Top
Image Alt

شبهة: وضع الأحاديث في القرنين الأول والثاني نتيجة لتطور المسلمين

  /  شبهة: وضع الأحاديث في القرنين الأول والثاني نتيجة لتطور المسلمين

شبهة: وضع الأحاديث في القرنين الأول والثاني نتيجة لتطور المسلمين

نستعرض بعض الشُّبَه التي أثارها أعداءُ الإسلام من المستشرقين، واقتنع بها بعض المسلمين، ورددوها من وراء المستشرقين.

من هذه الشبه: يقولون: إن الأحاديث وُضعت في القرنين الأول والثاني نتيجة لتطور المسلمين، وشبهة أخرى تقول: إن الأمراء الأمويين والعباسيين بدءًا من معاوية رضي الله عنه استغلُّوا علماء المسلمين لوضع ما يثبّت ملكهم، وشبهة ثالثة: أن حَمَلَة الإسلام من الصحابة ومن التابعين ومن بعدهم كانوا جنودًا للأمراء في ذلك، وشبهة: أنهم استجازوا الكذب -أي: علماء المسلمين- تأكيدًا لهذه الأمور أو إثباتًا لها، ويسوقون في ذلك أيضًا -كشبهة خامسة- بعض الأحاديث التي يرون أنها وُضعت؛ تأكيدًا لملك الأمويين والعباسيين، وإثباتًا للحجة، أو استنادًا إلى حجة شرعية من خلال وضع أحاديث تؤيِّد هذا المنحى، الذي يزعم الزاعمون أنه قد ثبت أن علماء المسلمين قد وضعوا هذه الأحاديثَ؛ تأييدًا لموقف الخلفاء، وتثبيتًا لملكهم كما ذكرنا.

الرد على هذه الشبه:

الذي تولَّى كِبَرَ هذا الأمر هو “جولدت سيهر” في كتبه المعروفة التي كانت مصدرًا لكثير ممَّن كتبوا في هذه المسألة، ونقلوا عنه كثيرًا من أفكاره واعتبروها أفكارًا علمية تقوم على البحث، وعلى تأكيد الأمور بالأدلة الشرعية من خلال كتب المسلمين في هذا الأمر.

يقول: “جولدت سيهر” في الشبهة الأولى:

إن القسم الأكبر من الحديث ليس إلا نتيجة للتطور الديني، والسياسي، والاجتماعي للإسلام في القرنين الأول والثاني. ولا ندري ما مصدره في هذه الفِرية، لكن مفهوم الشبهة أنه كلما حدث تطور ديني، أو سياسي، أو اجتماعي في الإسلام وضَع الوضاعون له بأمر من الخلفاء أو بإيحاء منهم الأحاديثَ التي تؤيِّد أو تؤكد ما يُريده الحكام أن يقولوه في هذا الصدد.

هذه الفرية يكذّبها واقع المسلمين. كيف؟

رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بتأسيس الدولة الإسلامية، ووضع لها القواعد والأسس التي بنَى عليها المسلمون بعد ذلك؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الدولة إلى وقد تحدَّدت معالمها، وتبينت أسسها، والله قد أكمل رسالة الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله -تبارك وتعالى-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3] إذن الإسلام كمل، وتمَّ، أي: هذا الدين الكامل التام الذي تضمنه القرآن الكريم، وتضمنته السنة المطهرة قد كمل وتم، ولا مجالَ فيه لزيادة ولا نقصان، فقد يكون هناك شرح لبعض النصوص واستنباط الأحكام منها، وهذا اجتهاد في ضوء النصوص التي كملت وتمَّت، والتي نزلت وانتهى أمرها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك استقرَّ الأمر على أن المصدرين الأساسيين للإسلام هما القرآن والسنة، وقد تعهَّد الله بحفظهما، ووردت الأدلة القاطعة في وجوب تحكيم القرآن الكريم، وتحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أمر من أمور الإسلام.

إذن، الإسلام قد استكمل بنيانه ووضحت معالمه وأسسه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك إذن مجال لِأَن توضع لَبِنَات جديدة في بناء الإسلام؛ نتيجة للتطور الاقتصادي والديني والسياسي إلى آخره، إنما كانوا يأتون بالنصوص التي قُرِّرت من قبل ذلك ليطبقوها على المستحدثات في حياة الأمة من الوقائع التي تستجد في حياة الناس، ومهمة أهل العلم في هذا أن يدخلوا هذه الأمور المستحدثة تحت قواعدها الشرعية الكلية المنظمة لها، والتي ثبتت قبل ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.

إذن، ليس هناك مجال لإضافة نصوص جديدة، لا من القرآن، ولا من السنة، حاشا وكلا، والكل يعلم ذلك، تمامًا كما في عصرنا هذا حين يبحث العلماء مثلًا عن بعض القضايا المستحدثة في حياة الناس، مثل: التبرع بالأعضاء، وأعمال البنوك، وما إلى ذلك؛ فإنهم لا يأتون بنصوص شرعية استحداثًا من عند أنفسهم، إنما كل اجتهادهم هو في إدخال هذه الأمور المستحدثة تحت قواعدها المنظمة لها من خلال الأدلة الواردة شرعًا في القرآن والسنة، فهل ينطبق مثلًا على أعمال البنوك -مفهوم الربا- أو لا ينطبق؟ هل يجوز التبرع بالأعضاء أو لا يجوز؟ إلى آخر القضايا المستحدثة في حياة الناس، هل نستطيع أن نقول في زماننا هذا مثلًا: إن هناك -ونحن لا نساوي الجيل الأول في الورع والتقوى- مِنَّا مَن يجرؤ على وضع حديث يؤيِّد به أمرًا استُحدث في أمور الناس؟

فالصحابة قد أدُّووا ما عليهم من حفظ الدين وصيانة الشريعة، وكما قلنا: كل الاجتهادات التي حدثت هي في فَهم النصوص واستنباط الأحكام منها، وفي إدخال الجزئيات والأمور التي حدثت جديدًا في حياة الناس تحت قواعدها الكلية المنظمة لها، وهذا عمل المجتهدين في كل زمان ومكان.

إذن، رسول الله صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء، تركنا على الطريق الواضحة الجلية، ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها إلا هالك، ولذلك أمرنا في خُطبة الوداع بأن نستمسك بكتاب الله -تبارك وتعالى- وأمرنا في أحاديث أخرى عند الحاكم وغيره بأن نستمسك بالقرآن والسنة: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما؛ كتاب الله وسنتي))، فهو يأمرنا بالرجوع إلى هذين الأمرين المصدرين الرئيسين للإسلام، وهما القرآن والسنة، بعد أن انتهى أمرهم تم نزولهما تم توثيقهما، وتمت معرفة الأمة بهما، وطُلب من الأمة بالنسبة للسنة أن تتواصل في تبليغها: ((ليبلغ الشاهد الغائب))، ((بلغوا عني ولو آية)) وتلقفت الأمة الكريمة هذه الأوامر النبوية العظيمة، وسارعت إلى حفظ الروايات، وإلى نقلها إلى الأجيال التالية بعد ذلك؛ إلى أن أُودعت بطون الكتب المعروفة لدينا، والتي تعتبر هي مصادرنا الأساسية في استدلالنا على أمور الشرع أي: القرآن الكريم والسنة المطهرة.

إذن هذه الفرية مفتراة، وكل حديث له إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إسناده المتصل الذي هو الشرط الأول من شروط صحة الحديث، ومعنى اتصال السند: أن كل راوٍ يتلقى الحديث من شيخه الذي فوقه مباشرة بدون انقطاع، وبدون خلل، وبدون فجوة في الإسناد، أيًّا كان السند بين الراوي للحديث، مثلًا: بين البخاري النبي صلى الله عليه وسلم سبعة أو ثمانية أو أكثر أو أقل نشترط ونتأكد من ذلك من خلال المعلومات المتوافرة عن كل الرواة، أنه لا بد من أن يثبت لدينا أن كل راوٍ قد تلقَّى الحديثَ بواحدٍ من طرق التلقي المعتمدة عند العلماء والمعروفة بطرق التحمل والأداء، بدون أي خلل، وقد وضعوا تسمية لكل خلل في الإسناد ما بين منقطع، ومعضل، وما بين مرسل… إلى آخره، في تفصيلات كثيرة في علم مصطلح الحديث.

والذي نركز عليه في هذا الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقل إلى الرفيق الأعلى إلا وقد كمل بناء الإسلام، وتمت مصادره من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة في وضوح وجلاء.

يقول فضيلة المرحوم الشيخ مصطفى السباعي -رحمه الله تعالى- في هذا الصدد: فما توفي رسول الله إلا وقد كان الإسلام ناضجًا تامًّا، لا طفلًا يافعًا، كما يدَّعي هذا المستشرق، نعم، لقد كان من آثار الفتوحات الإسلامية أن واجه المسلمين جزئيات وحوادث لم ينصَّ على بعضها في القرآن والسنة؛ فأعملوا آراءَهم فيها؛ قياسًا واستنباطًا حتى وضعوا لها الأحكامَ، وهم في ذلك لم يخرجوا عن دائرة الإسلام وتعاليمه، وحسبك أن تعلم مدى نضوج الإسلام في عصره الأول أن عمر رضي الله عنه سيطر على مملكتي كسرى وقيصر، وهما ما هما في الحضارة والمدنية، فاستطاع أن يَسُوس أمورهم، ويحكم شعوبهما بأكمل وأعدل مما كان كسرى وقيصر يسوسان بها مملكتيهما، أترى لو كان الإسلام طفلًا كيف كان يستطيع عمر رضي الله عنه أن ينهض بهذا العبء، ويسوس ذلك الملك الواسع، ويجعل لهم من النظم ما جعله ينعم بالأمن والسعادة ما لم ينعم بهما في عهد ملكيهما السابقين؟

على أن الباحث المنصف يجد أن المسلمين في مختلف بقاع الأرض التي وصلوا إليها كانوا يتعبَّدون عبادةً واحدةً، ويتعاملون بأحكام واحدة، ويُقيمون أسس أسرهم وبُيوتهم على أساس واحد، وهكذا كانوا متحدين في العبادات، والمعاملات، والعقيدة، والعادات غالبًا، ولا يمكن أن يكون ذلك لو لم يكن لهم قبل مغادرتهم جزيرة العرب نظام تامّ ناضج، وضَع لهم أسس حياتهم في مختلف نواحيها.

ولو كان الحديث أو القسم الأكبر منه نتيجة للتطور الديني في القرنين الأولين؛ للزم حتمًا ألا تتحدَا عبادة المسلم في شمال أفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب الصين، إذ إن البيئة في كل منهما مختلفة عن الأخرى تمام الاختلاف، فكيف اتحدَا في العبادة والتشريع والآداب وبينهما من البعد ما بينهما؟.

نحن نقول: إن مهمة المجتهدين أن يدخلوا هذه الجزئيات والمستحدثات تحت قواعدها الكلية، ولا يأتون بنصوص جديدة، وإذا كان أتوا بنصوص جديدة فما السبب في توقف الإتيان بالنصوص المفتراة، كما يزعم ذلك المستشرق؟ ولا يزال التطور يحدث في حياة الناس، بل إن التطور في عصرنا هذا يُعدُّ تطورًا هائلًا في كل جوانب الحياة.

فإنما كل جهد المجتهدين -كما قلنا- إدخال تلك الجزئيات تحت قواعدها الشرعية المنظمة لها، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، وذلك كان من أسباب اختلاف العلماء حول بعض المسائل الفقهية؛ وفقًا لاجتهاداتهم في إدخال هذه الجزئيات تحت قواعدها الكلية.

ويشير الدكتور مصطفى إسماعيل إلى مسألة هامة، كيف تتطور حياة الناس والدولة الإسلامية أصبحت متسعة من حدود الصين شرقًا إلى حدود المغرب غربًا، ومن أواسط روسيا شمالًا إلى نيجيريا جنوبًا؟ يعني: تقريبًا المسلمون يحكمون نصف الكرة الأرضية المعروفة في ذاك الزمان السالف، وكان المعروف ثلاث قارات: أوربا وأفريقيا وأسيا، والدولة الإسلامية تقريبًا تحكم نصف هذه الكرة، فمن أفغانستان شرقًا إلى المغرب غربًا العادات واحدة، العبادة واحدة، الأخلاق واحدة، المعاملات واحدة، والأسر تقوم على أسس واحدة، وكل ذلك لا يُنكره منكر، وصيامهم واحد في رمضان، وحجهم واحد في ذي الحجة… إلى آخر كل ذلك.

فهذا التطور الذي يتكلم عنه ذلك المستشرق لا يُحْدِث اختلافًا ما بين مشرق ومغرب مع اختلاف البيئة، ومع اختلاف الثقافات، واختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية وغيرها، ومع اختلاف الألسنة، فكل ذلك ينصهر في بوتقة واحدة، ولا يحدث بينها خلاف أبدًا في أمر أصيل من أمور الإسلام؛ إنما الاختلافات التي حدثت هي في تعدد الأفهام في النصوص، وهو اختلاف تنوع، وليس اختلاف تضاد، وتظل الأمة بمعالمها الأساسية ثابتة لا تتغيّر، ولا تتبدَّل.

ويقال بعد ذلك: إن الأحاديث وضعت نتيجة تطور المسلمين الديني والسياسي، كلما استجدت فيهم أمور سياسية وضعوا لها أحاديث، وكلما استجدت أمور اجتماعية وضعوا لها حديثًا، ما هذا الهراء؟ وأين الدليل عليه من واقع الأمة؟ وأين التباين بين أفراد الأمة، ولا أدري كيف يُخدع بعض الناس بهذا الكلام الذي لا أساس له من الصحة، ولا من الواقع، ويرددونه في كتبهم بكل أسف؟

إذن، القول بأن التطور الاجتماعي والسياسي للأمة هو الذي فرض بعضًا أو كثيرًا من الأحاديث التي وضعت، هذا قول مردود على صاحبه.

قد يحاول البعض أن يستشكل على ذلك بأن السنة تأخر تدوينها، ولذلك الشبهات متكاملة، أو هم يحاولون أن يصنعوا بينها خطًّا متكاملًا يخدم فكرة واحدةً، وهي الطعن في السنة، وإسقاط حجيتها، وعدم العمل بها، وصولًا إلى تعطيل القرآن عن الفهم والتطبيق؛ ليضيع الإسلام كما يتصورون هم، ولن يحدث ذلك أبدًا بإذن الله -تبارك وتعالى- إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

فالأحاديث كانت متداولة بين الأمة، وقضية التدوين لها ظروفها، وهناك اجتهادات ورسائل علمية أثبتت أن التدوين بدأ من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبإذن منه، وكان آخر الأمرين من النبي صلى الله عليه وسلم هو الإذن بالكتابة؛ فكتب كثير من الصحابة هذه الأحاديث وتتناقلها الأمة بين علمائها الكبار عن طريق الرواية بالمشافهة، وأيضًا عن طريق الصحف المكتوبة، ونحن لم ينتصف القرن الثاني الهجري إلا وقد وجدت لدينا مصنفات، وأبرز مثال على ذلك (موطأ الإمام مالك) المتوفى سنة 179 -رحمه الله تعالى- و(سيرة ابن إسحاق) وهو متوفى سنة 151 أو 152 على خلاف في سنة وفاته، وكانت هذه الكتب هي المصدر الذي اعتمد عليه الناس بعد ذلك في السنة، يعني: تميزت العلوم وصنِّف فيها، بل وصلنا إلى عصر النضوج العلمي بالمصنفات الكاملة.

إذن، تطور المجتمع لا علاقة له بإضافة أحاديث كذب، بل إن هذا التطور ظل محكومًا في عصور الإسلام الأولى، وفي نقائه وصفائه بالأدلة الشرعية المأخوذة من كتاب ربنا، ومن سنة نبينا صلى الله عليه وسلم والأدلة على ذلك كثيرة، ويكفي أن نشير إلى ما ذكره فضيلة الشيخ مصطفى السباعي -عليه رحمة الله ورضوانه- من أن هذه الأمة كانت أحكامها واحدة، وعبادتها واحدة، وأسرهم واحدة، لم يفرق بين الأمة في شيء، ولم توضع قوانين مثلًا في المغرب تناسب البيئة المغربية، وقوانين في مصر مثلًا تناسب البيئة المصرية، وقوانين في أفغانستان تناسب البيئة الأفغانية، كل يحكم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وقيام المذاهب التي يحاول أن يستدل بها البعض في هذه الفترة، إنما هي تأخذ من القرآن والسنة. هذه العبارة تقريبًا وردت عن أئمتنا الكبار الذين يعول عليهم في أمور الدين: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”، و”كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم “. المشروعية هي للقرآن الكريم ولسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ورغم التطور الهائل في حياة الأمة لا تجد أمرًا استُجدَّ ويستدلون عليه بالقرآن والسنة إلا وقد سبق بأقوال من الصحابة والتابعين، ولا يقول أحد منهم قولًا إلا بالأدلة من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، فليس هناك مجال للوضع أبدًا، ولا يوجد أيُّ دافع لهذا، بل إن تقوى العلماء وورعهم أشهر من أن نتوقف معه أو أن نقيم عليه أدلة.

ومن الشبه أيضًا: يقول المستشرق “جولدت سيهر”: بأنه قد حدث خلاف بين الأمويين والعلماء الأتقياء -علماء الحديث- جماعة الأمويين جماعة دنيويين، لا هَمَّ لهم إلا الفتوحات والاستعمار. فهم يصورون الفتوحات الإسلامية على أنها استعمار، فهذا هو كلام المستشرقين. وأنهم كانوا لا يستقيمون على تعاليم الإسلام؛ إنما يسيرون في حياتهم العادية على ما يَهْوُون أو ما يحبون، على آداب وقيم ومبادئ لا تتصل بالإسلام.

وهذا افتراء على التاريخ والواقع، فتصوير الأمويين والعباسيين على أن الحكام كانوا أصحابَ شهوات، وغناء، وطرب، ورقص، وسهر، هذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، كيف يفتح الله لهم بلادًا وهم على هذا القدر من الجَفاء مع الإسلام، والبعد عن تعاليم الله -تبارك وتعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ هذا افتراء عليهم، فهم يحاولون أن يتصيَّدوا بعض الوقائع التاريخية التي من وجهة نظرهم تُسجِّل خروجًا على الإسلام، ويصورون تاريخ الإسلام كله من خلال هذه النقطة.

وهناك تشبيه ساقه أحد الكتاب في بعض كتبه يحاول فيه أن يستدل بالتطور الإعلامي، أو بالحيل الفنية -كما يقولون- التي يصنعونها، يعني: مثلًا نتصوَّر أن رجلًا يلبث ثوبًا ناصعَ البياض نقيًّا جميلًا، لكن فيه بقعة صغيرة، المصور التلفازي مثلًا يعمد إلى هذه البقعة الصغيرة فيملأ بها الشاشة، يكبرها، ويكبرها، فيملأ بها الشاشة؛ ليتصور الناظر أن الثوب كله غير نظيف. هذه من الخدع، وهذا هو ما يفعله أعداء الإسلام ليس مع السنة فحسب، بل مع التاريخ الإسلامي، فيتصيدون واقعة يرون فيها أن بعض الحكام مثلًا قد أخطأ، فيصورون هذا هو تاريخ الإسلام!! وهؤلاء هم حكام المسلمين!! ونزوات إيماء غناء رقص استمتاع!!.

إن الدولة الأموية على أقصاها هي دولة الإسلام، ودولة فتوحات، ودولة جهاد، ودولة أقيمت لتشريع الله، وتحكيم للقرآن والسنة، وكل ذلك حقيقة مؤكدة، ولذلك كانت بلادًا يمدُّها الله بالخير من كل الجهات، وكذلك الدولة العباسية الأولى، على الأقل لم يكونوا بحاجة إلى أن يضعوا أحاديث تساندهم، بالعكس، كان الحكام حراسًا على الحديث، وعلماء المسلمين كانوا يستعينون بالحكام على مقاومة الوضَّاعين، وكانوا يشتكون إلى الحكام صنيعَ الوضاعين حينما هبت الأمة لمقاومة الوضع، والحكام كانوا يُعاقبون هؤلاء الوضَّاعين بعقوبات شديدة، ولنا في ذلك قصص، والحكام مع الأمة يسيرون في خط واحد وهو الحفاظ على القرآن والسنة، وليس هذا فحسب؛ بل والاستمداد من القرآن والسنة، ولا يحتكمون إلى شرع غير القرآن وغير السنة المطهرة.

وأيضًا في بعض الكتابات من المستشرقين يستدلون باختلاف العلماء على أنه قد حدث وضع. وهذا كلام سمج، فاختلاف العلماء له أسبابه الكثيرة التي ذكرها العلماء؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- له كتاب في (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) وهو كتاب عظيم، والبيهقي وغيره لهم كتب في هذا، يذكرون فيها الأسباب التي اختلف العلماء بسببها، منها: أن الدليل قد لا يصل إليه، والصحابة على شدَّة اقترابهم من النبي صلى الله عليه وسلم فاتتهم بعض الأحاديث، وهذه ليست مشكلة، حتى الأدلة التي كانوا يحاولون أن يستدلوا على عدم قبول خبر الواحد -كما يزعمون- مثل توقف أبي بكر في ميراث الجدة، فهذا دليل على أنه لم يعلم أن هناك حُكمًا للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة، وقال للمرأة وقتها: “لا أجد لك في كتاب الله شيئًا، ولا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى لك بشيء”.

فهذا هو أكبر عظماء الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم تغِيب عنه أحاديث. وقصة عمر في الاستئذان، وعشرات المواقف، فقد يكون الصحابي أو غيره نسي الدليل، وأيضًا هناك أدلة على ذلك، وقد يصل الدليلُ إلى العالِم من طريق صحيح ويصل الآخر من طريق ضعيف، فيكون حجةً على من ثبت عنده صحة الحديث، وليس حجةً عند من لم يره صحيحًا؛ لأنه لم يصل إليه إلا من خلال طريق ليس بقوي.

والخلاصة: أن الواقع الإسلامي كان واضحَ الدلالة في أنه أبدًا لم يحتج الأمر إلى وضع أحاديث، لا نتيجة التطور، ولا علماؤنا يقبلون ذلك على دينهم، ولا حكام الأمة الذين يحاولون أن يشوِّهوا صورتهم من الأمويين والعباسيين، ومن حكام الأمة على مدار تاريخها، ولم يطلب أحدٌ من الحكام من عالِم أن يضع له حديثًا يؤيِّد له موقفًا ما؛ سواء في الجوانب الدينية، أو في الجوانب السياسية، أو الاقتصادية، أو في تدعيم ملكه، كما يزعم الزاعمون من هؤلاء المستشرقين.

ويستندون أيضًا في شبههم إلى بعض النصوص في إثبات أن بعض الحكام لهم مواقف فيها بعض الخطأ:

وهذه المواقف محتاجة إلى مراجعة من الناحية الشرعية، أو من حيث ثبوتها، كتطبيق قواعد الجرح والتعديل المعروفة عند المحدثين في التصدِّي لهذه الوقائع، هل ثبتت أم لم تثبت؟ لكن أن يقال: إن هناك حوادث تاريخية حدثت ويستدلون بها على ما يريدون أن يصلوا إليه بدون توثيق بهذه الأمور، فهذا ما يُرَدّ عليه فيه.

أيضًا من العوامل الباطلة أن حملة الإسلام من الصحابة والتابعين كانوا جنودًا للأمراء في ذلك، والعجيب أنهم يختارون أسماء هي من عُمد الرواية وأركانها، وهم من الورع والتقوى بحيث لا تتطرق إليهم أدنى شبهة، بل إن قلوب الأمراء كانت تمتلئ مهابةً لهؤلاء العلماء، فيختارون الزهري مثلًا ويتكلمون عنه، والزهري محمد بن موسى بن شهاب الزهري هو أحد كبار علماء الرواية، وأحد أركانها المولود سنة 50 هجرية، والمتوفى سنة 124، أو 125 هجرية، وهو واحد من علماء الأمة الكبار.

ونحن نحيل إلى ترجمة ابن شهاب الزهري.

ومما قيل فيه أن هناك أقوالًا في وصول الزهري إلى دمشق، يعني: بعد وفاة عبد الملك التقى به قليلًا… إلى آخره.

فنقول: عبد الملك بن مروان -رحمه الله تعالى- مات سنة 86 هجرية، وكان عمر الزهري 36 سنة؛ لأنه مواليد 50 هجرية، وعاش الزهري بعد عبد الملك يخدم السنة أكثر من أربعين سنة مع كثير من الأمراء من بعد عبد الملك، مثل: الوليد، وسليمان، وعمر بن عبد العزيز، وكلهم كانوا في موقع التلاميذ بالنسبة له، وكانوا يحسنون الاستماع إليه والتلقي عنه، ويقدرون قدره، ويُنزلونه منزلته، ويعلمون أنه شيخهم الكبير الذي يؤدِّب أولادهم، ويعلِّم أمراءهم الحديث والقرآن، وقد كان هشام بن عبد الملك كتب له أربعمائة حديث -قصة الاختبار- وفي العام القادم طلب منه أن يكتبها له؛ لأنها قد فقدت منه، ثم قارن بين النسختين فما وجد مغايرة في حرف واحد.

إذن، لا الخلفاء الأمويون ولا العباسيون طلبوا من العلماء أن يضعوا لهم أحاديث، ولا العلماء وضعوا أحاديث، وكما قلنا: كانوا يشتكون الوضاعين إلى أولي الأمر؛ ليحاسبوهم على جرأتهم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكانت الشكوى إلى ولي الأمر واحدة من الوسائل التي اتبعها العلماء في مقاومة الوضع، ومناهضة الوضاعين، فيهددونهم برفع الأمر إلى ولي الأمر؛ لكي يحاسبهم، إن لم يستجيبوا ويتركوا الوضع في السنة.

إذن، لا توجد وقائع تاريخية تدل على هذا الأمر، والوقائع التي يذكرونها إنما هي تحتاج إلى مراجعة، وإلى دراسة أخبارها.

حتى أبو هريرة راوية الإسلام الذي حفظ الله به السنةَ، يتجرءون عليه، ويتقولون عليه، ويفترون عليه كذبًا وبهتانًا، وهو واحدٌ من أوعية العلم الذين حفظ الله بهم السنة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له بالحفظ وبقوَّته، والأحاديث كثيرة في هذا، وشهِد له بالحرص على الحديث، حديث الشفاعة، وهو عند البخاري: ((يا رسول الله، مَن أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟)) قبل أن يجيبه النبي صلى الله عليه وسلم على سؤاله، قال: ((يا أبا هريرة، لقد ظننت أن لا يسألني أحد أول منك عن هذا الحديث؛ لِمَا أعلم من حرصك على الحديث)) فهي شهادة نبوية صادرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرةً لأبي هريرة بالحرص على الحديث، وهذا الحرص كان سببًا في اهتمامه ومحافظته على السنة، وكثرة روايته لها، ثم أجابه بعد ذلك قال: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة مَن قال: لا إله إلا الله خالصًا من قبل نفسه)).

إن القول بأن الأحاديث وضعت في القرن الأول والثاني الهجري نتيجة لتطور المسلمين، هذه فرية ضعيفةٌ، والواقع التاريخي للأمة الإسلامية يفندها تفنيدًا شديدًا يأتي عليها من أساسها.

error: النص محمي !!