سيد قطب وعلاقته بالعقاد، وآراؤه في الشعر
سيد قطب وعلاقته بالعقاد:
كان بين العقاد وسيد قطب تشابه في الثقافة التراثية المتينة التي حصلها كل منهما، وكلاهما كان قارئًا واعيًا للثقافة الغربية، ينتقي منها على بصيرة دون مغالاة في رفضها أو قبولها، وكل من الرجلين عرف بشدة اعتداده برأيه، وإيمانه بمبادئه، وقدرته على المحاورة والإقناع، واستعداده لخوض لجج الخصومة الفكرية، والمعارك الأدبية، وتحمل التضحيات في سبيل ما يؤمن به.
التراث الفكري والأدبي للعقاد وسيد قطب متشابه في اتجاهاته العامة، وهو تراث غزير ومتنوع. كان العقاد ناقدًا، وكذلك كان سيد قطب. وكان العقاد شاعرًا وأديبًا، وكذلك كان سيد قطب. واهتم العقاد بالفكر الديني عامة، والفكر الإسلامي خاصة، وكتب عن موضوعات اجتماعية، وقضايا إنسانية، وعن مذاهب وشخصيات. وطرق سيد قطب بقلمه كل هذه الأبواب، كما كتب كل منهما سيرته الذاتية، هذا التشابه بين الرجلين لم يقف عند هذا الحد، وإنما كان هناك تشابه في المذهب الأدبي الذي اختاره كل منهما، والذي يمثل تجديدًا -كما قلت- يبدأ بشكري، والعقاد، والمازني، ويأخذ طريقه حتى يصل تأثيره إلى جماعة أبوللو، وما بعد أبوللو.
فالأسس التي دعا إليها نقاد الجيل الجديد في مضامين الشعر، ومواضيعه، وأطره، وأشكاله، وصوره، ولغته، والتي تناولت مهمة الشعر ووظيفته، وحقيقته، وماهيته، وصفة الشاعر العظيم، كل ذلك تعرض له العقاد، وتعرض له شكري، وتعرض له أيضًا سيد قطب في الكتب والمقالات النقدية.
ويبدو سيد قطب أقرب شعراء جيله من روح التجديد الراشد، وأشدهم تأثرًا بمبادئ التجديد الذي دعا إليه العقاد وزميلاه، فلم يجنح سيد قطب إلى تمجيد المثل الغربي، ولم يفتن بالفكر الأجنبي، ولم يهدر قيمة التراث العربي، وبرئ أسلوبه من الرطانة والعجمة، وسلم منهجه من التعصب لمنهج، أو الانغلاق على فكر، وأولى سيد قطب في تنظيره للشعر عناية خاصة لقوة شخصية الشاعر، وصحة إحساسه بالأشياء، وصدقه في التعبير عن هذا الإحساس، وعمق اتصاله بأسرار الكون، وينابيع الطبيعة، وحقائق الحياة. فالشاعر الحقيقي عنده: “هو الذي يحس بالحياة إحساسًا عميقًا، ويترجم عنها للأحياء، هو إنسان ممتاز؛ لأن الحياة صاغته على مثال خاص؛ ليؤدي بها مهمة خاصة. والأديب الكبير هو رسول من رسل الحياة إلى الآخرين الذين لم يمنحوا حق الاتصال، كما منحه ذلك الرسول، فهو يطلع من خفايا الحياة على ما لا يطلع عليه الآخرون، وهو يحسها في صميمها مجردة عن الملابسات الوقتية، والحدود الزمانية. يحسها كما انبثقت أول مرة من نبعها الأصيل، وكما تدفقت غير منقطعة في مجراها الواسع الطويل. ووظيفته: أن يفتح المنافذ بيننا، وبين هذا النبع بقدر ما يطيق. وقيمة الأديب الكبرى إنما تقاس بمقدار اتصاله بالنبع من وراء الحواجز والسدود”.
هذا كله كلام سيد قطب في الحديث عن الشاعر الحقيقي، وعن الأديب الكبير. وفي فهمه لطبيعة الشعر، ووظيفته، يذهب سيد قطب إلى أنه ينبغي أن يصور أعماق النفس، ويصف لك الشعور الحساس وصفًا غامضًا مبهمًا يدع لشعورك أن ينطلق، ولخيالك أن يتيه؛ لأنه لا يضع أمامك مقاييس وحدودًا، ولكنه يضعك في ميدان فسيح في عالم الروح الرحيب.
وعن أصالة الأديب صاحب الشخصية، وعلامات هذه الأصالة الدالة على شخصيته في تناول الأفكار، والتفاعل معها، والتعبير عنها يقول سيد قطب: “وطابع الشخصية هو السمة الأولى لكل أديب أصيل، وهو لا يقتصر على النظرة الشعورية إلى الكون والحياة، بل يتعداها إلى طريقة تناول الموضوع، أي: الأسلوب، وإلى التعبير نفسه وإلى اختيار الألفاظ فيه”.
هذه بعض آراء سيد قطب التي وردت في كتابه: (مهمة الشاعر في الحياة)، وفي كتابه: (النقد الأدبي أصوله ومناهجه). ونحن إذا تأملنا في هذا الكلام، وجدنا المبادئ والآراء التي آمن بها أبو شادي، ودعا إليها متحققة في هذا الكلام، ولكن عبارة سيد قطب في التعبير عنها أرصن، وأقوى، وأوضح. وهذه المبادئ التي وردت عند أبي شادي، وعند سيد قطب -كما قلت- أصولها عند العقاد، وشكري، والمازني. فنحن إذا قابلنا هذه الآراء بقول العقاد في خطاب شوقي مثلًا: “اعلم أيها الشاعر العظيم، أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء، لا من يعددها، ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء: ماذا يشبه؛ وإنما مزيته أن يقول لك: ما هو، ويكشف لك عن لبابه، وصلة الحياة به”.
ويقول عبد الرحمن شكري: “وكل شاعر عبقري خليق بأن يدعى متنبئًا، أليس هو الذي يرمي مجاهل الأبد بعين الصقر فيكشف عنها غطاء الظلام؟”. وبقول العقاد: “والشاعر في أوجز تعريف، هو: الإنسان الممتاز بالعاطفة، والنظرة الفاحصة إلى الحياة، وهو القادر على الصياغة الجميلة في إعرابه عن العواطف والنورات”.
أقول: إذا قارنا آراء أبي شادي وما قاله سيد قطب بهذا الكلام، تبين لنا أنها من وادٍ واحد، وتبين لنا أن سيد قطب خاصة اعتنق في تنظيره للشعر، ونقده الأفكار التي أذاعها المجددون، وفي مقدمتهم: العقاد الذي كان يمثل بالنسبة له أستاذًا، ومثلًا أعلى، ثم إننا نجد سيد قطب جعل من شعره وسيلة لتحقيق منهجه النقدي، كما فعل العقاد، وكما فعل شكري، وكما فعل زكي أبو شادي.
شعر سيد قطب:
فقد اتسم شعر سيد قطب بعمق النظرة إلى مشكلات الوجود، وظواهر الحياة، وبالتوهج العاطفي، وصدق التعبير عن النفس، مع البعد عن الليونة والرخاوة، واتسم كذلك بالمحافظة على فصاحة الألفاظ، وسلامة الأساليب، وبالثراء الموسيقي. وهذا المنهج الإبداعي شبيه جدًّا بالذي سار عليه النقاد الشعراء أصحاب الدعوة إلى التجديد الذين أطلق عليهم: مدرسة الجيل الجديد. هذا المنهج شبيه جدًّا بمنهج العقاد في شعره، وبمنهج عبد الرحمن شكري كذلك، بل إن الموضوعات التي اهتم بها هؤلاء الشعراء: العقاد، وزميلاه اهتم بها أيضًا سيد قطب في شعره، فمثلًا: موضوع الناس والأقدار، موضوع فكري فلسفي تأملي، جعل العقاد هذا الموضوع موضوعًا لقصيدة عنوانها: “حانوت القيود”، قدم لها بمقدمة نثرية قال فيها: “الحياة كالمرأة، إذا أحبت امرأ قيدته بأحابيلها، وعلقته بهواها، فمن كان حي النفس تحتفظ الحياة بوجوده مقيدا بالغرائز، والأهواء، ولا تضعف هذه الغرائز والأهواء في الإنسان حتى يكون منبوذًا من الحياة، كأنه عاشق لها مملول، لا تبالي هي أن تطلق له القيد وترسله حرًا متى شاء، فكلنا طالب قيد، وكلنا مزاحم على حانوت القيود. ونحن على هدى من سبل الحياة، ما دمنا مقيدين بوهم من أوهامها، أو عاطفة من عواطفها؛ لأن قيودها تلك هي الأزمة التي تقودنا بها إلى حيث تريد”.
بهذا التقديم النثري قدم العقاد قصيدته: “حانوت القيود” التي يقول فيها:
جزى الله حانوت القيود | * | فإنه مناط الأماني من بعيد ومكسب |
فهذا إلى قيد من العقل ناظر | * | وما العقل إلا من عقال مؤرب |
وهذا إلى قيد من الحب شاخص | * | وفي الحب قيد الجامح المتوثب |
ورب رخي البال تمت حظوظه | * | يقيد دنياه بعنقاء مغرب |
أماني يقفوها فتربط خطوه | * | رباط الدياجي خطوة المتنكب |
وآخر أضنته الملالة باسط | * | يديه إلى الأعمال في غير مأرب |
إذا ما رأى المكدود يمقت عيشه | * | تمنى على الأيام شقوة متعب |
وكم طامع في الجاه والجاه عصمة | * | ولكنه كالمعقل المتأشب |
ورب عقيم حطم العقم قيده | * | يحن إلى القيد الثقيل على الأب |
إذا منت الدنيا عليه أجابها | * | بلعنة موتور وعولة مترب |
هذه هي قصيدة الناس مع الحياة، تقيدهم بالرغائب والآمال، وتقودهم بالأماني، ومن حرم بعض الرغائب خفت عنه القيود. لكن الإنسان لا يرضى إلا بالقيود، فهذا يطلب قيد الحب، وذاك يطلب قيد العقل، وآخر يبحث عن قيد الجاه، والعقيم يحن إلى قيد الأبناء، وهكذا.
والناس مع ذلك لا يرضون عن أقدارهم، ولا يسعدون بحظوظهم، لكن هذه هي طبيعة الحياة، وإذا فرغ الإنسان من هذه القيود، أو فرع من هذه الرغائب، فإنه يفرغ من الحياة. يظل الإنسان ما بقي في الحياة طالبَ قيدٍ أو جاريًا وراء رغبة. ويعالج سيد قطب في شعره الموضوع نفسه في قصيدة بعنوان: “التجارب”، وكما كتب العقاد مقدمة نثرية لقصيدته، كتب سيد قطب أيضًا مقدمة نثرية لقصيدته: “كثيرًا ما يبرم الإنسان بماضيه أو حاضره، ويسخط على تجاربه ومصائبه، وقد تصور الشاعر شقيًّا أعفته الأقدار من ماضيه، وتجاربه، وأطلقته كأنما ولد في لحظته، ولكنه لم يستطب حاله؛ لأنه لم يجد ركيزة يركن إليها، وود لو أن الأقدار وهبته ماضيًا سعيدًا فاستجابت له، ولكنه عاد يشعر بغربته عن ذلك الماضي، ولم تعد هناك قيمة لآماله التي خلفها ماضيه هو، وارتبطت به، وعندئذٍ عاد لماضيه في لهفة، واشتياق إليه”.
وهذه أبيات من قصيدة سيد قطب، يقول فيها:
شكى بؤس ماضيه الحفيل الجوانب | * | بكل مصاب فادح العبء صائب |
وضاق به صدرًا على طول صحبه | * | تمل ويا بئس الأسى من مصاحب |
وود لو أن الدهر يعفيه برهة | * | من الغابر المملول جم النوائب |
فأصغت له الأقدار في أمنياته | * | على أنها لم تصغ يوم لطالب |
وأعفته من ماضيه حتى كأنه | * | وليد خلي القلب من كل نائب |
ولما استجابت الأقدار لهذا الرافض لماضيه المتبرم بحاله، لم يرضَ عن صنعها، وضاق بما استحدث له، فعاد إلى الأقدار يشكو صنيعها، ويوسعها في شكوه عتب عاتب.
ونجد هذا التواصل والتشابه الذي وجدناه في المبادئ النقدية، ووجدناه في موضوعات الشعر تطبيقًا، نجده كذلك في طرائق التصوير والتعبير؛ فقد استخدم العقاد، وزميلاه، وشعراء المهجر أيضًا القص والحوار إطارًا فنيًّا، ونمطًا تعبيريًّا؛ لعرض الأفكار والمواقف في كثير من القصائد. واستخدم سيد قطب، وغيره من شعراء أبوللو -أيضًا- القص والحوار إطارًا فنيًّا في كثير من القصائد.
والتشبيهات النفسية، والصور الخيالية التي ترجع إلى الإحساس النفسي نجدها أيضًا عند المجددين من المصريين والمهجريين، ونجد صداها كذلك عند الأبولليين، بل إننا أحيانًا نجد التأثر في النموذج الذي اخترناه بين سيد قطب والعقاد، نجد سيد قطب يتأثر بالعقاد في العبارة، والخيال معًا.
ففي قصيدة له بعنوان: “عاشق المحال” يتأثر سيد قطب بقصيدة العقاد: “ترجمة شيطان”، فعاشق المحال عند سيد قطب ليس واحدًا غير إبليس الذي ترجم له العقاد في قصيدته. يقول العقاد في صدر قصيدته:
صاغه الرحمن ذو الفضل العميم | * | غسق الظلماء في قاع سقر |
ورمى الأرض به رمي الرجيم | * | عبرة فاسمع أعاجيب العبر |
خلقة شاء لها الكنود | * | وأبى منها وفاء الشاكر |
قد درى السوء لها قبل الوجود | * | وتعالى من عليم قادر |
ويقول سيد قطب في قصيدته “عاشق المحال”:
ضقت بالقيد فانطلق | * | أيها الآبق الشرود |
قد تحررت فاستبق | * | للصراعات من جديد |
جمرة أنت تتقد | * | خلف ستر من الرماد |
وهي تذكو بلا مدد | * | ثم تغدو إلى نفاد |
أنت من طيف القلق | * | صاغك الله والجموح |
تعشق الأين والحرق | * | والعقابيل والجروح |
ضقت بالقيد من ذهب | * | ضقت بالأمن والقرار |
فانطلق ثم لا تثب | * | عشت للخوف والعثار |
فشيطان العقاد جاحد، كنود، مظلم، صاغه الله في قاع سقر، وكتب عليه الهبوط إلى الأرض ملعونًا شقيًا. وعاشق المحال عند سيد قطب آبق، شرود، جمرة تتقد، صاغه الله من طيف القلق والجموح، عاشق للتعب والعذاب، ضائق بالأمن والاستقرار، مصيره أن يعيش للخوف والعثار.
هذا التشابه في التنظير للشعر والدعوة إلى التجديد على أسس معينة، والتشابه في طريقة النظم، والأفكار، والموضوعات بين سيد قطب والعقاد، بل بين شعراء أبوللو ومن سبقهم من الشعراء المجددين: العقاد، وشكري، والمازني، والشعراء المهجريين يدل على أن مرحلة أبوللو كانت امتدادًا في التنظير والتطبيق لما سبقها من دعوات تجديدية، أهمها: دعوة مدرسة الجيل الجديد في مصر. بهذا نكون قد انتهينا من الحديث عن النقد عند جماعة أبوللو.