“شرع مَنْ قَبلنا”
. أنواع الأدلة إجمالًا:
العلماء قسموا الأدلة الشرعية إجمالًا إلى قسمين:
القسم الأول: الأدلة المتفق عليها، وهي أربعة -كما هو رأي الجمهور: القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس. ولا اعتبار بمن نفى الإجماع كالشيعة والخوارج، وكذا النظّام والمعتزلة، ولا اعتبار أيضًا بمن نفى التعبد بالقياس، أو أحاله، كداود الظاهري، والشيعة، والنظام كذلك.
والقسم الثاني: الأدلة المختلف فيها، وهذه الأدلة لم يتفق جمهور المسلمين على الاستدلال بها، بل منهم من استدل بها على الحكم الشرعي، ومنهم من أنكر الاستدلال بها، والأدلة المختلف فيها كثيرة جدًّا، قد أوصلها بعض العلماء إلى ما يزيد على عشرين دليلًا، إلا أن أشهر هذه الأدلة سبعة: الاستحسان، والمصلحة المرسلة، والاستصحاب، والعرف وهو من الأدلة المختلف فيها، ومذهب الصحابي، والذرائع، وهي من الأدلة المختلف فيها أيضًا، وشرع مَنْ قَبلنا، وهو أول الأدلة المختلف فيها التي ذكرها ابن قدامة -رحمه الله.
2. تعريف شرع مَنْ قَبلنا:
المراد بشرع مَنْ قَبلنا: الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمم السابقة وجاء بها الأنبياء والرسل السابقون يقول الله تعالى في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13].
ومعنى الآية الكريمة: سن الله تعالى لكم يا أمة محمد، وأظهر، وبين من أمور الدين وأحكامه ما سبق أن وصى به نوحًا، والذي أوحاه إلى نبيكم، وما وصى به من جاء بعد نوح من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأمرهم به أمرًا مؤكدًا لازمًا هو قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ} والمقصود به دين الإسلام والاستسلام لله، وذلك بتوحيده، وطاعته، والإيمان بكتبه، ورسله، ويوم الجزاء، وسائر ما يكون العبد به مؤمنا.
إذن تستطيع أن تقرر أن رسالات الأنبياء جميعًا متفقة في أصول العقائد، وفي مطلق العبادات، وفي الأمر بالإتيان بالفضائل واجتناب الرذائل، ما عدا ذلك من الفروع قد تختلف فيه شريعة عن شريعة، لكن الأصول والعقائد والمبادئ والأخلاق والثوابت، هذا قدر متفق عليه بين جميع الشرائع، من لدن شريعة آدم إلى شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم إذن عرفتم الآن المراد بشرع مَنْ قَبلنا، وعرفتم أن الشرائع جميعًا متفقة على أصول العقائد، ومطلق العبادات، والأمر بمكارم الأخلاق، وترك الرذائل واجتنابها، وأنها قد تختلف فيما بعد في الفروع.
3. تعبد النبي صلى الله عليه وسلم بشرع من قبله:
اختلف أهل العلم في ذلك على مذاهب:
المذهب الأول -وهو المختار عند ابن الحاجب من المالكية، والبيضاوي من الشافعية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متعبدًا بشرع من قبله، يعني: قبل نزول النبوة عليه، وقبل نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم كان متعبدًا بشرع من قبله.
وعلى هذا المذهب قيل:
- كان صلى الله عليه وسلم على شريعة آدم عليه السلام لماذا؟ لأنها أول الشرائع.
- كان على شريعة نوح عليه السلام لقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً}.
- كان على شريعة إبراهيم عليه السلام لقوله تعالى كما في سورة آل عمران: {إِنّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهَـَذَا النّبِيّ} [آل عمران: 68] وقوله تعالى: {ثُمّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] وهذا هو الراجح عند أكثر العلماء.
وقيل: كان متعبدًا بشرع، ولكنا لا ندري بشرع مَن تعبد.
الترجيح:
يترجح -والله تعالى أعلم- أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان متعبدًا قبل البعثة بشريعة إبراهيم عليه السلام وقد رجح ذلك الشوكاني في (إرشاد الفحول) وقال ابن حزم الظاهري -رحمه الله: وأما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعتنا هذه بعينها، فابن حزم الظاهري ممن يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل البعثة متعبدًا بشريعة إبراهيم عليه السلام ولهذا يقول: وأما شريعة إبراهيم عليه السلام فهي شريعتنا هذه بعينها، قال: ولسنا نقول: إن إبراهيم بعث إلى الناس كافة، وإنما نقول: إن الله تعالى بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة بالشريعة التي بعث الله تعالى بها إبراهيم عليه السلام إلى قومه خاصة، دون سائر أهل عصره، وإنما لزمتنا ملة إبراهيم عليه السلام لأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم بعث بها إلينا، لا لأن إبراهيم عليه السلام بعث بها، قال تعالى: {ثُمّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} كما في سورة النحل، وقال: {بَلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقر: 135].
4. مذاهب العلماء في الاحتجاج بشرع مَنْ قَبلنا:
تنبيه: قبل ذكر مذاهب العلماء في هذه المسألة لا بد أن ننبه إلى عدة أمور:
الأمر الأول: أن الكلام في مسألة “شرع مَنْ قَبلنا هل هو حجة أو ليس بحجة؟” إنما هو واقع مع من لم ينفِ تعبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بشرع من قبله، فمن نفاه قبل البعثة فقد نفاه بعده بطريق الأولى، طالما أن النبي لم يكن متعبدًا قبل البعثة فهو لم يتعبد بعد البعثة؛ لأن في شريعته كفاية.
الأمر الثاني: أن الخلاف الواقع بين العلماء في هذه المسألة إنما هو في الفروع، وأؤكد أن الشرائع كلها من لدن شريعة آدم إلى شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم متفقة على أصول العقائد، وعلى الفضائل والتحلي بها، وعلى التخلي عن الرذائل، فالخلاف الواقع بين العلماء في هذه المسألة إنما هو في الفروع.
أما الأصول فدين الأنبياء كلهم واحد على التوحيد، ومعرفة الله وصفاته، كل الأديان متفقة على توحيد الله عز وجل، وعلى وجوب معرفة الله، ومعرفة صفاته، وأنَّه يجب له كل كمال، ويستحيل عليه كل نقص، وأن الله تعالى أرسل الأنبياء، وأرسل الرسل، وأن الله تعالى سيبعث الناس بعد وفاتهم، ويدخل منهم الصالح المؤمن الجنة، والكافر العاصي النار، فالشرائع كلها تتفق في هذه الأمور.
الأمر الثالث: فائدة الخلاف في هذه المسألة تظهر في حادثة ليس فيها نص ولا إجماع.
الأمر الرابع: أن هذا الخلاف مبني على أن كل شريعة لما وردت كانت خاصة، أو كانت عامة، وتعرفون أن الشرائع كلها قبل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كانت شرائع خاصة، وأن مما اختص به النبي صلى الله عليه وسلم ومما امتاز به أن الله كان يبعث كل نبي إلى قومه خاصة، وبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة.
الأمر الخامس: أن ما نقل إلينا من شرائع من قبلنا في كتب أصحاب تلك الشرائع، أو على ألسنة أتباعها لا يُعتد به شرعًا؛ لما وقع في كتبهم من تغيير وتحريف، ولأن غير المسلم لا يوثق به في نقل شريعة المسلم إليه، قال تعالى: {وَإِنّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78].
المنقول من شرع من قبلنا ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أحكام ذُكرت في القرآن الكريم، أو في السنة، وقام الدليل في شريعتنا على أنها مفروضة علينا، كما كانت مفروضة على من سبقنا من الأمم، وهذا النوع من الأحكام اتفق العلماء على أنه شرع لنا، وبالمثال يتضح المقال:
قال الله تعالى في شأن الصوم: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ} [البقرة: 183] فالصوم كان واجبًا على الأمم السابقة، ثم وجب على المسلمين بهذا النص القرآني الكريم.
ومن ذلك أيضًا دلالة السنة على بعض الأحكام، كدلالته على أن الأضحية التي نضحي بها في يوم التضحية، أو يوم عيد الأضحى، السنة دلت على أن الأضحية مشروعة في شريعتنا كما كانت مشروعة في شريعة إبراهيم عليه السلام فليس لأحد أن يقول: إن المسلمين يضحون لأن إبراهيم عليه السلام كان يضحي؛ فتكون مشروعية الأضحية هي شرع مَنْ قَبلنا، أبدًا؛ مشروعية الأضحية هي شريعتنا نحن، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ضحوا؛ فإنها سنة أبيكم إبراهيم)) الحديث رواه الإمام أحمد وغيره؛ إذن السنة الآن دلت على أن الأضحية مشروعة في شريعتنا كما كانت مشروعة في شريعة إبراهيم عليه السلام.
النوع الثاني: أحكام ذُكرت في القرآن، أو في السنة على أنها كانت مشروعة في حق الأمم السابقة، وقام الدليل من شريعتنا على نسخها في حقنا، عكس النوع الأول.
نقول: نعم: قال الله تعالى: {وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَرّمْنَا كُلّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَآ أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146] فقد أفادت هذه الآية الكريمة أن هذا التحريم على اليهود كان جزاءً لهم على بغيهم، وقد ساق القرآن هذه الآية لبيان فضل الله على أمة الإسلام؛ حيث لم يحرم عليها إلا الخبائث، كما بين الله ذلك في الآيات السابقة على تلك الآية مباشرة، حيث يقول سبحانه: {قُل لاّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيّ مُحَرّماً عَلَىَ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنّ رَبّكَ غَفُورٌ رّحِيمٌ} [الأنعام: 145] إذن هذا النوع من الأحكام ورد في شريعتنا، ولكن ورد أنه منسوخ عنا؛ فلا يكون واجبًا في حقنا.
أما النوع الثالث: أحكام ذُكرت في القرآن الكريم، أو في السنة على أنها من بين أحكام الشرائع السابقة، لكن لم يدل دليل على أنها منسوخة في حقنا أو مشروعة، وذلك كما في قوله تعالى مخبرًا عن التوراة كما في سورة المائدة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] هذه آية وردت في التوراة، أو أخبر الله بها تعالى كما جاء في التوراة، ولم يدل الدليل على أنها منسوخة في حقنا، ولم يدل الدليل أيضًا على أنها مشروعة في حقنا، فما موقفنا من هذه الآية؟ هل لنا أن نستدل بهذه الآية على الأحكام الشرعية في شريعتنا؟.
مذاهب العلماء في الاحتجاج بشرع من قبلنا:
المذهب الأول -مذهب جمهور العلماء، من الحنفية، وبعض الشافعية، والمالكية، والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه: شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا، ولا يلزمنا العمل به، وهذا المذهب اختاره الغزالي في (المستصفى) والآمدي في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) والرازي في كتابه (المحصول) وابن حزم الظاهري في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام) وهو قول كثير من العلماء.
المذهب الثاني: ذهب بعض أهل العلم، من الحنفية، والمالكية، وبعض أصحاب الإمام الشافعي، والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا، هذا المذهب الثاني في المسألة، قال: ويلزمنا العمل به.
المذهب الثالث: ذهب بعض العلماء إلى التوقف، قالوا: نحن لا نستطيع أن نقول: هل شرع من قبلنا شرع لنا، أو ليس بشرع لنا؟ نحن متوقفون، لماذا؟ قالوا: حتى يتبين الدليل الصحيح، فالأدلة متعارضة من وجهة نظر هؤلاء المتوقفة.
لكن هذا التوقف لا وجه له، حتى قال الآمدي -رحمه الله: وهو بعيد، يعني: التوقف في المسألة بعيد، بعد أن اتضحت الأدلة, وظهرت الأدلة، قال: وهو بعيد؛ فلا داعي للتعرض له.
أدلة القائلين بأن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا:
استدل الجماهير بالكتاب العزيز، والسنة النبوية، والإجماع، والمعقول:
أولًا: الاستدلال بالكتاب:
قول الله تعالى في سورة المائدة: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] ووجه الاستدلال بهذه الآية: أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل أمة شريعة، وطريقًا ظاهرًا واضحًا، هذا يدل عليه منطوق الآية….
ثم قال -رحمه الله: ومعنى الآية: أن الله تعالى جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، وهذا في الشرائع والعبادات، يعني: في الفروع -كما نبهتكم- والأصل التوحيد لا اختلاف فيه، فالله تعالى جعل التوراة لأهلها، والإنجيل لأهله، والقرآن لأهله، وهذا في الشرائع والعبادات -يعني: في الفروع الفقهية- والأصل -يعني: أصل العقائد الذي هو التوحيد- لا اختلاف فيه بين الشرائع.
وهناك آيات أخرى، لكن هذه الآية هي نص في الموضوع، وهي أوضح الآيات.
ثانيًا: الاستدلال بالسنة:
الدليل الأول من السنة: ما رواه أبو داود بسنده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال له: ((كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو)) يعني: لا أقصِّر، يعني: أعمل فكري ونظري وأتأمل في النصوص حتى أصل إلى حكم الشرع في المسألة، فلما قال ذلك ((فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره, وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسولَ الله)) ووجه الاستدلال بهذا الحديث على المطلوب: أن معاذًا رضي الله عنه ذكر اجتهاده برأيه إذا لم يجد الحكم في كتاب الله، ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم أقره على هذا المنهج في معرفة الحكم الشرعي، ولم يذكر معاذ رضي الله عنه التوراة، والإنجيل، أو غيرهما من شرع من قبلنا.
قال أهل العلم من الجماهير: ولو كانت شرائع من قبلنا مدركًا من مدارك الأحكام الشرعية؛ لجرت مجرى الكتاب والسنة في وجوب الرجوع إليها، ولم يجز العدول عنها إلى الاجتهاد بالرأي، إلا بعد البحث عنها واليأس من معرفتها، ولذكرها معاذ رضي الله عنه قبل أن يذكر اجتهاده رأيه، ولم يصوبه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند تركها.
لكن هذا الدليل للجمهور لم يسلم من مناقشة، ولا من اعتراض، فناقش أصحاب المذهب الثاني هذا الدليل، وقالوا: إن شرع من قبلنا لم يُذكر في حديث معاذ رضي الله عنه لأن القرآن يشمل التوراة والإنجيل، فكأن معاذًا معترف بشرع من قبلنا ضمنًا.
الرد على الاعتراض: لكن هذا الاعتراض وتلك المناقشة أجاب عليها ابن قدامة -رحمه الله- في (الروضة)، وحاصل هذا الجواب من ابن قدامة أنه قال: إن اندراج التوراة والإنجيل تحت الكتاب بعيد جدًّا، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: أن الكتاب إذا أطلق فإن الذهن ينصرف مباشرة إلى القرآن الكريم.
الوجه الثاني: أنه لم يُعرف عن معاذ رضي الله عنه ولا عن غيره من الصحابة: أنَّهم تعلموا شيئًا من التوراة، أو الإنجيل، أو غيرهما أبدًا، ما علم منهم ذلك، ولم يعهد منهم أنهم رجعوا إليها في أيّ مناسبة لأجل أخذ الحكم منها؛ إذن حديث معاذ صار الآن سالمًا من المناقشة والاعتراض، وهو من الأدلة القوية على أن شرع من قبلنا ليس بشرعٍ لنا.
الدليل الثاني من السنة: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى يومًا بيد عمر قطعة من التوراة، فغضب صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ -يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم, ينكر على عمر أنه يطالع ويقرأ قطعة من التوراة- ألم آت بها بيضاء نقية؟ -يعني: بالشريعة الإسلامية- لو كان موسى عليه السلام حيًّا ما وسعه إلا اتباعي)).
ثالثًا: الاستدلال بالإجماع:
أجمع المسلمون على أنَّ الشريعة الإسلامية ناسخة لكل الشرائع المتقدمة، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي)) وذكر منها: ((وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة, وبعثت إلى الناس عامة)) فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدًا بشرع من قبله لكان مقررًا له، لا ناسخًا له، وهو محال وخلاف الإجماع.
ووجه الاستدلال: أن هذا صريح في أن كل نبي بعث إلى قومه فقط، وشريعته اختصت بهم، ولو قلنا: إن شرعهم هو شرع لنا للزم من ذلك أننا نشاركهم في شريعتهم، وهذا يناقض الاختصاص؛ حيث إن مشاركتنا لهم تمنع ذلك الاختصاص, وتكون عامة.
رابعًا: الاستدلال من المعقول:
لو كان شرع من قبلنا شرعًا لنا لكان النبي صلى الله عليه وسلم مأمورًا به. ولما انتظر صلى الله عليه وسلم الوحي في الوقائع إلا بعد البحث عن تلك الشرائع, وحصول العلم بخلوّها عن بيان حكمها، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي، من غير تفتيش عن شرائع السابقين.
هذه حاصل الأدلة التي أوردها الجمهور على أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا، ويقول ابن قدامة في (روضة الناظر) بعد أن ذكر عددًا من الأدلة قال: السابع: إطباق الأمة على أن هذه الشريعة, شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجملتها، ولو تُعبد بشرع غيره كان مخبرًا لا شارعًا، لكننا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم شريعته ناسخة للشرائع السابقة.
أدلة القائلين بأن شرع من قبلنا شرع لنا:
استدل القائلون بأنَّ شرع من قبلنا شرع لنا استدلوا بالكتاب واستدلوا أيضًا بالسنة واستدلوا بالأثر، والأثر يعني: ما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم أو عن التابعين، واستدلوا بالمعقول.
أولًا: الاستدلال بالكتاب:
الآية الأولى: قول الله تعالى في حق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مخاطبًا الرسول صلى الله عليه وسلم: {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] خطاب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي الأنبياء السابقين، {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ} يعني: أولئك الأنبياء السابقين {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} ووجه الدلالة من الآية على أن شرع من قبلنا شرع لنا: أن الله تعالى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي الأنبياء، وشرعهم من هداهم.
إذن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقتدي بشرع من قبله؛ لأن الهدى اسم للإيمان والشرائع جمعيًا، فالاهتداء لا يقع إلا بهما؛ فوجب عليه صلى الله عليه وسلم اتباع شرعهم، وما كان واجبًا في حقه كان واجبًا في حق أمته.
إذن هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع شرع من قبله، وإذا كان النبي مأمورًا باتباع شرع من قبله كانت أمته كذلك مأمورة باتباع شرع من قبلها.
وقد أجيب عن الاستدلال بهذه الآية من قبل الجمهور: بأن المراد بالاقتداء المأمور به متابعتهم في أصول الشريعة وكلياتها، وذلك كوجود الله تعالى، ووحدانيته، وقدرته، والثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية، وما أشبهها مما لا يقبل النسخ والتغيير، وليس المراد الاقتداء في فروع الشريعة.
وقال ابن حزم الظاهري -رحمه الله- وهو ممن انتصر لرأي الجمهور, ودافع عنه دفاعًا شديدًا وقال: إن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا.
الآية الثانية: قول الله تعالى كما في سورة النحل: {ثُمّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] ووجه الاستدلال أن الله تعالى أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملة إبراهيم عليه السلام ومعلوم أنَّ الأمر للوجوب، والملة هي الشريعة.
وقد أجيب عن الاستدلال بهذه الآية من قبل الرازي –رحمه الله: بأن الملة الواردة في قوله تعالى: {أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أنَّ الملة محمولة على الأصول -كما قلنا- دون الفروع، إذن قول الله تعالى: {ثُمّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} يعني: اتبع أصول ملة إبراهيم، وأصول ملة إبراهيم هي: الإيمان بوجود الله، ووحدانية الله، وقدرة الله، وثواب الله على الطاعة، وعقاب الله على المعصية، ونحو ذلك من الأمور التي لا تقبل النسخ.
فلو فسرنا الملة بأنَّها محمولة على الأصول دون الفروع لما صح لأصحاب المذهب الثاني أن يستدلوا بهذه الآية على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ويدل على ذلك أمور كما يقول الرازي –رحمه الله:
أحدها: أنَّه يقال: ملة الشافعي وأبي حنيفة واحدة، وإن كان مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة بينهما خلاف كثير في الفرعيات، لكن الملة التي تجمعهم ملة واحدة، أبو حنيفة مؤمن موحد بالله، والشافعي مؤمن موحد بالله، لكن أبا حنيفة له رأي مثلًا في لمس المرأة ينقض الوضوء أو لا ينقض، والشافعي له رأي مخالف، فالشافعي يقول: لمس المرأة ينقض الوضوء، وأبو حنيفة يقول: لمس المرأة لا ينقض الوضوء، فهم يختلفون في الفروع مع اتحادهم في الأصول والملة. هذا حاصل كلام الرازي، رحمه الله.
وثانيها: قوله بعد هذه الآية {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: {ثُمّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] فكأن المراد بالملة: أصول الدين والتوحيد والعقيدة.
وثالثها: أنَّ شريعة إبراهيم عليه السلام قد اندرست، يعني: لو سلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور باتباع شريعة إبراهيم فأين شريعة إبراهيم الآن؟ اندرست، وليس لها وجود الآن، إلا ما نص القرآن على بعض منها في شريعتنا.
الآية الثالثة: قول الله تعالى في سورة النساء: {إِنّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ} [النساء: 163] ووجه الاستدلال أن الآية دلت على وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم لشريعة نوحٍ عليه السلام والنبيين من بعده: {إِنّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ} فالآية فيها دلالة على وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم لشريعة نوح وشريعة النبيين من بعده.
وقد أجيب عن الاستدلال بهذه الآية من قبل الرازي –رحمه الله: بأن الآية إنما تقتضي تشبيه الوحي بالوحي، لا تشبيه الموحى به بالموحى به: {إِنّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِن بَعْدِهِ} فأوحينا إليك عن طريق جبريل، وأوحينا إليهم عن طريق جبريل، أما الموحى به نفسه فلا يشابه بعضه بعضًا، الذي أوحيناه إليك يا محمد ليس كالذي أوحيناه إلى نوح والنبيين من بعده، أما الوحي نفسه فواحد؛ فهذا تشبيه للوحي بالوحي، وليس تشبيهًا للموحى به بالموحى به.
الآية الرابعة: قول الله تعالى كما في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىَ بِهِ نُوحاً وَالّذِيَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ وَعِيسَىَ أَنْ أَقِيمُواْ الدّينَ وَلاَ تَتَفَرّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13] قال: ووجه الاستدلال من الآية على المطلوب: أن الدين الوارد في الآية: {شَرَعَ لَكُم مّنَ الدّينِ} اسم لما يدان الله تعالى به من الإيمان والشرائع، يعني: الدين يشمل الأصول والفروع؛ فدلت الآية على وجوب اتباعنا لشريعة نوح عليه السلام ومن ذكر بعده في الأصول والفروع.
وأجاب الآمدي بأنَّ المراد من الدين إنَّما هو أصل التوحيد، لا ما اندرس من شريعته؛ ولهذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم البحث عن شريعة نوح, مع أن التعبد بها في حقه ممتنع.
الآية الخامسة: قول الله تعالى كما في سورة المائدة: {إِنّآ أَنزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ} [المائدة: 44] والنبي صلى الله عليه وسلم من جملة النبيين؛ فوجب عليه الحكم بها. وقد أجاب الآمدي عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ} صيغة إخبار لا صيغة أمر، وذلك لا يدل على وجوب اتباعها.
وقد أجيب عن الاستدلال بهذه الآية من قبل ابن حزم –رحمه الله– بقوله: وهذا إنَّما عنى الله تعالى به أنبياء بني إسرائيل لا محمدًا صلى الله عليه وسلم لأنَّه تعالى يقول: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
[آل عمران: 85] وبيان ذلك قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلّذِينَ هَادُواْ} [المائدة 44] ونحن ليس لنا نبيون -انظر إلى كلام ابن حزم، هو في غاية الجودة- قال: ونحن ليس لنا نبيون، وإنما لنا نبي واحد، والأنبياء كلهم مسلمون، وقد حكى الله تعالى عن أنبياء سالفين أنهم قالوا: أمرنا بأن نكون من المسلمين.
ثانيًا: الاستدل بالسنة:
روي أنه صلى الله عليه وسلم طُلب منه القصاص في سنٍ كسرت فقال: ((كتاب الله يقضي بالقصاص)) وليس في الكتب ما يقضي بالقصاص في السن سوى التوراة -كما ذكرت لكم منذ قليل- وهو قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] إذن فالنبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى التوراة.
وأجيب عن ذلك: بأننا لا نسلِّم أن كتابنا غير مشتمل على قصاص السن، يعني: قصاص السن بالسن، ودليله قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] سواء كان الاعتداء في السن، أو في العين، أو في الأنف، أو في الأذن، أو في غيرها؛ إذن في شريعتنا ما يدل على القصاص في السن، وليس هذا خاصًًّا بالتوراة كما يقول أصحاب المذهب الثاني.
النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى التوراة في رجم اليهوديين، وقد ذكرت لكم الحديث منذ قليل، وأنه صلى الله عليه وسلم سألهم: ((ما تجدون في التوراة؟)) فلما أخبروه بالرجم وأنهم تركوه قال صلى الله عليه وسلم: ((أنا أول من أحيي أمر الله تعالى)).
أجاب ابن حزم عن ذلك بقوله: وهذا لا حجة لهم فيه، بل هو تأويل سوء ممن تأوله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم بلا شك في شريعته المنزلة عليه قد أمر برجم من أحصن من الزناة، وإنما دعا صلى الله عليه وسلم بالتوراة حسمًا لشغب اليهود، وتبكيتًا لهم في تركهم العمل بما أمروا به، وإعلامًا لهم بأنهم خالفوا كتابهم الذي يقرون أنه أنزل عليهم؛ إذن رجوع النبي إلى التوراة كان لإلزام اليهود، وليس لأخذ الحكم من التوراة.
روي: ((أنه صلى الله عليه وسلم سدل ناصيته)) يعني: أرخى شعر ناصيته صلى الله عليه وسلم كما يفعل أهل الكتاب ((ثم فرقها بعد، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء)) قالوا: النبي صلى الله عليه وسلم سدل شعره، يعني: أرخاه، وأن النبي كان يحب أن يوافق أهل الكتاب في كل ما لم ينزل عليه فيه شيء من السماء؛ إذن النبي كان يعمل بشرع من قبله.
وأجاب ابن حزم –رحمه الله: بأن هذا الحديث من أقوى الحجج عليهم، يعني: على الخصم، وليس حجة لهم، لماذا؟ قال: لأنَّه نص فيه على أنَّه إنَّما كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه فيه شيء؛ فصح أنه إنَّما كان يفعل ذلك في المباح له فعله, والمباح له تركه, مما لم ينه عنه ولا أمر به، وهذا غير ما نحن فيه, وإنما كلامنا في وجوب شرائعهم ما لم ننه عنها، وفي سقوطها حتى نؤمر بها. وأما الزي -كما يقول ابن حزم- وفرق الشعر وسدله فكل ذلك مباح حتى الآن فعله وتركه.
ثالثًا: الاستدلال بالأثر:
ما رواه البخاري عن مجاهد قال: “سألت ابن عباس عن سجدة “ص” فقال: أو ما تقرأ: {وَمِن ذُرّيّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] إلى قوله: {أُوْلَـَئِكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وكان داود عليه السلام ممن أمر نبيكم بالاقتداء به” هذا كلام ابن عباس.
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص، فسجد الناس اقتداءً به، وليس اقتداءً بداود عليه السلام فسجود المسلمين في سجدة “ص” إنما كان اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم وليس اقتداءً بداود عليه السلام ولا شك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سجد في سجدة “ص” بأمر الله تعالى له، وليس اتباعًا لداود عليه السلام.
رابعًا: الاستدلال بالمعقول:
إنَّ الرسول الذي كانت الشريعة منسوبة إليه لم يخرج من أن يكون رسولًا يبعث رسول آخر بعده، فكذا شريعته لا تخرج من أن تكون معمولًا بها ببعث رسول آخر, ما لم يقم دليل النسخ لها، وذلك أن ما ثبت شريعة لرسولٍ فقد ثبتت حقيقته وكونه مرضيًّا عند الله تعالى، وإنما يُبعث الرسول ليبين ما هو مرضٍ عند الله عز وجل.
وأجيب عن ذلك بما تقدم من أنَّ: الإجماع منعقد على أن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ناسخة لشريعة من تقدم، فلو كان متعبدًا بها لكان مقررًا لها ومخبرًا عنها لا ناسخًا لها، وهو محال وخلاف الإجماع.
الراجح في المسألة:
بعد عرض مذاهب العلماء في حجية شرع من قبلنا، وذكر أدلة القائلين به والنافين له يظهر -والله تعالى أعلم- أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا، إلا إذا ورد في القرآن أو السنة، ولم يرد ما يدل على نسخه، ويكون الاستدلال به حينئذ استدلالًا بالقرآن والسنة، وفي هذا يقول ابن حزم -رحمه الله: ومن ألزمنا شرائع الأنبياء قبلنا فقد أبطل فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم وأكذبه في إخباره أنه لم يبعث نبي إلا إلى قومه خاصة، حاشاه صلى الله عليه وسلم لأنَّ خصومنا يريدون منا اتباع شرائع من قبلنا، فيوجبون بذلك أنهم مبعوثون إلينا، وهذا هو الباطل والكذب.
5. أثر اختلاف العلماء في حجية شرع من قبلنا:
الحق أنَّ الغاية من دراسة القواعد الأصولية، والمسائل الأصولية هي بناء الفروع الفقهية على هذا الخلاف.
ولنأخذ بعض النماذج وبعض الفروع الفقهية المرتبة على هذا الخلاف بين أهل العلم:
المسألة الأولى: حكم من نذر أن يذبح ولده:
اختلف العلماء فيمن نذر ذبح ولده أو نحره؛ ماذا يجب عليه؟ هب أن واحدًا من المسلمين الآن نذر لله أن يذبح ولده أو أن ينحره، وطبعًا هذا الأمر ليس له سابقة إلا في شرع إبراهيم عليه السلام لمّا أراد أن يذبح ولده إسماعيل عليه السلام وقد مرت الإشارة -والحمد لله- إلى هذه المسألة عند كلامنا عن النسخ في مسألة النسخ قبل التمكن، فلو نذر مسلم الآن أن يذبح ولده، أو أن ينحره، قال: لله علي أن أذبح ولدي إن وقع كذا أو كذا أو كذا؛ فماذا يجب عليه؟
اختلف أهل العلم في ذلك:
الرأي الأول: ذهب الإمام أبو حنيفة ومحمد من أصحابه -رحمهم الله- إلى أنه يلزمه ذبح شاة، وهذا الرأي مروي أيضًا عن الإمام علي وابن عباس رضي الله عنهما قال صاحب (الاختيار) -كتاب في الفقه الحنفي: ولو نذر ذبح ولده، أو نحره لزمه ذبح شاةٍ. هذا المذهب الأول في المسألة.
الرأي الثاني: ذهب الإمام مالك -رحمه الله- قال: إنه يلزمه الهدي، الهدي يعني: الذي يقدم في مناسك الحج.
الرأي الثالث: ذهب الإمام الشافعي، وأبو يوسف، وزفر -من الحنفية، رحمهم الله جميعًا- إلي أنه لا شيء عليه.
الرأي الرابع: عن الإمام أحمد -رحمه الله- وله في المسألة روايتان:
إحداهما: يلزمه كفارة يمين، فمن نذر أن يذبح ولده يكفر كفارة يمين، يطعم عشرة مساكين، أو يكسوهم، أو يعتق رقبة.
الرواية الأخرى: يلزمه ذبح كبش، قال صاحب (المحرر) من الحنابلة: ومن نذر ذبح ولده لزمه كفارة يمين، وعنه -يعني: عن الإمام أحمد- ذبح كبش.
الرأي الخامس: ذهب بعض أهل العلم إلى أنه ينحر مائة من الإبل، كما فدى بها عبد المطلب ابنه، يعني: عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا الرأي مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا.
الرأي السادس: يهدي ديته، يعني: لو نذر ذبح ولده أخرج دية هذا الولد، ومعلوم أن دية المسلم مائة من الإبل.
الرأي السابع: يحج به، يعني: من نذر أن يذبح ولده يأخذ هذا الولد ويحج به، ثم يعود، ولا شيء عليه، وبه قال الإمام الليث.
هذا حاصل ما ذكره أهل العلم فيمن نذر ذبح ولده، والمسألة -كما قلت لكم- لها تعلق بشرع من قبلنا.
المسألة الثانية: قتل الرجل بالمرأة:
هب أن رجلًا قتل امرأة، هل يقتل بها، أو لا يقتل بها لعدم المساواة، هذا رجل وهذه امرأة؟
اختلف العلماء في القصاص بين الرجل والمرأة، فذهب أكثر أهل العلم إلى أن الرجل إذا قتل المرأة عمدًا قتل بها، ولا شيء لأوليائه، وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد -رحمهم الله، وحكى ابن المنذر الإجماع على ذلك. وهو الرأي أيضًا الذي تميل إليه النفس، ويرتاح إليه القلب، وينشرح له الصدر؛ فلا فرق بين الرجل والمرأة في هذه المسألة.
ولعل سائلًا يسأل: ولماذا إفراد المسألة بالرأي أو بالخلاف طالما أن الرجل كالمرأة؟ أقول: لأن العرب قبل مجيء الإسلام كانوا يميزون الرجل على المرأة، بل كان بعض الكفار -ولا زال بعض الكفار في هذا الزمان- يفضلون بين الرجل والمرأة، لكن الإسلام أبدًا، يجعل الرجل كالمرأة، وحياة الرجل كحياة المرأة، ونفس المرأة كنفس المرأة تمامًا بتمام؛ ولهذا يقول الإمام مالك -رحمه الله- في كتابه (الموطأ): القصاص أيضًا يكون بين الرجال والنساء، وقال: فنفس المرأة الحرة بنفس الرجل الحر، وجرحها بجرحه.
فاستدل القائلون بأن الرجل يقتل بالمرأة بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ} [المائدة: 45] والحديث عن ماذا؟ عن التوراة {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ووجه الدلالة من الآية أن الله تعالى ذكر أن {النّفْسَ بِالنّفْسِ}؛ فنفس المرأة الحرة بنفس الرجل الحر.
كما استدل جمهور العلماء على أن الرجل يقتل بالمرأة بما روي: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض، والأسنان، وأن الرجل يقتل بالمرأة)) والحديث رواه النسائي في سننه، وهو كتاب مشهور عند أهل العلم، متلقًى بالقبول عندهم، وهذا الحديث هو حجة الشافعي -رحمه الله- أن الرجل يقتل بالمرأة، وليست الحجة عند الشافعي الآية؛ لأن الراجح عند الشافعي: أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا، وإنما يستأنس به فقط؛ ولهذا الإمام الشافعي يرى أن الرجل يقتل بالمرأة بهذا الكتاب المشهور، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الرجل يقتل بالمرأة)).
كما استدلوا على ذلك بحكمة القصاص.
واستدل أصحاب المذهب الثاني القائلون بأن الرجل يقاد بالمرأة, ويوفى ورثته نصف ديته، قالوا: بأن ذلك مروي عن علي رضي الله عنه وقالوا: إنهما -يعني: الرجل والمرأة- متفاوتان في الدية، لكن هذا الكلام غير مسلم، والتفاوت في الدية لا يوجب التفاوت في النفس؛ فالذي نرجحه ونراه قويًًّا أن الرجل يقتل بالمرأة.
واستدل من قال -وهو الرأي الشاذ الذي ذكرته لكم: أن الرجل لا يقتل بالمرأة بقوله تعالى: {وَالاُنثَىَ بِالاُنْثَىَ} [البقرة: 178] ففهموا من هذه الآية أنه يدل على أن الرجل لا يقتل بالمرأة، لكن هذا الكلام -كما قلت لكم- كلام غير مسلّم، ورأي شاذ، والآية في صدرها: {النّفْسَ بِالنّفْسِ} ولا شك أن نفس المرأة كنفس الرجل.
إذن الشاهد من تخريج هذا الفرع على مسألتنا أن جمهور أهل العلم استدلوا على أن الرجل يقتل بالمرأة إذا قتلها عمدًا بقوله تعالى حكاية عن التوراة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالاُذُنَ بِالاُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} ولا شك أن هذا خطاب وارد في شرع من قبلنا، هذا فرع ثان.
المسألة الثالثة: جعل المنفعة صداقًا:
هذا الفرع الفقهي ليس له وجود في هذا الزمان، لكن الفقهاء ذكروه لوروده في شرع من قبلنا، وجعلوه مخرجًا على الخلاف في شرع من قبلنا، هل هو شرع لنا، أو ليس بشرع لنا؟ فقد اختلف أهل العلم في جعل المنافع صداقًا على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: وهو مذهب الإمام الشافعي، والإمام أحمد، وبعض أصحاب أبي حنيفة -رحمهم الله جميعًا- إلى جواز جعل المنفعة صداقًا مطلقًا, إذا كانت تجوز عليها الإجارة، ويجوز العوض عنها؛ ولهذا يقول الشافعي -رحمه الله- في (الأم): ويجوز أن تنكحه على أن يخيط لها ثوبًا.
وقال ابن قدامة في كتابه (المغني): وكل ما جاز ثمنًا في البيع، أو أجرة في الإجارة، من العين، والدين، والحال، والمؤجل، والقليل، والكثير، ومنافع الحر والعبد وغيرهما -جاز أن يكون صداقًا.
المذهب الثاني: وإليه ذهب الإمام مالك -رحمه الله- إلى كراهة ذلك، يعني: هذا شيء مكروه.
المذهب الثالث: وإليه ذهب أبو حنيفة: إلى المنع، قال: إلا إذا كان عبدًا؛ فإنَّه أجازه، يعني: لو كان الإنسان عبدًا، وتزوج امرأة على أن يخدمها فيصح.
الفرق بين الخلاف اللفظي والخلاف المعنوي:
الخلاف إن كان لفظيًّا فلا تترتب عليه ثمرة، وهو المعبر عنه عند أهل العلم بقولهم: “لا مشاحة في الاصطلاح” فلك أن تسمي الشيء بمصطلح معين، وأنا أسميه بمصطلح آخر، طالما أن المعنى واحد، فلا مشاحة في الاصطلاح.
فالجمهور -مثلًا- يرون أنَّ الفرض والواجب لفظان مترادفان، معناهما واحد؛ فالخلاف اللفظي لا ثمرة له في الفروع الفقهية، إنَّما الكلام كله في الخلاف المعنوي -الخلاف الحقيقي، فالخلاف المعنوي لا بد أن تظهر له ثمرة.
المسألة الرابعة: حكم الجعالة:
نسمع كثيرًا مصطلح “الجعالة” وله باب في الفقه الإسلامي.
والجعالة أو الجعل أو الجعيلة في لغة العرب: ما يُجعل للإنسان على فعل شيء، يعني: أنا أقول لك: افعل لي كذا، وسأعطيك جُعلًا كذا، ولذلك المالكية عرفوها بأنها: الإجارة على منفعة مظنون حصولها، وبالمثال يتضح المقال.
مفهوم وحقيقة وماهية الجعالة:
لو قال قائل مثلًا: من ردَّ عليّ دابتي الشاردة فله كذا. هذا الذي سيدفعه جعل، وهذا الذي أنشأه جعالة.
وقريب من هذا في عصرنا هذا ما يخصص من المكافآت لأوائل الناجحين.
سبب الخلاف:
سبب الخلاف: إن عقد الجعالة هذا وارد على منافع مظنونة، أنت تقول: من حفر بئرًا يخرج منه الماء، أنت قد تحفر يومًا ويومين، وشهرًا وشهرين ولا يخرج الماء، إذن لا تأخذ المكافأة، فيصير فعلك هذا هباء.
ولذلك، العلماء فرقوا بين الجعالة، وبين الإجارة، معلوم عقد الإجارة لكل الناس، أنا أؤجر شقة أسكن فيها شهرًا أو شهرين أو كذا، عند كتابتي لعقد الإجارة، هل أنا سكنت بالفعل؟ أبدًا لم أسكن بالفعل. إذن العقد على ماذا؟ على منافع محتملة؛ ولهذا فرقوا بين الجعالة وبين الإجارة من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إنَّ المنفعة لا تحصل للجاعل إلا بتمام العمل، وعقد الجعالة المنفعة لا تحصل للجاعل إلا بتمام العمل، بخلاف الإجارة، فإنَّه يحصل من المنفعة مقدار ما عمل.
الوجه الثاني: أن العمل في الجعل قد يكون معلومًا وغير معلوم، كحفر بئر حتى يخرج منها الماء، وقد يكون قريبًا أو بعيدًا، بخلاف الإجارة فلا بد أن يكون العمل فيها معلومًا.
الوجه الثالث: أنه لا يجوز شرط تقديم الأجرة في الجعل، بخلاف الإجارة.
ولنبين لكم الآن ربط الفرع بالأصل، الفرع الآن حكم عقد الجعالة, والأصل شرع من قبلنا، هذا بناء الفرع على الأصل؛ فالفرع حكم عقد الجعالة، والأصل شرع من قبلنا.
الدليل من القرآن: استدل أصحاب المذهب الأول الذين قالوا بجواز عقد الجعالة بالكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [الأنعام: 1] قالوا: والجعالة عقد من العقود، فيجب الوفاء به.
قول الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته: {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] هذه الآية الكريمة هي عمدة من أجاز الجعل، ومعلوم أن هذا الخطاب وارد في شرع من قبلنا، فهو وارد في شرع يوسف عليه السلام.
وهذا الدليل وهذا الخطاب يستقيم دليلًا للمالكية والحنابلة؛ لأن من أصولهم: أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد نسخه، فالمالكية والحنابلة يقولون: عقد الجعالة جائز، والدليل على ذلك قوله تعالى: {قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] نقول لهم: لكن هذا الخطاب وارد في شرع من قبلنا، نقول: ونحن نقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا.
وأما الدليل من السنة: على جواز عقد الجعالة: ما رواه الجماعة إلا النسائي عن أبي سعيد الخدري: ((أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حيًّا من أحياء العرب فلم يقروهم)) يعني: لم يضيفوهم هذا الحي لعله كان فيهم بخلٌ شديدٌ، فلم يقروهم ((فبينما هم كذلك إذ لُدِغ سيد أولئك)) لدغته حية، أو لدغه ثعبان ((فقالوا)) يعني: أهل هذا الحي ((لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل فيكم راق؟)) هل فيكم شخص يرقي سيدنا لأنه لدغ؟ ((فقالوا: لم تقرونا فلا نفعل، أو تجعلوا لنا جعلًا)) يعني: إن أردتم أن نرقي سيدكم اجعلوا لنا جعلًا، يعني: مكافأة ((فجعلوا لهم قطيع شاء)) يعني: شاء أو شياة ((فجعل رجل)) يعني: من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ((يقرأ بأم الكتاب، ويجمع بزاقه)) يعني: ريقه ((ويتفل)) يعني: على موضع اللدغ ((فبرئ الرجل، فأتوهم بالشاء)) يعني: أعطوهم الجعل ((فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فضحك وقال: وما أدراك أنها رقية؟ خذوها واضربوا لي فيها بسهم)) والحديث رواه البخاري ورواه الإمام مسلم ورواه غيرهما.
ووجه الدلالة من الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أجاز أخذ الجعل على الرقية بالقرآن، يعني: فاتحة الكتاب.
إذن: عقد الجعالة جائز، والدليل عليه القرآن والسنة، أما القرآن فآية من شرعنا، وآية من شرع من قبلنا، وهي الواردة في قصة يوسف، وأما السنة، فواردة في شرعنا.
وأما الدليل من المعقول على جواز عقد الجعالة: قالوا: هي الحاجة، يعني: العقل يقضي بأن عقد الجعالة هذا لا بد منه، فالحاجة تدعو إليه، من رد ضالة، وآبق، وعمل لا يقدر عليه صاحبه، وقد لا يجد من يتبرع به، فجاز بذل الجعل كالإجارة والمضاربة.
إلا أنَّ جهالة العمل، والمدة لا تضر، بخلاف الإجارة؛ لأنَّ الجعالة غير لازمة، والإجارة لازمة.
ومعنى لازم وغير لازم في العقود، العقد اللازم يعني: الذي يلزم طرفاه المضي فيه، وغير اللازم يعني: لا يلزم طرفاه المضي فيه، بل لكل واحد أن يفسخه.
واستدل أصحاب المذهب الثاني على عدم جواز عقد الجعالة بالغرر الذي في العقد، فالآن أنت لو قلت: لك عندي كذا إن فعلت كذا، هذا الذي سأفعله أنا غير متأكد من تحصيله، ففيه نوع من الغرر، قال: من رد علي دابتي فله كذا، هذه الدابة ردها غير متيقن، ولا يغلب على الظن، ففيه نوع من الغرر.