سعيد بن منصور ومنهجه وسننه
من أوائل ما عُرف من السنن: (السنن) لسعيد بن منصور، وسماه ابن حزم مصنفًا وعدّه في المصنفات، وهو سعيد بن منصور بن شعبة شيخ الحرم أبو عثمان الخراساني المروزي، ثم البلخي، ثم المكي، المجاور بمكة، كان ثقة صادقًا من أوعية العلم، روى عنه أحمد وأبو داود ومسلم وغيرهم، أثنى عليه الإمام أحمد وفخّم أمره، وروى عنه أبو حاتم الرازي، وقال: هو ثقة من المتقنين الأثبات ممن جمع وصنف، وقال حرب الكرماني: أملى علينا سعيد بن منصور نحوًا من عشرة آلاف حديث من حفظه، وقال: صنف الكتب وكان موسعًا عليه، وكان من أبناء الثمانين أو أزيد، وتوفي في سنة سبع وعشرين ومائتين.
وكان محمد بن عبد الرحيم صاعقة الحافظ, إذا حدث عن سعيد أثنى عليه وأطراه، وقال: حدثنا سعيد بن منصور وكان ثبتًا، قال أبو عبد الله الحاكم: وهو راوية سفيان بن عيينة، وأحد أئمة الحديث، وله مصنفات كثيرة, متفق على إخراجه في الصحيحين، وروى الذهبي حديثًا من طريقه قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق قال: قال عبد الله -أي: ابن مسعود-: “من هاجر يبتغي شيئًا فهو له؛ هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها: أم قيس؛ فكان يقال له: مهاجر أم قيس”. قال الذهبي: إسناده صحيح، قال الكتاني عن (سنن سعيد بن منصور): هي من مظانّ المعضل والمنقطع والمرسل.
ومما رواه سعيد بن منصور قال: حدثنا هشيم قال: حدثنا العوام بن حوشب قال: حدثنا إبراهيم التيمي قال:” خلا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ذات يوم يحدث نفسه؛ فأرسل إلى ابن عباس فقال: كيف تختلف هذه الأمة, ونبيها واحد وكتابها واحد وقبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنا أُنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم أنزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يعرفون فيم نزل؛ فيكون لكل قوم فيه رأي؛ فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا. فزبره عمر -أي: زجره وانتهره- فانصرف ابن عباس ثم دعاه بعد؛ فعرف الذي قال، ثم قال: إيه, أعد عليّ”. ويظهر من هذه القصة أن إبراهيم التيمي لم يحضر ذلك وأنه نقله، ثم حذف من روى عنه؛ فيكون من قبيل المنقطع أو المرسل عند قوم.
وروى سعيد قال: أخبرنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن خيثمة بن أبي خيثمة الأنصاري البصري، أنه قال: “كان رجل يطوف وهو يقرأ سورة يوسف، ويجتمع الناس عليه؛ فإذا فرغ سأل، فقال الحسن: كنت مع عمران بن حصين, فمر بهذا السائل؛ فقام فاستمع لقراءته, فلما فرغ سأل، فقال عمران: إنا لله وإنا إليه راجعون، اذهب بنا؛ فإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((من قرأ القرآن, فليسأل الله U؛ فإنه سيجيء قوم يقرءون القرآن يسألون به الناس))” وهذا السند ظاهر الصحة.
وروى سعيد أيضًا قال: حدثنا خلف بن خليفة عن أبي هشام عن إبراهيم في قوله U: {ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ}الدخان: 3] قال: “أنزل القرآن جملة على جبريل #, وكان جبريل يجيء بعد إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-” وهذا قول يحتاج إلى دليل, وهو مقطوع.
وقال سعيد: حدثنا سفيان قال: حدثنا عبد العزيز بن رفيع أنه سمع شداد بن معقل، سمع عبد الله بن مسعود يقول: “أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما يبقى الصلاة، وإن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن يرفع -أو أوشك أن يرفع- قالوا: وكيف وقد أثبته الله في قلوبنا, وأثبتناه في المصاحف؟ قال: يسرى عليه ليلًا؛ فيذهب ما في قلوبكم ويرفع ما في المصاحف”، ثم قرأ عبد الله: {ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ}الإسراء: 86]، قال المعلق: سنده ضعيف, ولا يظهر ضعفه؛ وإنما يظهر اتصاله وقوته.
وقال سعيد بن منصور: “باب الرجل إذا لم يكن له وارث, يضع ماله حيث يشاء”، قال: حدثنا سفيان، قال: حدثني أبو إسحاق عن عمرو بن شرحبيل أنه قال: قال عبد الله: “إنكم معاشر همدان من أحجاجي بالكوفة؛ يموت أحدكم ولا يترك عصبة؛ فإذا كان كذلك فليوصِ بماله كله”، ثم قال: حدثنا أبو وكيع عن أبي ميسرة أنه قال: “قال لي عبد الله: يا أبا ميسرة؛ إنكم معاشر همدان يموت فيكم الميت لا يدرى من عصبته؛ فإذا كان كذلك فليضع ماله حيث يشاء”، قال سعيد: “عن أبي ميسرة” هو عمرو بن شرحبيل؛ فكان إذا ذكر الكنية أحيانًا يبين المكني، ثم قال سعيد: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن همام بن الحارث عن عمرو بن شرحبيل أنه قال: “قال لي عبد الله: إنكم معاشر أهل اليمن، من أجدر الناس أن يموت الرجل منكم ولا يدع عَصَبَة؛ فإذا كان كذلك فليضع ماله حيث شاء” فكرر الرواية عن عمرو بن شرحبيل ثلاث مرات, من ثلاث طرق.
ثم قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا مغيرة عن إبراهيم “أن ابن مسعود قال لأبي معمر: يا أبا معمر، إنكم معاشر أهل اليمن, مما يموت فيكم الميت لا يدرى من عصبته؛ فإذا كان أحدكم كذلك فليوصِ ماله كله حيث شاء”. ثم قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا يونس وهشام وابن عون ومنصور عن ابن سيرين أنه قال: “قلت لعبيدة: رجل ليس له عصبة يعرف، ولا لأحد عليه عقد؛ أيوصي بماله كله؟ قال: نعم, إن شاء”. ثم قال: حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد بن سيرين أنه قال: “سألت عبيدة عن رجل لم يعاقد أحدًا، وليست له عصبة تعرف؛ أيوصي بماله كله؟ قال: يوصي بماله كله إن شاء”. ثم قال: حدثنا سفيان عن ابن أبي خالد عن الشعبي عن مسروق مثله، ثم قال: حدثنا سفيان عن ابن أبي خالد عن الشعبي؛ أن مسروقًا كان يقول فيمن ليس لأحد عليه نعمة: يوصي بماله كله إن شاء.
وظهر من ذلك منهج سعيد في “سننه”, وهو أنه يكرر الرواية بعدة أسانيد لتأكيد ما يرويه عن الراوي الذي هو أصل في الرواية، وأن أكثر رواياته عن الكوفيين وعن البصريين، وأنه يمثل حديث أهل الكوفة وقد حوى منه الكثير، ومن أراد أن يعرف أقوال الشعبي وعبيدة وغيرهما ممن ذكرنا من الكبار الذين عاصروا الصحابة, والذين لهم باعٌ كبير في الفقه الذي أخذوه من الحديث، وقد يذكرون الكلام من عندهم وهو مطابق تمام الانطباق الحديث -يجد ذلك كله في (سنن سعيد بن منصور).
وقد احتوت (السنن) على الميراث والوصية والنكاح والطلاق والخلع والظهار والإيلاء والجهاد في نسخة طُبعت، وفي نسخة أخرى فيها التفسير وقبله فضائل القرآن، وكتاب فضائل القرآن عنده غير مبوّب، وكتب الأحكام مبوبة وعبارة عن مسائل محددة يذكر في كل مسألة ما قيل فيها؛ فهو يختلف عن المصنفات فيما يتصل بذكر المبيح وذكر المانع، ويعرض الباب جزءًا بعد جزءٍ، وشيئًا بعد شيء، ويعتمد في غالبه على أحاديث أهل الكوفة وأهل البصرة وخاصة في مجال الأحكام، وهو كبير جدًّا فيما يظهر مما طبع منه, وكما قلنا يكرر الأسانيد عن الراوي الواحد أو في الحديث الواحد، ويعتبر بحرًا وموسوعة لمن أراد أن يتبحر ويتوسع.