سَرْد حديث الصورة بطرقِه وألفاظِه
فقد وقع في بعض أحاديث الصفات خلاف بين الأئمة في إثبات ما دلَّت عليه لله من عدمه، وذلك بناء على إشكال معانيها عليهم، ومن هذه الأحاديث حديث: ((إن الله خلق آدم على صورته)). فقد كثر الكلام حول هذا الحديث, واختُلف في مرجع الضمير في قوله: ((صورته))، على مَن يعود؟
سَرْد حديث الصورة بطرقه وألفاظه:
أولًا: هذا الحديث ورد من عدة طرق:
1. من طريق عبدالرزاق، حدثنا معمر، عن همام بن منبه، عن أبي هريرة بلفظ: ((خلق الله عز وجل آدم على صورته، طوله ستون ذراعًا، فلما خلقه قال: اذهب فسلم على أولئك النفر، وهم نفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيُّونك، فإنها تحيتك وتحية من بعدك))…الحديث.
أخرجه -أي: هذا الحديث- عبد الرزاق 19435، والبخاري 3326, 6227, ومسلم 2841, وابن خزيمة في (التوحيد) 1 / 93 – 94، وابن حبان 6162، وابن منده في (الرد على الجهمية) ص 41 – 42، واللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) 711, 712، والبيهقي في (الأسماء والصفات) 635-636، والبغوي في (شرح السنة) 3298.
2. ومن طريق سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)).
أخرجه الحميدي 1121، ومسلم 2612, وأحمد 2 / 244, وابنه عبد الله في (السنة) 496، وابن حبان 5605, والآجري في (الشريعة) 721, والبيهقي في (الأسماء والصفات) 638، وفي (السنن) 8 / 327 ولفظ مسلم مختصر ليس فيه: ((فإن الله..)).
3. ومن طريق المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن أبي هريرة بلفظ: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته)).
أخرجه مسلم 2612، 115، والطيالسي 2681، وإسحاق بن راهويه في مسنده 131، وأحمد (9961]، وابن خزيمة في (التوحيد) 1/ 84، والبيهقي في (الأسماء والصفات) 637. ورواية الطيالسي وابن راهويه مقتصرة على الشطر الأول فقط. وأخرجه أحمد 8556، 9962، من طريق همام بن يحيى عن قتادة به.
4. ومن طريق محمد بن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة. أخرجه الحميدي 1120، وأحمد 2 / 251 – 434، وابن أبي عاصم 532، وابن خزيمة في (التوحيد) 1 / 82 – 83، والآجري في (الشريعة) 724، واللالكائي 715، والبيهقي في (الأسماء والصفات) 639، والخطيب في (تاريخ بغداد) 2/220-221، من طريق يحيى بن سعيد القطان, وابن أبي عاصم 531، وابن خزيمة 1/ 81، من طريق الليث بن سعد، كلاهما عن ابن عجلان به.
لفظ حديث يحيى: ((إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه، ولا يقل: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته)).
ولفظ الليث: ((لا يقولن أحدكم لأحد قبَّح الله وجهك، ووجهًا أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته)).
5. ومن طريق الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر بلفظ: “لا تقبحوا الوجه، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن”.
أخرجه عبد الله بن أحمد في (السنة) 498، وابن أبي عاصم في (السنة) 529، وابن خزيمة في (التوحيد) 1/85، والآجري في (الشريعة) 725، والدارقطني في (الصفات) 45، 48، والبيهقي في (الأسماء والصفات) 640، كلهم من طريق جرير عن الأعمش به.
وقد أعل ابن خزيمة هذا اللفظ من هذا الطريق بثلاث علل:
العلة الأولى: أن الثوري قد خالف الأعمش في إسناده، فأرسله الثوري ولم يقل: عن ابن عمر.
أخرجه ابن خزيمة في (التوحيد) 1/86، من طريق سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء مرسلًا، لم يذكر فيه ابن عمر.
وفي (المنتخب من العلل) للخلال ابن قدامة ص 265، قال المروذي: قلت لأبي عبد الله: كيف تقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((خلق آدم على صورته))؟ قال الأعمش: يقول: عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء، عن ابن عمر: ((إن الله خلق آدم على صورته)). فأما الثوري فأوقفه يعني: حديث ابن عمر.
وهذا مشكل، اللهم إلا أن يكون مراد الإمام أحمد بالموقوف أي: المرسل، يعني: الراوي وقف به عند عطاء ولم يجاوزه, ويكون هذا من اختلاف الرواة على الثوري.
العلة الثانية: أي: العلة الثانية: أن الأعمش مدلس لم يذكر أنه سمعه من حبيب بن أبي ثابت.
العلة الثالثة: أن حبيب بن أبي ثابت أيضًا مدلس لم يعلم أنه سمعه من عطاء.
وقد ذكر الألباني -رحمه الله- هذه العلل في (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة).
وزاد علة رابعة: وهي: جرير بن عبد الحميد فإنه وإن كان ثقة, فقد ذكر الذهبي في ترجمته من (الميزان) أن البيهقي في سننه في ثلاثين حديثًا لجرير بن عبد الحميد قال: وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ.
ومما يؤيد ذلك أنه رواه مرة عند ابن أبي عاصم 530، وكذا اللالكائي برقم 716، بلفظ: ((على صورته))، ولم يذكر: “الرحمن” وهذا الصحيح المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من الطرق الصحيحة عن أبي هريرة. (سلسة الأحاديث الضعيفة والموضوعة) 1176.
قال طارق عوض الله في حاشيته على (المنتخب من العلل) للخلال: وهذه العلة قوية جدًّا؛ لأن بهذا يسقط الحديث عن الأعمش أصلًا، ولا يبقى إلا حديث الثوري، وقد عرفت حاله.
ومما يؤكد قوة هذه العلة: أن الإمام الدارقطني ذكر هذا الحديث في (الأفراد) و(الغرائب) له، كما في أطرافه لابن طاهر 3136، وقال الدارقطني: تفرد به جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عطاء. (المنتخب من العلل) للخلال لابن قدامة ص 269.
وقد زاد بعض الباحثين علة خامسة على ما سبق وهي الانقطاع في الإسناد؛ فإن عطاء بن أبي رباح لم يسمع من ابن عمر، نص على ذلك الإمام أحمد وعلي بن المديني، كما في (جامع التحصيل) للعلائي ص 237، رقم 520.
وفي (المراسيل) لابن أبي حاتم ص 128، قال أبو عبد الله -يعني: الإمام أحمد: عطاء -يعني: ابن أبي رباح- قد رأى ابن عمر ولم يسمع منه.
وقد حاول الشيخ العلامة حمود التويجري -رحمه الله- أن يجيب عن العلل الأربعة في كتابه (عقيدة أهل الإيمان) من عدة أوجه, وفي بعض أجوبته نظر! ومما ذكره من الأوجه، قال: الوجه الثاني: أن يقال: إن الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه قد صححَا حديث ابن عمر رضي الله عنه الذي فيه: “إن الله خلق آدم على صورة الرحمن”…إلخ.
ثم قال: وإذا علم أن الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه قد صححَا حديث ابن عمر رضي الله عنه الذي جاء فيه: “إن الله خلق آدم على صورة الرحمن” فلا ينبغي أن يلتفت إلى تضعيف ابن خزيمة له؛ فضلًا عن تضعيف الألباني له تقليدًا لابن خزيمة؛ وذلك لأن أحمد وإسحاق أعلم بالأسانيد والعلل ممن أقدم على تضعيف الحديث بغير مستند صحيح. (عقيدة أهل الإيمان) ص 22 – 37.
وهذا لا يجري في محل الاحتجاج، وذلك أن المقام يقتضي بسط الأدلة العلمية التي تؤيد دعواه، وإلا فإن قول فلان لا يعتبر حجة على فلان الآخر، ولو كان سابقًا عليه في الرتبة والتاريخ.
وهذا الوجه الذي ذكره الشيخ -رحمه الله- ليس حجة قوية، أما إسحاق بن راهويه فقد ثبت عنه تصحيح الحديث، كما صرح بذلك حرب الكرماني في كتاب (السنة)، وليس كل إنسان يعتمد على تصحيحه، إذ قد يصححه تبعًا لغيره ولو لم تظهر له علته.
وأما تصحيح الإمام أحمد للحديث فليس على أنه ثابت، وإنما لأجل أن يحتجَّ به على أن الضمير في قوله صلى الله عليه وسلم: ((على صورته)) يعود إلى الله عز وجل على أنه قد تقدم عن الإمام أحمد ما يدل على عدم صحة رواية: “صورة الرحمن” فيما حكاه المروزي عنه.
وأما الجواب عما نقله الذهبي في (الميزان) في ترجمة حمدان بن علي الوراق فقد أجاب عنه طارق عوض الله في حاشيته على (المنتخب من العلل) للخلال ص 267، بجواب نفيس قال: ويصعب أن نفهم من كلام أحمد الذي حكاه الذهبي أنه يصحح الحديث المذكور، وإن كان في بعض كلامه ما قد يوهم ذلك، وذلك قوله: فأين الذي يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله خلق آدم على صورة الرحمن”؛ حيث قال: هذا في معرض الرد على مَن فسر حديث: ((على صورته)) بأن معناه: على صورة آدم, فقد يوهم ذلك صحة الحديث عنده.
غير أن المتأمل لكلام الإمام أحمد يظهر له بجلاء أن الإمام لا يعتمد على هذا الحديث في نقض التأويل، حتى يصح أن يقال: إنه احتج به واعتمد عليه، فالظاهر للمتأمل غير ذلك، وإن الإمام إنما يستأنس به فحسب، فالمعروف من عادة العلماء في باب الاستشهاد التسامح في سوق الروايات الضعيفة إذا لم تكن منكرة، وكانت موافقة لظاهر الروايات الصحيحة التي في الباب، فيستأنسون بها لبيان ما يدل عليه ظاهر الأحاديث الصحيحة، وصنيعهم هذا لا يدل على اعتمادهم على تلك الروايات الضعيفة، ولا يدل أيضًا على أنهم اعتمدوا عليها في تفسير الحديث الصحيح، الذي ربما يكون معناه محتملًا لهذا المعنى الذي تضمنه هذا الحديث الضعيف ولغيره من المعاني…
وقد قيل: إن رواية: “على صورة الرحمن” مما رواه بعض الرواة بالمعنى، فإن صح هذا، فليس في الإسناد إلا إمام من أئمة أهل السنة، فالأخذ بتأويله وبفهمه أولى من الأخذ بتأويل المتأخر. اهـ.
وقد ورد لحديث ابن عمر هذا شواهد:
1. منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه, فإن الله خلق آدم على صورة وجهه)). أخرجه ابن أبي عاصم في (السنة) 528، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي رافع، عن أبي هريرة. وإسناده صحيح إلا أن لفظه: ((على صورة وجهه)) غير محفوظة، بل المحفوظ في الطرق الصحيحة: ((على صورته)).
قال الألباني -رحمه الله- في تعليقه على كتاب (السنة): ثم إن سعيد بن أبي عروبة قد خُولف في إسناده عن قتادة.
فقال المثنى بن سعيد عن قتادة، عن أبي أيوب، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: ((على صورته)) أخرجه مسلم وأحمد وابن خزيمة والبيهقي، وتابعه همام، حدثنا قتادة به سندًا ولفظًا، أخرجه مسلم وأحمد، فهذا هو المحفوظ عن قتادة إسنادًا ومتنًا.
2. ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من قاتل فليجتنب الوجه، فإن صورة وجه الإنسان على صورة وجه الرحمن” أخرجه ابن أبي عاصم 533، من طريق ابن أبي مريم، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي يونس سليم بن جبير، عن أبي هريرة. وإسناده ضعيف، لضعف ابن لهيعة، والمحفوظ في الحديث عن أبي هريرة هو: ((على صورته)).
فالخلاصة: أن حديث ابن عمر: “على صورة الرحمن”، لا يصح؛ لأنه معلول بعلل خمس, والمحفوظ في الحديث هو: ((فإن الله خلق آدم على صورته)).