ثم قال: هو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وهذه الزيادة صححها الحاكم وابن حبان وابن خزيمة.
حكم رواية جزء من الحديث: ولما تكلمنا عن حكم زيادة الثقات، رأينا أن نذكر حكم رواية جزء من الحديث؛ فلعل ما زاده الثقة في حديثه قد حذفه من رواه ناقصًا، وسنذكر مذاهب العلماء في ذلك:
أولًا: مذهب الجمهور:
ذهب الجمهور من أصحاب الحديث والفقه والأصول إلى أنه يجوز للراوي أن يروي جزءًا من الحديث بشروط وهي:
الشرط الأول: أن يكون الراوي عالمًا بكيفية ذلك.
الشرط الثاني: أن يكون الراوي الذي روى جزءًا من الحديث رفيع المنزلة بين العلماء، بعيدًا عن التهمة حتى لا يتهم، فأما من روى الحديث تامًّا، ثم خاف إن رواه ثانيًا ناقصًا أن يتهم بزيادة أولًا، أو نسيان لغفلة وقلة ضبط ثانيًا؛ فلا يجوز له أن يرويه ناقصًا بعد أن رواه تامًّا، ولا ابتداء إن كان قد تعين عليه أداؤه.
الشرط الثالث: أن لا يكون للجزء الذي رواه تعلقًا بما قبله ولا بما بعده؛ حتى لا يختل البيان، ولا تختلف الدلالة بما ترك، فلو كان لما رواه تعلقًا بما ترك؛ لترتب على ذلك تغير الأحكام، وهذا لا يجوز.
فإذا تحققت هذه الشروط الثلاثة؛ جاز للراوي أن يروي جزءًا من الحديث، سواء جوزنا الرواية بالمعنى أم لا، وسواء رواه قبل ذلك تامًّا أم لا، وهذا هو مذهب الإمام مسلم الذي نص عليه في مقدمة صحيحه، حيث قال: إنا نعمد إلى جملة ما أسند من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقسمها على ثلاثة أقسام، وثلاثة طبقات من الناس، على غير تكرار؛ إلا أن يأتي موضع لا يستغنى فيه عن ترداد حديث فيه زيادة معنى، أو إسناد يقع إلى جنب إسناد؛ لعلة تكون هناك؛ لأن المعنى الزائد في الحديث المحتاج إليه، يقوم مقام حديث تام فلا بد من إعادة الحديث الذي فيه ما وصفنا من الزيادة، أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن، ولكن فصله ربما تعثر من جملته؛ فإعادة الحديث بهيئته إذا ضاق ذلك أسلم.
وهكذا نرى أن الإمام مسلم لا يقول بجواز أن يروى جزء من الحديث على أطلاقه، بل حيث جاز ذلك؛ فقد يضطر إلى إعادة الحديث بتمامه، إذا لم يمكن فصل الجزء المحتاج إليه، أما إذا أمكن فصل الجزء بشرط الجمهور؛ فإنه يفصله لقوله إذا أمكن.
تقطيع الحديث في الأبواب: قد يحتاج الإمام من المحدثين، وخاصة الذين صنفوا كتبهم على أبواب الفقه، وكذلك الفقهاء وغيرهم إلى أن يستشهد الواحد منهم على مسألة من المسائل بحديث، غير أنه يرى أن هذا الحديث الذي يريد الاستشهاد به قد اشتمل على أكثر من مسألة، عند ذلك يلجأ الإمام منهم إلى الاقتصار على ما هو بحاجة إليه؛ للاستشهاد به، فيذكر جزء الحديث اختصارًا ومجانبة للتطويل.
قال الإمام النووي: وأما تقطيع المصنفين للحديث الواحد في الأبواب، فهو جائز واستبعد فيه الخلاف، قال: وقد استمر عليه عمل الأئمة الحفاظ من المحدثين، وغيرهم من أصناف العلماء. وهذا معنى قول الإمام مسلم رحمه الله : أو أن يفصل ذلك المعنى من جملة الحديث على اختصاره إذا أمكن. وهذا هو الذي عليه الإمام البخاري في صحيحه؛ حيث قطّع الحديث في الأبواب بسبب استنباط الأحكام منها، ولقد أكثر من ذلك في صحيحه رحمه الله .