شروط المصالَح عنه
المصالح به أو المصالح عليه هو الذي قلناه قبل ذلك، وهو بدل الصلح، أي: ما يدفع بدلًا عن الصلح، لكن المصالح عنه شيء آخر، فالمصالح عنه هو الشيء المتنازع فيه، وهو نوعان: حق الله، وحق العبد.
أما حق الله فلا خلاف بين الفقهاء في عدم صحة الصلح عنه، فلا يصح الصلح عن حد الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وإذا وقع كان باطلًا، فلا يتصالح شخص مع شخص سرق منه شيئًا؛ فيقول له: نتصالح أعطني ما سرقته، ونتصالح على هذا بأن أعطيك شيئًا من السرقة، أو أعطيك بدلًا عنها كذا، هذا لا يجوز، فهذا حق الله. فلا يجوز التنازل عن القطع في السرقة؛ لأن القطع حق الله، وعليه لا يقول له هذا: أعطيك هذا ونتنازل, وأتنازل عن حق الله في السرقة.
أما حق العبد فهو الذي يصح الصلح عنه؛ إذا تحققت شروط تجعل التصالح في حق العبد جائزًا، وهذه الشروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون المصالح عنه بالنسبة لحق العبد حقًّا ثابتًا للمصالح في المحل، فإذا لم يكن له حق فيه، أو ليس له حق ثابت فيه؛ فلا يجوز الصلح عنه.
ومثال ذلك قال الفقهاء: لو أن امرأة طلقها زوجها, فادعت عليه صبيًّا في يده أنه ابنه منها, والزوج يجحد فيقول: هذا ليس ابني منكِ، فصالحت عن النسب، أي: قالت له: نتصالح عن النسب، فقال: أعطيك شيئًا، ويكون منسوبًا إليك، فهذا الصلح باطل، لأن الشرط يقول: أن يكون المصالح عنه حقًّا ثابتًا للمصالح، والنسب هنا حق الصبي لا حقها، فلا يجوز أن تصالح عنه، ولا تملك المعاوضة عن حق غيرها.
الشرط الثاني: أن يكون المصالح عنه مما يجوز أخذ العوض عنه, سواء كان مما يجوز بيعه أو لا يجوز، أو كان مالًا أو غير مال مثلًا.
ومثال ذلك: يجوز الصلح عن القصاص في النفس، وفي دونها، وعن سكنى الدار أو نحوها لقطع المنازعات، فلو صالح شخص عن القصاص بأكثر من الدية أو أقل جاز، أي: لو قتل شخص إنسانًا عمدًا، وصالح أهل المقتول عن القصاص منه بأكثر من الدية أو أقل جاز؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178], وهنا في هذا الشرط يكون المصالح عنه مما يجوز أخذ العوض عنه، والمصالح عنه في القصاص يجوز أخذ العوض عنه؛ لأن الله قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ}, فالقصاص حق ثابت في المحل، ويجري فيه حتى العفو من غير شيء مجانًا، فكذا يجوز تعويضًا.
أما إذا صالح عن قتل الخطأ بأكثر من ديته من جنسها لم يجز؛ لأنه إذا أخذ أكثر فقد أخذ حقه والزيادة لا مقابل لها, فيكون من أكل أموال الناس بالباطل، إذا صالحه على غير جنس الدية بأكثر من قيمتها يجوز؛ لأنه بيع، بمعنى: لو أن شخصًا صالح شخصًا قتل شخصًا خطأً، فجاء أهل المقتول يأخذون الدية من القاتل, فقالوا له: لا تكفي ألف دينار، أو مائة من الإبل مثلًا هذا أو ذاك، ولكن نصالحك على ألفين من الدنانير، فصالحوه على القتل الخطأ بأكثر من الدية من جنسها، أي: يقول مثلًا: ألف دينار تكون بألفين أكثر من جنسها لم يجز؛ لأنه أخذ -أي: ولي المقتول- أكثر من حقه وزيادة، فهذا لا مقابل له فيكون من باب أكل أموال الناس بالباطل؛ ولذلك نعود لمنطوق الشرط، وهو أن يكون من شروط المصالح عنه أن يكون مما يجوز أخذ العوض عنه, سواء كان مما يجوز بيعه، أو مما لا يجوز، وسواء كان مالًا أو غير مال، فالمهم أنه يجوز أخذ العوض عنه، وضربنا مثالًا أو مثالين، مثالًا بالقصاص، وأن هذا جائز، ومثالًا بالدية بأكثر منها من جنسها، أو من غير جنسها، إذا كان صالحه على غير جنسها بأكثر من قيمتها يجوز، ومعنى ذلك: أنه قال له: أنت تريد أن تعطيني مثلًا مائة من الإبل, لا أنا أريد أن آخذ منك بدلًا من الإبل خمسة آلاف من الغنم, صالحه على غير جنسها بأكثر من قيمتها، المائة من الإبل تساوي عشرة آلاف، خمسة الآلاف من الغنم تساوي عشرين ألفًا، هذا لا يضر؛ فالفقهاء قالوا هنا: لأنه بيع كأنه باع هذا بذاك، باع له الإبل وكان ثمنها غنمًا، فهذا يجوز؛ لأنه لا ربا هنا بين المعوض والمعوض عنه؛ لأنه هنا بيع.
الشرط الثالث من شروط المصالح عنه: أن يكون معلومًا، والفقهاء اختلفوا في اشتراط هذا الشرط، وفي مداه، أي: الذي يتفرع عنه أو وجوده في أي مكان.
قال الشافعية: لا يصح الصلح عن المجهول؛ لأن أصل الصلح بمنزلة البيع، وإذا وقع على المجهول الذي لو كان بيعًا لكان حرامًا؛ لأنه يكون من الصلح الذي أحل حرامًا.
فأول رأي في معلومية المصالح عنه، وهو كونه معلومًا، قال الشافعية: إن الصلح عن المجهول -أي: المصالح عنه إذا كان مجهولًا- يكون غير صحيح؛ لأن أصل الصلح كالبيع؛ لأنه في حالة التنازل بالصلح عن ألف بخمسمائة, فكأنه تم بيع الألف بخمسمائة، وهذا معنى قولنا: الصلح بمنزلة البيع، فهذا يكون من الصلح الذي أحل حرامًا.
الرأي الثاني للحنفية, قالوا: يشترط هذا الشرط في المصالح عنه, إذا كان مما يحتاج إلى التسليم والتسلم، كما قلنا في شرط المصالح به عند الحنفية, قالوا: إذا كان محتاجًا إلى تسليم وتسلم هنا, فلا بد من أن يكون معلومًا في المصالح به، ونحن هنا في المصالح عنه.
القول الثالث للمالكية والحنابلة؛ حيث فرّقوا بين ما إذا كان المصالح عنه مما يتعذر علمه وبين ما لا يتعذر علمه، فإذا كان مما يتعذر علمه يصح الصلح عنه سواء أكان عينًا أم دية، وسواء جهلاه -أي: المصالِح والمصالَح- أو جهلا من عليه الحق.
ودليلهم على التفرقة بين ما إذا كان المصالح عنه معلومًا أو مجهولًا, ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: “جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما, قد درست” -أي: انتهى الأمر بها، وعفى عليها الزمان، وهي مواريث قديمة لم يستطيعوا أن يتبينوها؛ هذا يقول: هذه حقي أو حق أبي، والثاني يقول الكلام نفسه، فهذه يتعذر علمها؛ فالمالكية والحنابلة قالوا: إذا كان مما يتعذر علمها يجوز بدليل هذا الحديث.
واستدلوا أيضًا بأنه إسقاط حق, فصح في المجهول كالطلاق للحاجة، أي: صلح المجهول يتعذر علمه ما دام متعذرًا كالطلاق للحاجة، أي: الطلاق الأصل فيه أنه أبغض الحلال إلى الله، لكن عند الحاجة يجوز، والحاجة مجهولة لا يسأل عنها المطلق، فالطلاق للحاجة إذا كانت مجهولة يجوز.
ويستدلون أيضًا بدليل ثالث يقولون -وهو دليل عقلي-: إن الصلح إذا صح مع معرفة المصالح عنه، وإمكان أداء الحق بعينه, فلأن يصح مع الجهل أولى.
إذًا: يستدلون بأن المصالح عنه إذا كان يتعذر, فلا نستطيع أن نصل إلى معلوميته كالمواريث التي كانت بين المتخاصمين من الأنصار، فهذه يجوز الصلح فيها، لكن إذا كان لا يتعذر علمه.
وضربوا مثالًا لهذا بتركة, صالح الورثة الزوجة عن حصتها منها، وكانوا يعلمون بالتركة فلا يتعذر علمها, وهذا لا يجوز، لكن إذا كانوا جاهلين بالتركة -لا يعلمون التركة- بمعنى: أن هذه التركة مضى عليها الزمن، وهذه الزوجة كانت تعيش في بلد كذا، والورثة يعلمون أنه ليس هناك زوجة لمورثهم، فتصرفوا في المال، وأرادوا أن يستعيدوا معرفته فصعب عليهم، فيجوز أن يصالحوها عن نصيبها في مورثها، أو هذه الزوجة في زوجها، ولو كان المصالح عنه مجهولًا؛ لأنه تعذر العلم.
وخلاصة ما قاله المالكية والحنابلة في شرط معلومية المصالح عنه: أنه إذا تعذر معرفته يجوز الصلح، وإذا لم تتعذر لا يجوز الصلح.