شبهات المخالفين لأهل السنة في صفة الكلام، والرد عليها
بعدما ذكرنا مذاهب المخالفين في هذه المسألة، نذكر الشبهات التي اعتمدوا عليها، ونتناول هذه الشبهات بالرد.
ولكننا نحب أن نقول أولًا: إن بعض الأقوال التي سبق أن ذكرناها في مذاهب الناس بيّنة البطلان والضلال، ولا تحتاج إلى أن نقف عندها كقول أهل الاتحاد وكقول الفلاسفة أيضًا، وقد سبق أن ذكرنا ردًّا مجملًا على الفلاسفة, كما ذكرنا ردًّا على الاتحادية. لهذا سنتناول هنا بالتفصيل الرد على شبهات الفرق التي قد تكون لها وجود إلى يومنا هذا, وتَظن أنها على الحق، وبعضها بالفعل موجود ومنتشر بين الناس، واعتقادهم له قَبول لدى كثير من العامة.
1. الرد على الجهمية والمعتزلة:
قالت الجهمية والمعتزلة: إن القرآن الكريم مخلوق. وشبهتهم في ذلك كما ذكرها شارح (الطحاوية) -رحمه الله- أنهم يقولون: يلزم منه التشبيه والتجسيم. فيقال لهم: إذا قلنا: إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم، فنحن نقول ونثبت لهم أنه يتكلم بكلام يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى, وما دام أنه يتكلم كما يليق بجلاله فلا يلزمنا إذًا تشبيه ولا تجسيم، وكلامهم في هذا في الحقيقة إنما قصدوا به, وأرادوا من ورائه تنفير الناس عن مذهب أهل السنة والجماعة.
ونقول في الرد عليهم: ألم تسمعوا أن الله قال: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس: 65]؟ فنحن نؤمن، وأنتم أيضًا تؤمنون بأنها تَكَلَّم وستتكلم، ولا نعلم كيف تتكلم؟ وكذا قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فُصِّلَــت: 21]. وكذلك تسبيح الحصَى والطعام، وسلام الحجر، كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد على مقاطع الحروف، إذًا حصل من بعض المخلوقات كلام ولا يشبه أصوات وكلام المخلوقين، وليس لها لسان أو شفتان أو ما إلى ذلك، فكيف نقول ذلك عن رب العزة والجلال سبحانه وتعالى أو يَتَوَهَّم متوهمٌ أنه سبحانه وتعالى إذا أثبت له صفة الكلام، أنه يكون قد شبهه أو وقع في التجسيم، أو ما إلى ذلك؟
هذا كلام باطل, فبعض المخلوقات تتكلم ولا نعرف كيف تتكلم؛ فنحن إذًا نقرر ونثبت صفةَ الكلام لله عز وجل, ولا نعرف حقيقة أو كيفية كلام الحق سبحانه وتعالى.
ومما استدل به الجهمية والمعتزلة على أن القرآن الكريم مخلوق: قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزُّخرُف: 3], فقالوا: “جعل” بمعنى: “خلق”؛ وعليه فالقرآن الكريم مخلوق، ويصبح معنى {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا}: خلقناه قرآنًا عربيًّا، وهذا في الحقيقة قول باطل واستدلال فاسد؛ لأن “جعل” إذا تعدت إلى مفعول واحد كانت بمعنى: “خلق”، أما إذا تعدت إلى مفعولين لم تكن بمعنى خلق؛ بل كانت على معنى آخر.
فمثلًا في قول الله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1]، “جعل” هنا بمعنى: “خلق”؛ لأنها نصبت مفعولًا واحدًا ألا وهو “الظلمات”.
ومن ذلك أيضًا قول الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، أي: وخلقنا، وقوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31]، أي: وخلقنا في الأرض رواسي.
أما إذا تعدت إلى مفعولين لم تكن بمعنى “خلق” بحال، وإنما تكون بمعنى: “صيّر” مثلًا، أو ما إلى ذلك مما يليق بسياق الكلام.
والقائل بأن “جعل” إن تعدت إلى مفعولين تكون بمعنى “خلق”، إن اعتقد ذلك اعتقادًا وهو يدري ما يقول، قد يكفر -والعِياذ بالله تعالى- لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل: 91]، فـ “جعل”، هنا نصبت مفعولين؛ وعليه ليست بمعنى “خلق”، ولا يجوز أن يقول إنسان: وقد خلقتم الله؛ هذا كفر -والعياذ بالله تعالى- فلما نصبت “جعل” مفعولين خرجت عن كونها بمعنى “خلق”، كقول الله سبحانه: {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224]، أي: لا تُصيّروا الله عرضة لأيمانكم، أو لا تتخذوا الله عرضة لأيمانكم، فـ”جعل” هنا ليست بمعنى “خلق”، ومثله قوله: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِين} [الحِجر: 91]، هل يجوز أن يقول قائل: الذين خلقوا القرآن؟! أو: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ} [الإسراء: 22]، هل يحق ويجوز ويصح أن يقول قائل: ولا تخلق مع الله إلهًا آخرً؟!
أيضًا من الشبه التي استند إليها الجهمية والمعتزلة في أن القرآن مخلوق: ذِكرُ كلمة “الإنزال” مع القرآن الكريم، حيث قالوا: يقول الله عز وجل: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} [غافر: 2]، وكلمة {تَنزِيلُ} تفيد أنه مخلوق نظير إنزال المطر من السماء، فالله عز وجل أخبر أنه: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء} [الأنعام: 99]، يعني بذلك: المطر، والمطر مخلوق، كذلك ما نزل من عند الله -ويعنون بذلك القرآن الكريم- أيضًا مخلوق، نظير إنزال المطر، وإنزال الحديد، وما إلى ذلك.
ونجيب على هذا القول، فنقول: إن إنزال القرآن فيه مذكور أنه إنزال من الله، قال تعالى: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} [غافر: 1، 2]، وقال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم} [الزُّمَر: 1]، وقال تعالى: {تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} [فُصِّلَت: 2]، وغير ذلك من الآيات الكثيرة التي ذكر الله سبحانه وتعالى فيها أن إنزال القرآن من عنده سبحانه، بخلاف إنزال المطر؛ فإنه مقيّد بأنه مُنزل من السماء وليس من الله عز وجل, وفَرْق كبير بين الأمرين: فبالنسبة للقرآن الكريم ذَكَر رب العزة والجلال سبحانه وتعالى إنزال القرآن الكريم منه، قال: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ}، {تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم} ، أما المطر فهو مقيد بأنه منزل من السماء، ومن ذلك قول الله: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء}، والسماء: العلوّ، وقد جاء في مكان آخر أنه منزل من المُزن -والمزن: السحاب- وفي مكان ثالث أنه منزل من المعصِرات، وهذا يدل على أنه يوجد فرق كبير بين الإنزالين، ولا يدل على أن ذكر إنزال القرآن يفيد أن القرآن الكريم مخلوق.
وبهذا تبطل شبه المعتزلة والجهمية التي استندوا إليها, واستدلوا بها على أن القرآن الكريم مخلوق.
2. الرد على الكُلّابية والأشاعرة:
ونحن نجمع هنا بين الكلابية والأشاعرة؛ لأن كلامَهم في هذه المسألة واحدٌ، وقد تناول كثير من علماء السلف الرد على الكلابية والأشعرية، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
ويقول الإمام العلامة الدكتور محمد خليل هَرَّاس -رحمة الله تعالى عليه- في ردّه على الكلابية والأشعرية -وقد دَعَّمَ كلامَه بأقوال لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وأما الفرقة الكلابية والأشعرية، فقد ذهبوا إلى أن الله تعالى متكلم بكلام قائم بذاته أزلًا وأبدًا، لا يتعلق بمشيئته وقدرته، وقالوا: إن ذلك الكلام معنى واحد في الأزل؛ هو الأمر بكل مأمور، والنهي عن كل محذور، والخبر عن كل مخبر عنه… إلى آخر ما صوَّرَ به مذهبَهم في ذلك.
ثم قال: وقد اعترض ابن تيمية على هذا المذهب من وجوه كثيرة، أهمها: أن يقال لهم: إن كون الكلام معنًى واحدًا هو: الأمر والنهي والخبر، غير معقول؛ فنحن إذا عرّبنا التوراة والإنجيل لم يكن معنى ذلك معنى القرآن، وكذلك معنى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] ليس هو معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب} [المَسَد: 1]، وليس معنى آية الكرسي هو معنى الدَّيْن، فإذا جوّزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئًا واحدًا، فجوّزوا أن يكون العلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر صفةً واحدةً، وهذا لم يقله أحد؛ فإن الناس في الصفات إما مثبت لها قائل بالتعدد، وإما نافٍ لها، وأما القول بثبوتها واتحادها فخلاف الإجماع.
ثم يعلّق الشيخ الهراس على كلام ابن تيمية النفيس هذا، فيقول:
والحق أن هذا الإلزام قوي، ليس من السهل التخلص منه، وقد اعترف بذلك محققو المتأخرين من الأشاعرة؛ حتى قال الآمدي في (أبكار الأفكار) ما نصه: والحق: أن ما أُريد من الإشكال على القول باتحاد الكلام, وعَوْد الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل، وعسى أن يكون عند غيري حله؛ ولعسر جوابه ذهب بعض أصحابنا إلى القول بأن كلام الله تعالى القائم بذاته خمس صفات مختلفة.
وأيضًا يقال لهم: الله تعالى قال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} [النساء: 163]، إلى قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}، ففضل سبحانه وتعالى موسى بالكلام على غيره ممن أوحى الله إليهم، وهذا دليل على أن الله يكلم عبده تكليمًا زائدًا على الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص، وإذا كان الكلام معنًى واحدًا لم يكن هناك فرق بين التكليم الذي خُص به موسى, والوحي العام الذي هو لآحاد العباد.
ثم قال لهم أيضًا: وأنتم تقولون: إن الله سبحانه وتعالى كلّم موسى، بمعنى: أنه خلق فيه إدراكًا فهم به ذلك المعنى النفسي، إذا كان كلامه تعالى عندكم بغير حرف ولا صوت، وحينئذٍ يمكن أن يقال: إما أن يكون موسى قد فهم ذلك المعنى كله أو بعضه، فإن كان قد فهمه كله فقد عَلِم عِلْم الله تعالى، وأحاط بجميع أخباره وأوامره، وهذا معلوم الفساد ضرورةً، وإن كان قد سمع البعض فقد تعدد كلام الله وتبعّض، وهو عندكم معنى واحد لا تعدد فيه ولا تبعّض.
وهكذا نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في هذه المسألة يشتدّ في نقد الكلابية والأشعرية، وإن كان يعتقد أن قولهم أقرب إلى السلف من قول غيرهم، ولكن لما قالوا بالكلام النفسي وقعوا في خطأ عظيم، وخالفوا الحق والصواب في هذه المسألة العظيمة، فقولهم بأن كلام الله عز وجل معنى واحدٌ قائم بالنفس يلزمهم -بناء على ذلك- أن نقول لهم بأن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد}ستصبح هي معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب}، وهذا لم يقله أحد بحال من الأحوال؛ لأن لكل آية معنًى ولكل آية مفهومًا.
ويردّ قولَ مَن قال بالقول والكلام النفسي، وبأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)), وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يُحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث ألا تَكَلَّمُوا في الصلاة)). واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامدًا لغير مصلحتها -بطلت صلاته، واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية، وطلب دنيا لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك؛ فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام، فلو قام بنفس القائم للصلاة كلام ولم يتكلم به، لم تبطل صلاته؛ لأنه لم يتكلم به, فدل ذلك على أن ما قام بالنفس لا يعد كلامًا.
وقد أشار الشيخ حافظ الدين النسفي -رحمه الله- في (المنار) إلى أن القرآن اسمٌ للنظم والمعنى, فالإعجاز حصل بنظمه ومعناه، أي: حصل بنظم القرآن وبمعنى القرآن؛ فالنظم والمعنى والمنطوق والمقروء هو كلام الله سبحانه وتعالى.
إذًا: ما ذهب إليه الأشاعرة والكلابية من القول بالكلام النفسي، وأنه معنى واحد قام بذات الله سبحانه وتعالى -كلام غير صحيح؛ لأن الكلام ليس معنًى واحدًا؛ فليس معنى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} [الفَلَق: 1]، هو معنى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُون} [الكافرون: 1]، مثلًا، والقرآن الكريم يشتمل على أوامر ونواهٍ، وقد تكلم الله عز وجل بها كما كلم بعض عباده بالأزل، وكما سيكلم بعض عباده فيما سيأتي بعد -إن شاء الله تعالى- وهذا من نعيم أهل الجنة. هذا إلى جانب أن القول بالكلام النفسي كلام باطل، لم يقل به أحد من السلف, لا من الصحابة، ولا من التابعين، وإنما حدث بعد القرون الفاضلة المتأخرة، وما يقوم بنفس المتكلم ولا يتكلم به لا يعد كلامًا بحال.
ونشير هنا إلى أن الإمام الأشعري -رحمه الله- كان يقول بقول ابن كلاب في المرحلة الانتقالية بين الاعتزال وبين تمحيص رجوعه إلى منهج ومذهب السلف؛ فقد أخذ بعض أقوال عبد الله بن سعيد بن كلاب القطّان وقال بها -رحمه الله- ثم رجع عنها، ولكن أتباعه من بعده هم الذين استمروا على ما كان عليه في المرحلة الانتقالية، ولم يرجعوا إلى قوله الأخير، والأَوْلى بهم أن يرجعوا إلى قول إمامهم وإلى ما مات عليه -رحمه الله-.
وقد نص على ذلك في كتابه (الإبانة) وفي (رسالة إلى أهل الثغر), وقد يُنكر البعضُ رسالةَ (الإبانة) أو يتنكر أيضًا لـ(رسالة إلى أهل الثغر), وكلاهما ثابت ومعلوم لدي أهل العلم والتحقيق. ولكن على فرض إنكار واحد منهما، فإنه قد نص في كتاب (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) في نهاية الجزء الأول منه -رحمه الله- على أنه قائل, وملتزم بمنهج أهل السنة والجماعة.
3. أصل القول بأن القرآن كلام الله:
قال البعض: إن القرآن الكريم حكاية عن كلام الله عز وجل، والبعض قال: القرآن الكريم عبارة عن كلام الله سبحانه وتعالى.
يبين هنا شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أصل هذه المسألة، ومن قالها؟ وقد حقق المقام فيها فقال: واعلم أن أصل القول بالعبارة -أي: القرآن عبارة عن كلام الله سبحانه وتعالى, أو حكاية عن كلام الله عز وجل فيما بعد-أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب هو أول من قال في الإسلام: إن معنى القرآن الكريم كلام الله, وحروفه ليست كلام الله، فأخذ بنصف قول المعتزلة ونصف قول أهل السنة والجماعة. وكان قد ذهب إلى إثبات الصفات لله تعالى، وخالف المعتزلة في ذلك، وأثبت لله عز وجل العلوّ على العرش، ومباينة الله سبحانه وتعالى لمخلوقاته، وقرر ذلك تقريرًا هو أكمل من تقرير أتباعه بعده.
وكان الناس قد تكلموا فيمن بلّغ كلام غيره: هل يقال له: حكاية عنه أم لا؟ وأكثر المعتزلة قالوا: هو حكاية عنه، فقال ابن كلاب: القرآن العربي حكاية عن كلام الله، ليس بكلام الله، فالمعتزلة قالوا: القرآن مخلوق، والمتلوّ هذا حكاية عن كلام الله سبحانه وتعالى, وابن كلاب وافق المعتزلة في هذه المسألة؛ ذلك أن ابن كلاب أثبت الصفات الذاتية لله سبحانه وتعالى ولكنه توقف في صفات الأفعال، ولما كان الكلام أيضًا -أي: كلام الله عز وجل- صفة فعل قائمة بذات الله تعالى، تحدث باختياره في وقت دون وقت، قال ابن كلاب: القرآن حكاية عن كلام الله تعالى.
ثم جاء بعده أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- فسلك مسلكه في مرحلة من المراحل في إثبات أكثر الصفات، وفي مسألة القرآن أيضًا, واستدرك عليه قوله: إن هذا حكاية، وقال: الحكاية إنما تكون مثل المحكيّ، فهذا يناسب قول المعتزلة، وإنما يناسب قولنا أن نقول: هو عبارة عن كلام الله؛ لأن الكلام ليس من جنس العبارة. فأنكر أهل السنة والجماعة عليهم ذلك، وأنكروا عليهم أمورًا، منها: أنهم حينما يقولون بأن كلام الله سبحانه وتعالى معنى قائم بذات الله، وأن القرآن العربي ليس كلام الله سبحانه وتعالى يكونون بذلك قد رجعوا إلى قول المعتزلة، وكذلك قولهم بأن الأمر والنهي والخبر معنى واحد، وأن معنى التوارة هو معنى الإنجيل، ومعنى الإنجيل هو معنى القرآن؛ فهذا كلام معلوم الفساد بالضرورة.
ويلزم على قولهم أيضًا: أن ما نزل به جبريل من المعنى واللفظ، وما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته -ليس هو كلام الله سبحانه وتعالى, ولا شك أن هذا كله باطل.
4. الرد على الكرامية:
قالت الكرامية: إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته، بالقرآن العربي وغيره، ولكن لم يكن يمكنه أن يتكلم بمشيئته في الأزل؛ لامتناع حوادث لا أول لها. وقولهم هذا غير صحيح؛ فهؤلاء في الحقيقة جعلوا الله في الأزل غير قادر على الكلام بمشيئته ولا على الفعل، ثم جعلوا الفعل والكلام ممكنًا مقدورًا من غير تجدد شيء أوجب القدرة والإمكان؛ فَهُم بهذا جعلوا الله سبحانه وتعالى -وحاشاه- عاجزًا عن الكلام في الأزل، ولا شك أن هذا كلام باطل، لا يليق أن يقوله مسلم يعرف جلال الله سبحانه وتعالى وقدر الله عز وجل.
5. مسائل تتعلق بصفة الكلام:
في الحقيقة هذه مسائل مهمة للغاية، ومتممة لما تحدثوا عنه، ونذكره هنا من منهج أهل السنة والجماعة في ذلك.
المسألة الأولى: مسألة لفظي بالقرآن مخلوق:
وهي ما تعرف بمسألة “اللفظ”، وهذه المسألة قد أخذت حيّزا كبيرًا في الفكر الإسلامي في فترة من الفترات، وقد ذكر الإمام أحمد -رحمه الله- في رسالته (السنة) قوله المشهور: “من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع”, وقد اختلف العلماء في توجيه هذا القول الذي ذكره الإمام أحمد -رحمه الله-.
وقبل أن نذكر هذا التوجيه، نريد أن نشير إلى أن الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- امتُحن في هذه المسألة، وابتُلي ابتلاءً شديدًا -رحمه الله- ولكنه وقَفَ، وأيدّه الله عز وجل في هذه المحنة، ولم يخالف الحقَّ فيها -رحمه الله- حتى إنه سُجِنَ، وضرب، وعذّب، وأوذي -رحمه الله- في هذه المسألة؛ ومن ذلك كان له موقف فريد متميز، وسد كلَّ ذريعة يمكن أن يدخل منها داخل للقول بأن كلام الله سبحانه وتعالى مخلوق.
ومن هنا حينما نذكر توجيهَ العلماء لقول الإمام أحمد السابق, نرى أن بعضهم قال: إن الإمام أحمد -رحمه الله- سَدَّ الذريعة، أي: قال هذا القول من باب سد الذريعة؛ لأنه منعَ من إطلاق لفظ المخلوق نفيًا وإثباتًا على اللفظ.
وقالت طائفة أخرى -منها ابن قتيبة-: إنما كره أحمد ذلك ومنع منه؛ لأن اللفظ في اللغة: الرمي والإسقاط، يقال: لَفِظَ الطعامَ مِنْ فِيهِ، ولفظ الشيء من يده: إذا رمَى به؛ فكره أحمد إطلاق ذلك على القرآن.
وقالت طائفة أخرى: إنما مراد أحمد أن اللفظ غير الملفوظ؛ فلذلك قال: “إن من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق فهو جهمي”، وأما منعه أن يقال: “لفظي بالقرآن غير مخلوق”، فإنما منع ذلك؛ لأنه عدول عن نفس قول السلف؛ فإن السلف قالوا: القرآن غير مخلوق، والقرآن اسم يتناول اللفظ والمعنى، فإذا خص اللفظ بالذكر، كأن يقول: لفظي بالقرآن، وخص اللفظ بالذكر فقط بكونه غير مخلوق، كان ذلك زيادةً في الكلام، أو نقصًا من المعنى، فإن القرآن الكريم كله غير مخلوق؛ فلا وجهَ لتخصيص ذلك بألفاظ خاصة، وهذا كما قال قائل مثلًا: السبع الطوال من القرآن غير مخلوقة، فإنه وإن كان صحيحًا، لكن هذا التخصيص ممنوع منه.
وكل هذا عدول عما أراده الإمام أحمد -رحمه الله- والمنع في النفي والإثبات من كلام الإمام أحمد من كمال علمه باللغة والسُّنة، وتحقيقه لهذا الباب؛ لأنه -رحمه الله- امتُحن بما لم يمتحن به أحد غيره، وصار كلامُه قدوةً وإمامًا لحزب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، والذي قصده أحمد أن اللفظ يراد به أمران:
أحدهما: الملفوظ نفسه، وهو غير مقدور للعبد ولا فعل له، والملفوظ هو: كلام الله.
الثاني: التلفظ به، والأداء… إلخ، وفعل العبد؛ فإطلاق الخلق على اللفظ قد يوهم المعنى الأول وهو الملفوظ نفسه، وهذا خطأ لأنه كلام الله عز وجل, وإطلاق نفي الخلق عليه -عندما قلنا: القرآن الكريم غير مخلوق- قد يوهم المعنى الثاني، وهو: التلفظ والأداء، وصوت العبد وحركته بالقرآن، وهو أيضًا خطأ؛ ومن هنا منع الإمام أحمد -رحمه الله- الإطلاقين؛ أي: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال: غير مخلوق؛ لأن اللفظ يراد به أمران: الملفوظ نفسه، وهو كلام الله عز وجل وهذا غير مخلوق، والتلفظ به والأداء؛ وهو فعل العبد، وحركاته، وأداؤه، وصوته؛ وهذا مخلوق، فلو أُطلق على فعل العبد، أو على القرآن بصورة عامة، أو على اللفظ بصورة عامة: أنه غير مخلوق, فقد يوهم أن المراد: أصوات العباد غير مخلوقة، وهذا خطأ.
ولذلك فأبو عبد الله البخاري -رحمه الله- يؤيد ويتفق مع وجهة الإمام أحمد ولا يخالفه؛ إلا أنه ميّز وفصّل وأشبع الكلام في ذلك وفرّق بين ما قام بالرب، وبين ما قام بالعبد، فأوقع المخلوقَ على تلفظ العباد، وأصواتهم، وحركاتهم، وإكسابهم، ونفى اسم الخلق عن الملفوظ، وهو القرآن الذي سمعه جبرائيل من الله تعالى، وسمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبرائيل.
وقد شَفَى الإمام البخاري ذلك في كتابه (خلق أفعال العباد)، وأتى فيه من الفرقان والبيان بما يزيل الشبهةَ ويوضح الحقَّ، ويبيّن محله من الإمامة والدين، وردّ -رحمه الله- على الطائفتين أحسنَ الردّ.
والإمام البخاري -رحمه الله- يفرق بين اللفظ والملفوظ، فهو إن قال بأن اللفظ مخلوق، وهو فعل العبد وحركاته وأداؤه، فهو محق في ذلك. أما الملفوظ -ألا هو كلام الله سبحانه وتعالى- فهو كلام الله الذي تكلم به، وهو غير مخلوق، والبخاري يوافق الإمام أحمد على ذلك.
وقد نص الإمام أحمد كثيرًا وشدد النكير على إطلاق هذا القول؛ بسبب الفتنة التي وقعت في عصره -رحمه الله- فأراد أن يسد الباب في هذه المسألة.
إذًا: الإمام أحمد لما قال: “لفظي بالقرآن مخلوق” أراد أن يسد الباب، ويغلقه في وجه المبتدعة الذين قالوا بأن القرآن مخلوق؛ وإلا فالإمام أحمد -رحمه الله- يتفق مع الإمام البخاري في أن “لفظي بالقرآن مخلوق”، يراد بلفظي هنا معنى: ملفوظي بالقرآن، وهو كلام الله، فهذا غير مخلوق، وقد يعنى به: صوتي وأدائي وحركتي بالقرآن الكريم، فهذا لا شك من فعل العبد، وهو مخلوق.
المسألة الثانية: التلاوة والمتلوّ:
الإمام أحمد -رحمه الله- وغيرُه من أئمة السنة يفرقون بين التلاوة وهو صوت العبد، وبين القرآن الذي تكلم الله به؛ ومن هنا نص الإمام أحمد -رحمه الله- في رواية جماعة من أصحابه عنه على أن الصوت صوت العبد، فقال في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا مَن لَمْ يتغنَّ بالقرآن)): يجهر به ويُحسِّنه بصوته ما استطاع، وقد نص على ذلك الأئمة كالبخاري وغيره.
قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه: باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الماهر بالقرآن مع الكرام البررة))، و((زيّنوا القرآن بأصواتكم))، ثم احتج بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما أَذِنَ الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت، يتغني بالقرآن، يجهر به))، فأضاف الصوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم ساق حديث البراء: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في العشاء بـ”التين والزيتون”, فما سمعت صوتًا أحسنَ منه))، فأضاف الصوت إليه، ثم ذكر حديث ابن عباس: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متواريًا بمكة، وكان يرفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون سبُّوا القرآن ومَن جاء به، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا})) [الإسراء: 110].
ثم قال الإمام البخاري -رحمه الله- مؤكدًا ومفرِّقًا بين التلاوة والمتلوّ، ومبيّنًا أن التلاوة -وهي فعل العبد- مخلوقة، أما المتلوّ فهو كلام الله عز وجل الذي تكلم به؛ وهو صفة من صفات ذاته: (باب قراءة الفاجر، والمنافق، وأصواتهم، وتلاوتهم لا تجاوز تراقيهم).
وذكر في الباب حديث أبي سعيد رضي الله عنه: ((يخرج أناس من قبل المشرق يقرءون القرآن, لا يجاوز تراقيهم))، ومعلوم أن المراد: التلاوة والأداء، وما قام بهم من الأصوات، وأنها لم تجاوز حناجرهم.
ونحن نذكر هذا؛ لأن الإمام البخاري -رحمه الله- قد امتُحن بفرقة تقول بأن اللفظ أيضًا غير مخلوق، فأراد أن يبيّن ذلك -رحمه الله-.
فلما امتحن الإمام البخاري -رحمه الله- ظن البعض أن هناك فرقًا بينه وبين الإمام أحمد, فقد أراد فقط أن يؤكد هذه الحقيقة، وأن يبيّن أن صوتَ العبد حقيقة، وكلام الله سبحانه وتعالى حقيقة، وأن العبد يؤدي القرآن بصوته كما يؤدي النبي صلى الله عليه وسلم القراءة بصوته، فالعبد مخلوق، وصفاته مخلوقة، وأفعاله مخلوقة، أما كلام الله سبحانه وتعالى فهو غير مخلوق.
والإمام البخاري احتج في كتابه (خلق أفعال العباد) على ذلك بنصوص التبليغ، كقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 67]، وكقول الله سبحانه: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاَغُ} [الشورى: 48]، وكقوله: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي} [الأعراف: 79].
وهذا من رسوخه -رحمه الله- في العلم؛ فإن ذلك يتضمن أصلين ضل فيهما أهل الزيغ:
الأصل الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الكلام إلا مجرد تبليغه، فلو كان هو قد أنشأ ألفاظه لم يكن مبلِّغًا، بل مُنشئًا مُبتدِئًا، ولا تعقل الأمم كلها من التبليغ سوى تأدية كلام الغير بألفاظه ومعانيه.
ولهذا يضاف الكلام إلى المبلَّغ عنه لا إلى المبلِّغ. وأيضًا فالتبليغ والبلاغ هو الإيصال، وهو قد يتعدى من بلغ إذا وصل، والإيصال حقيقة: أن يورد إلى الموصل إليه ما حمّله إياه غيره، فله مجرد إيصاله .
الأصل الثاني: أن التبليغ فعل المبلغ، وهو مأمور به مقدور له، وتبليغه هو تلاوته بصوت نفسه، فلو كان الصوت والتلاوة وصوت المتكلم به أزليًّا وتلاوته، لم يكن فعلًا مأمورًا به مضافًا إلى المأمور.
وبالجملة: فالتبليغ هو صوت المبلغ القائم به.
قال البخاري -رحمه الله-: باب ما جاء في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية))، ((وليبلغ الشاهد الغائب))، “وإن الوحي قد انقطع”، فتأمل مقصوده -رحمه الله- بقوله: “إن الوحي قد انقطع”، فلو كانت أصواتنا بالقرآن هي نفس الصوت القديم الذي تكلم الله تعالى به -لم يكن الوحي قد انقطع، بل هو متصل ما دامت أصوات العباد مسموعةً بالتلاوة.
فالقائلون: إن هذا الصوت القديم ظهر عند تلاوة التالي؛ وهو الصوت الذي أوحَى الله به الوحيَ إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو غير منقطع, لزمه لزومًا بيّنًا أن الوحي متصل غير منقطع.