شروط الردة، وعقوبتها
لا شك أن هناك شروطًا إذا توفرت في المرتد، أو في المتحول عن دين الإسلام، المبدل لدينه، كان مرتدًا، وتترتب عليه أحكام الردة، وما لذلك من مقتضيات نبينها -إن شاء الله.
والشرط الأساسي والمجمل لصحة الردة: هو حصول التكليف، بمعنى: أن يكون المرتد مكلفًا، ومن ثم، فإن كان غير مكلف، فلا اعتبار لردته، ولا ينبغي في نفس الوقت أن تترتب عليها أحكام من قتل، وغير ذلك.
إذن، الشرط -كما ذكرنا- هو التكليف، والتكليف -كما نعلم- يتحقق بالعقل، والبلوغ، والاختيار، ومن ثم، فلا تصح الردة من المجنون، فإن العقل من شرائط الأهلية، خصوصًا في الاعتقادات، ومن المعلوم كذلك، أن العقل يعتبر مناط المسئولية؛ إذ لا مسئولية بغير عقل، فكذلك الأمر بالنسبة للصبي الذي لا يعقل، فإنه غير مؤاخذ بردته؛ لانعدام شرط من شرائط الأهلية، وهو البلوغ.
وفي هذا المعنى، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق))، وهذا ما عليه عامة العلماء، أن الصبي الذي لا يعقل غير مؤاخذ بردته، بنص حديث رسول اللهصلى الله عليه وسلم لأنه بذلك خرج عن دائرة التكليف، لكن، ماذا عن الصبي العاقل؟
إذا كان ما تقدم، وما عليه العلماء في شأن الصبي الذي لا يعقل، وأنه غير مؤاخذ بردته، فماذا عن الصبي العاقل، هل تصح ردته؟ وهل تكون معتبرة حتى تنبني عليها أحكام المرتدين، أو لا تكون معتبرة لمجرد عدم البلوغ؟
الواقع، أن هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء؛ إذ من الفقهاء من يرى عدم صحة الردة منهم، ومن ثم، تكون غير معتبرة.
ومن الفقهاء من يرى خلاف ذلك، إذًا، المسألة على رأيين: جمهور الشافعية، والحنابلة، والمالكية، وأبو يوسف من الحنفية، على أن الصبي العاقل لا تصح منه الردة، فهي بذلك غير معتبرة منه؛ لعدم بلوغه.
ووجه هذا القول: عقل الصبي في التصرفات التي تعود عليه بالضرر ملحق بالعدم، كأنه غير عاقل؛ ولهذا لم يصح طلاقه، ولا إعتاقه، ولا تبرعاته؛ لأن تلك من التصرفات التي تعود عليه بالضرر، ومعلوم أن الردة فيها ضرر محض، بخلاف الإيمان منه فإنه ينفعه.
أما الإمام أبو حنيفة، وصاحبه محمد، فقد ذهبا: إلى أن البلوغ ليس شرطًا لصحة الردة منه، وعلى هذا، تصح عندهما ردة الصبي العاقل.
ووجه قولهما: أن غير البالغ قد صح إيمانه، فصحت ردته.
هذا فيما يتعلق بالصبي.
وماذا عن السكران؟
إذ أنه من الأصناف التي أخبر صلى الله عليه وسلم عنهم: أنه رفع القلم عن ثلاث: إذ منهم المجنون حتى يفيق، فماذا عن السكران؟ هل تعتبر ردته؟
ثمة قولان في المسألة، أحدهما: هو قول المالكية، وأظهر الروايتين عن الشافعية، والراجح من قول الحنابلة، وهو: أن الردة تصح من السكران. ووجه هذا القول: أن الصحابة -رضوان الله عليهم- قالوا في السكران: إذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، فحده حد المفتري، وحد الفرية، وهو ما يأتي -إن شاء الله- في بابه، وإن كنا قد تحدثنا قبل ذلك في حد السكر.
وكذلك فإن السكران يصح طلاقه، فصحت بذلك ردته، كما لو كان صاحيًا، وكذلك فإن السكران مكلف، وهو مطالب بالصلاة، وسائر العبادات، وعليه إثمه بفعل المحرمات والمعاصي، ومع ذلك فإنه ينبغي أن تؤخر استتابته إلى حين صحوه؛ ليكتمل عقله، ويفهم ما يقال له.
الرأي الثاني: وهو قول الحنفية استحسانًا، والرواية الأخرى عن كل من الشافعية، والحنابلة، وهو: أن الردة من السكران لا تصح، فهي بذلك غير معتبرة.
ووجه ذلك: أن الردة تتعلق بالاعتقاد، وتتعلق بالقصد، ومن المعلوم، أن السكران لا يصح عقده، ولا قصده، فأشبه المعتوه، وكذلك، فإن السكران يعتبر زائل العقل، فلم تصح ردته كالنائم، كذلك، فإن العقل شرط التكليف، وهو-أي: العقل- معدوم في السكران.
وماذا عن الاختيار؟ وماذا لو أكره الشخص على الردة؟ هل تعتبر الردة حال الاختيار، وحال الكراهية، أو هي معتبرة في حال الاختيار فقط؟
لا شك أنه لا تصح الردة مع الإكراه، وعلى هذا، فإن المرتد لا تقوم عليه الحجة بإقامة الحد، وغيره من الأحكام التي تترتب على الردة، إلا إذا ارتد طائعًا، ومن غير إكراه، وعلى ذلك، لو أشهر أحد على آخر سلاحه، وهدده بالقتل إذا لم ينطق بكلمة الكفر، فإن المكره يرخص له أن يجرى على لسانه كلمة الكفر، إذا كان القلب مطمئنا بالإيمان، وهو ما ذهب إليه عامة أهل العلم، مستدلين على ذلك بقول الله تعالى:{ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه))، حيث أفادت الآية الكريمة: أنه لا اعتداد بالنطق بكلمة الكفر باللسان، طالما أن الناطق بها مطمئن قلبه بالإيمان.
وبين الحديث أيضًا، أنه لا يؤاخذ الشخص فيما أُكره عليه، فلو أكره مثلا على البيع، أو طلاق امرأته، أو على خروجه عن الإسلام، وكان إكراهًا ملجئًا، فإنه بناءً على هذا الحديث لا اعتبار لكل تلك التصرفات، وعلى ذلك، لو أكره على النطق بكلمة الكفر شخص، وهو أسير في دار الحرب كان مكرهًا، ولا شك له عذره، ولا تصح منه الردة، لكن لو تلفظ بكلمة الكفر في دار الحرب، وهو غير أسير اعتبر مرتدا؛ لأن كونه في دار الحرب لا يعتبر دليلا على إكراهه على التلفظ بكلمة الكفر.
وعلى أيَّة حال، فإن الذي يقع عليه إكراه ليقول كلمة الكفر، من الفقهاء من يقول: الأفضل له أن يصطبر ويتماسك دون النطق بها، حتى لو أدى ذلك إلى قتله، لكنه إذا لم يحتمل، ونطق بها فهو جائز -كما بينا- ما دام قلبه مطمئنًا بالإيمان.
وقد أخرج البيهقي، عن ابن عباس في قول الله تعالى: { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، قال: أخبر الله -سبحانه- أن من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله، وله عذاب عظيم، فأما من أكره فتكلم بلسانه، وخالفه قلبه بالإيمان؛ لينجو بذلك من عدوه، فلا حرج عليه؛ إن الله -سبحانه- إنما يأخذ العباد بما عليه القلوب.
وأخرج البيهقي -أيضًا-: ((أن المشركين أخذوا عمار بن ياسر، ولم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وسلم وذكر آلهتهم بخير، ثم تركوه فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟ مطمئن بالإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: إن عادوا فعد)) من هنا، أصبح الأمر واضحًا على أنه لا اعتداد، ولا اعتبار بردة عن طريق القول، ما دام القلب مطمئنا بالإيمان، وما دامت تلك الردة صادرة عن إكراه ملجئ خشي بها المكره على نفسه، أو على ذويه.
وهل يشترط لصحة الردة عنصر الذكورة؟ بمعنى: هل يشترط لصحة الردة من أجل وجوب القتل، أن يكون المرتد ذكرًا؟
فقهاء الشافعية، والحنابلة، والمالكية، يقولون: لا يشترط ذلك، بل يستوي في وجوب القتل ما لو كان المرتد رجلًا، أو امرأة من غير تمييز بينهما، وقد استدلوا لذلك، بعموم النصوص الدالة على صحة الردة من كل مكلف، سواء كان رجلًا، أو امرأة، ووجوب القتل عليه.
ومما يؤيد ذلك، ما أخرجه البيهقي، عن جابر: ((أن امرأة يقال لها: أم مروان ارتدت عن الإسلام، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام، فإن رجعت وإلا قتلت)) كما أخرج البيهقي: المرأة تكفر بعد إسلامها، قال: تستتاب، فإن تابت، وإلا قتلت.
هذا هو ما ذهب إليه فقهاء الشافعية، والحنابلة، والمالكية، حول اشتراط الذكورة، وقد تبين لنا، أنه ليس بشرط عند هؤلاء أن يكون المرتد ذكرًا حتى يعاقب بعقوبة الردة المقررة، مستدلين على ذلك، بعموم النصوص التي لا تفرق بين ما إذا كان المكلف رجلًا أو امرأة.
أما فقهاء الحنفية: فهم يوافقونهم في صحة الارتداد من المرأة، وما يترتب على الردة من الكفر، وحبوط الأعمال، لكنهم يخالفونهم في القتل، وبناء على هذا، تصح الردة من المرأة عند الجميع، لكنها لا تقتل عند فقهاء الحنفية، بل تجبر على الإسلام، وإجبارها على الإسلام يكمن في أن تحبس، وتخرج في كل يوم فتستتاب، ويعرض عليها الإسلام، فإن أسلمت، وإلا حبست ثانيًا، وهكذا حتى تعود إلى الإسلام مرة ثانية، أو تموت.
وزاد على ذلك الفقيه الحنفي الكرخي، حيث قال: تضرب أسواطًا في كل مرة؛ تعزيرًا لها على ما فعلت.
وقد استدل فقهاء الحنفية، فيما ذهبوا إليه من عدم استحقاق المرأة للقتل بالردة: بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء، لكن قد يؤخذ على هذا الاستدلال، بأن النهي الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ورد فيما يتعلق بالحرب.