شروط عقد البيع
شروط البيع:
واختلف العلماء في تحديد شروط البيع، ما بين موسِّع ومضيِّق، وأكثر الفقهاء ذِكْرًا لشروط البيع وتقسيمها، وتنويعها، هم الحنفية، وأقلهم بالنسبة للمذاهب الأربعة، هم الحنابلة، فجملة الشروط عند الحنفية، ثلاثة وعشرون شرطًا، بعضها يتعلق بالانعقاد، وبعضها يتعلق بالصحة، وبعضها يتعلق باللزوم، وبعضها يتعلق بالنفاذ؛ لأن العقد عندهم متنوع، فيه شروط للصحة، غير شروط الانعقاد، وفيه شروط للزوم العقد، غير شروط الانعقاد والصحة، وفيه شروط الزوم غير شروط النفاذ، والصحة، والانعقاد.
وسنبدأ بالحنفية، فنجد أنهم اشترطوا في الصيغة، واشترطوا شروطًا للعاقدين… إلى آخره، تبعًا لاختلافهم في أنواع العقد.
أما شروط الانعقاد، فقد اشترطوا في العاقد سواء كان بائعًا، أو مشتريًا، أن يكون عاقلًا أو مميزًا، وأن يكون متعددًا.
ونلاحظ أنهم لم يشترطوا للانعقاد، أن يكون العاقد بالغًا، واكتفوا بأن يكون عاقلًا أو مميزًا، فالمهم للانعقاد، هو وجود التمييز أو مجرد العقل الفطري البسيط.
ومعنى أن يكون متعددًا، يعني: كي ينعقد العقد عندهم؛ لا بد أن يكون له طرفان: بائع ومشترٍ، ومعنى هذا: أن الإنسان لا يجوز أن يبيع لنفسه، ولا أن يشتري لنفسه، يعني: لا يكون البائع هو نفسه المشتري في ذات الوقت، وإن كان غيرهم من الفقهاء، لهم فيه كلام وتفصيل، أن من الممكن أن يكون الإنسان أصيلًا في عقد، ووكيلًا في عقد آخر، يعني: يكون أصيلًا، فيشتري شيئًا من الأشياء التي هو موكل ببيعها، لكن الحنفية رفضوا هذا؛ حتى لا يكون هناك أدنى شبهة في أن يجامل نفسه.
واشترطوا في الصيغة -وهي الإيجاب والقبول، وأهم أركان العقد، بل ركنه الوحيد كما يقول الحنفية- سماعها، يعني: يكون فيها تلفظ بحيث إن أطراف العقد يسمعونها، كل منهم يسمع كلام الآخر.
وتوافق الإيجاب والقبول: أن يكون الإيجاب والقبول متوافقين على شيء واحد، فمثلًا لو قال: بعتك هذه السيارة بمائة ألف، وقال: وافقت على شراء هذا البيت بمائة ألف؛ لا يتم العقد؛ لأن أحدهم يتكلم عن السيارة، والآخر يتكلم عن البيت، فلا بد من توافق الإيجاب والقبول.
واشترطوا أيضًا في الصيغة -مع السماع، وتوافق الإيجاب والقبول- اتحاد مجلس العقد، يعني: أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد، أما لو أن البائع عرَض على المشتري، وقال له: بعتك كذا، فسكت مَن عليه القبول، فقام البائع من مجلسه فغير المجلس، انتهى، فلا بد من إيجاب وقبول جديدين.
واشترطوا في المعقود عليه أن يكون المبيع مالًا معقودًا عليه، فالسلعة التي تباع، لا بد أن تكون مالًا متقومًا، والمال المتقوم، يعني: ما له قيمة، وكلمة مال عند الحنفية،أن كل شيء له منفعة ويُدخر لوقت الحاجة، يكون مالًا متقومًا، يعني: له قيمة شرعية، بحيث لو أن شخصًا أتلفه يجب عليه الضمان فيه.
وأن يكون محرزًا، يعني: في حيازة البائع إحرازًا، وليس طيرًا في الهواء، أو سمكًا في الماء، أو لبنًا في الضرع.
وأن يكون حين التعاقد، يعني: أنه أثناء التعاقد لا بد وأن يكون المعقود عليه موجودًا، أما إذا كان معدومًا؛ فلا ينعقد العقد عندهم.
وأن يكون مقدور التسليم، يعني: في إمكان البائع تسليمه للمشتري، أما إذا كان شيئًا هاربًا أو شيئًا ليس في مُكنة البائع أن يسلمه للمشتري؛ لأنه لا يملكه، أو لا سلطان له عليه؛ إذًا فلا ينعقد العقد.
واشترطوا في البدل -الذي هو الثمن- أن يكون مالًا أيضًا؛ لأن البيع: مبادلة مال بمال، فالمبيع مال، فكذلك الثمن لا بد وأن يكون مالًا، بمعنى: ما له منفعة، ويمكن ادخاره لوقت الحاجة. وأن يكون مالًا متقوَّمًا، قائمًا، يعني: موجودًا بالفعل.
وأما شروط الصحة، فهي عندهم نوعان: شروط عامة، وشروط خاصة، يعني: شروط عامة في جميع العقود، وشروط خاصة بعقد البيع.
فبوجه عام في جميع العقود، يشترطون حتى يتم العقد ويكون صحيحًا، أن ينعقد أولًَا؛ لأنه لا صحةَ بدون انعقاد، فلا بد من توافر شروط الانعقاد، بالإضافة إلى هذا، لا بد وأن يكون المبيع معلومًا، وأن يكون الثمن معلومًا كذلك.
وأن لا يكون مؤقتًا، يعني: لا يكون العقد مؤقتًا بمدة، وإلَّا لم يكن عقدًا، وأن يكون للبيع فائدة، وأن يخلو من الشرط المُفسد، يعني: لا يكون في عقد البيع شرط مُفسد.
وأما شروط صحة المبيع الخاصة به، فهناك شروط تخص بعض البيوع، وبعض السلع، وبعض الأشياء، فهناك بعض الأمور على سبيل المثال، لا بد فيها من القبض، فالقبض شرط في المنقول، يعني: لا يمكن نقله من مكان إلى مكان، وشرط أيضًا في العقار الذي يخشَى هلاكُه، أن يتسلمه ويقبضه.
وأن يكون الثمن الأول معلومًا في بيوع الأمانة، وبيوع الأمانة: نوع من أنواع البيوع، يعني: كأن يبيع الإنسان شيئًا، ويربح فيه كذا، أو يخسر فيه كذا، أو يبيعه بنفس الثمن، فلا بد أن يكون ثمن البيع الأول معلومًا؛ لأن في بيوع الأمانة لا بد وأن يكون معلومًا.
والتقابض، والتساوي في البدلين المتحدين في الجنس من كل ما يُكال أو يوزَن، يعني: هذا احتراز من عقد الصرف.
والصرف معناه: أن يباع ذهبٌ بذهب، أو فضةٌ بفضة، أو أيُّ شيءٍ مكيل، بأيِّ شيء مكيل، أو شيءٍ موزون بشيءٍ موزون؛ حتى نتفادَى الربا إذا كان متحدَ الجنس، ومتحد الوزن، فلا بد من التسليم والتساوي في الحال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلاَ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ، وَلاَ الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَلاَ الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ، وَلاَ الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ، وَلاَ التَّمْرَ بِالتَّمْرِ، إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْن)).
إذًا عند الحنفية شروط عامة في كل أنواع البيوع، وشروط خاصة ببعض أنواع البيوع؛ حتى يصح العقد.
وأما شروط النفاذ عند الحنفية، فهي: أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، أو له عليه ولاية، إلَّا في عقد السلم، إذا كان الشخص الفضولي سيملك المعقود عليه بعد العقد مباشرةً؛ فالحنفية قد اشترطوا هذا الشرط للنفاذ، وإذا اختل هذا الشرط؛ يصبح العقد غيرَ نافذ، يعني: لا ينفذ إنما يتوقف حتى يجيزه صاحب الشأن، مثل بيع الفضول، وبيع الفضول عند كثير من العلماء، لا ينعقد أصلًا، ولا يجوز، كأن يبيع الإنسان شيئًا لا يملكه هو، بأن يكون مملوكًا لصديق، أو لصاحب، فلا ينعقد البيع، بخلاف الحنفية، فإنه ينعقد عندهم، لكنه ينعقد موقوفًا على إجازة صاحب الشيء، إلَّا في عقد السَّلم، وعقد الفضول، فيجوز إذا كان هذا الفضولي، سيملك الشيءَ المعقود عليه بعد العقد.
الفضولي: هو الذي يتصرف فيما لا يملك، وليس له عليه ولاية.
فالوكيل مثلًا، ليس فضوليًّا، والوصي على الشيء، ليس فضوليًّا، لكن من لم يكن وكيلًا، ولا وصيًّا، ولا ولاية له على السلعة، ثم يقوم ببيعها دون وجود صلةٍ له بها؛ فهذا هو الفضولي.
قال الحنفية: من الممكن أن يكون في هذا البيع مصلحة لصاحب السلعة، فلماذا لا ينعقد؟ ينعقد، وينعقد صحيحًا، لكن ينعقد موقوفًا ولا ينفذ إلَّا بعد موافقة صاحبه، أو وكيله.
وأما ما يُشترط للزوم العقد حتى يصبح العقد لازمًا لا جائزًا، يعني: لا يقبل الفسخ، ولا يتعرض للفسخ، فهو شرط واحد؛ وهو خلو البيع من الخيار، يعني: ليس فيه أيُّ نوع من أنواع الخيار التي تجيزها الحنفية، مثل الخيار الشرطي، إذا قال: أبيعك هذه السلعة بشرط أن أردَّ عليك بعد ثلاثة أيام مثلًا، فيكون العقدُ في تلك المدة غيرَ لازم، بل من الجائز، ومن الممكن فسخ هذا البيع.
هذا بالنسبة للحنفية.
وإذَا انتقلنا من الحنفية، إلى المالكية، فإننا نجدهم اشترطوا أيضًا بعضَ الشروط، لكن لم يتوسعوا كثيرًا كما فعل الحنفية، فاشترطوا في العاقد سواء أكان بائعًا أم مشتريًا: أن يكون مميزًا، وأن يكون مالكًا، أو وكيلًا عن المالك، معنى هذا أنهم لا يجيزون التصرف الفضولي، وأن يكون كل منهما -البائع والمشتري- مختارًا، يعني: لا يكون مكرهًا.
وأن يكون البائع رشيدًا، وذلك بأن يكون غيرَ محجور عليه بِسَفه، أو ممنوع من التصرف في ماله.
هذه الشروط بالنسبة للعاقد.
واشترطوا في الصيغة -وهي الإيجاب والقبول- أن يتحد المجلس الذي يتم فيه الإيجاب والقبول، ولا يفصل بين الإيجاب والقبول، يعني: لأنهم ليس عندهم خيار المجلس، وأيضًا لا يفصل بين الإيجاب والقبول شيء يشعر بانصراف مَن له القبول عن هذا القبول، فإذا عاد؛ احتاج ذلك إلى إيجاب جديد.
واشترطوا في الثمن والمثمَّن أن يكون طاهرًا، وأن يكون منتفعًا به، وأن يكون معلومًا للعاقدين، وأن يكون مقدورًا على تسليمه، معنى هذا: أنهم لا يجيزون أن يكون أيّ شيء نجسًا، ثمنًا أو مثمنًا، فلا يجوز بيع أيّ شيء نجس، كالدم، والخنزير، وما إلى ذلك من النجاسات.
وأن يكون منتفعًا به، يعني: أن يكون له منفعة مشروعة، لكن الأشياء التي ليس فيها منافع، بل فيها مضارّ كالسموم مثلًا، أو فيها منافع لكن منافع غير مشروعة، كأدوات اللهو مثلًا، فلا يصح بيعها.
وأن يكون معلومًا للعاقدين، يعني: كل من البائع والمشتري، يعلم السلعة ويعلم ثمنها يقينًا. وأن يكون مقدورًا على تسليمه، يعني: أن يكون البائع قادرًا على تسليم السلعة، وأن يكون المشتري يكون قادرًا على تسليم الثمن.
وبعد أن تحدثنا عن الحنفية، والمالكية، ننتقل إلى الشافعية، فنجد أنهم اشترطوا في العاقد: الرشدَ، فلا يكون محجورًا عليه، واشترطوا أيضًا: عدم الإكراه بغير، حق يكون مختارًا، لكن لو كان مكرهًا بحق؛ ينفذ، وبيعه أو شراؤه صحيح.
وإسلام مَن يشتري له مصحف، فإذَا اشتريت لشخص مصحفًا، أو بعت له مصحفًا، فإنه يُشترط أن يكون من تبيع له المصحف، أو مَن يشتريه منك، أن يكون مسلمًا؛ لأنك لو بِعت المصحف لغير مسلم؛ فأنت بهذا تعرض المصحف للإهانة، كما يرى الشافعية.
ويلحق بهذا، كتب العلم الشرعي مثل كتب التفسير؛ لأنها تفسير للقرآن، أو كتب الحديث النبوي الشريف، أو كتب الفقه التي تهتم بالأدلة، وفيها كثير من آيات القرآن، وكثير من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
واشترطوا أيضًا أن لا يكون المشتري حربيًّا، في بيع آلات الحرب، يعني: لا يجوز بيع آلات الحرب لمن كان حربيًّا، يعني: محاربًا للمسلمين، فبيع أدوات القتال لأعدائنا أمر ممنوع؛ لأنهم سيستخدمونها حتمًا في الحرب ضدَّنا.
واشترط الشافعية في الصيغة -الإيجاب والقبول- عدَّة شروط: أن يخاطب المتعاقدان كل منهما الآخر، بأن يقول: بعتك، أو اشتري مني، فكل منهما يخاطب الآخرَ ولا يخاطب مجهولًا.
وأن الخطاب يكون على جملة المخاطب، ومعنى هذا: أن كلام القبول يكون على الإيجاب، ولا يكون بين الإيجاب والقبول اختلاف، يعني: لا يتكلم البائع عن شيء، ويوافق المشتري على شيء آخر مختلف عنه، فلا بد أن يكون الإيجاب والقبول -يعني: الخطاب- موجَّه إلى شيء واحد.
وأن يكون القبول ممن صدَر معه الخطاب، كقولي لك: تشتري مني هذا الكتاب؛ فيرد شخص آخر غيرك، ويقول: أوافق، فلا يصح البيع؛ لأن الذي يرد بالقبول لا بد وأن يكون هو من توجه إليه الخطاب.
وأن يذكر البادئ بالكلام الثمنَ والمثمنَ، يعني: يقول: أشتري منك هذا الكتابَ بعشرة ريالات، أقول: المثمَّن الكتاب، والثمن عشر ريالات.
وأن يقصد كل من المتعاقدين معنى اللفظ الذي ينطق به، وأن يصر البادئ على ما أتى به، وأن لا يطول الفصل بين لفظي الإيجاب والقبول، وأن لا يتخلل بين الإيجاب والقبول كلام أجنبي عن العقد، وأن لا يغير الموجب كلامَه، وأن يسمع كل منهما الصيغة، وأن يتوافق الإيجاب والقبول تمامًا، وأن لا يعلق الصيغة بشيء لا يقتضيه العقد، وأن لا يكون العقد مؤقتًا.
واشترطوا في المعقود عليه أن يكون طاهرًا، منتفعًا به شرعًا، مقدورًا على تسليمه، مملوكًا للعاقد، أو له عليه ولاية، معلومًا للعاقدين، عينًا، وقدرًا، وصفةً.
وأما شروط البيع عند الحنابلة: فقد اشترط الحنابلة في العاقدين: الرشد إلَّا في الأمر اليسير فتسامحوا فيه.
واشترطوا التراضي بين المتبايعين، ويصح البيع في حالة الإكراه بحق، مثل ما قال غيرهم.
ويُكره الشراء من المضطر؛ وهو الذي يبيع سلعةً بأقل من ثمن المثل؛ لاحتياجه إلى المال، واضطراره إليه.
واشترطوا في الصيغة: اتحاد المجلس، وأن لا يكون بين الإيجاب والقبول فاصل يدل على الإعراض عرفًا، وأن لا يكون العقد مؤقتًا ولا معلقًا بغير مشيئة الله.
واشترطوا في المعقود عليه: أن يكون مالًا، وهو ما يباح الانتفاع به شرعًا مطلقًا في غير حاجةٍ ولا ضرورةٍ؛ لأن ما يحتاج إليه لحاجة أو لضرورة يباح كالميتة، لكننا نريد أن لا يكون مباحًا لحاجة أو لضرورة.
واشترطوا أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، وأن يكون المبيع مقدورًا على تسليمه حالَ العقد، وأن يكون معلومًا للبائع والمشتري، وأن يكون الثمن معروفًا لكلا المتعاقدين حالَ العقد أو قبله، وخلو الثمن، والمثمن، والمتعاقدين، من موانع الصحة.
وهكذا اشترطت كل من المدرسة الفقهية الحنفية، أو المالكية، أو الشافعية، أو الحنابلة، شروطًا في البيع، وبَيْنَ هذه الشروط أوجه الاتفاق وهي كثيرة جدًّا، وقليل من الاختلاف.
أما أوجه الاتفاق والاختلاف في شروط البيع بين الفقهاء -كما يتضح- فاشتراط التمييز في العاقد، أمر متفق عليه.
أما البلوغ: فهو عند الحنفية، والمالكية، شرط نفاذ، وعند الشافعية، والحنابلة، شرط صحة، والاختيار شرط انعقاد عند الجمهور، وشرط نفاذ عند الحنفية.
أما بالنسبة للمعقود عليه: فقد اتفقوا على اشتراط أن يكون مالًا متقومًا، أبيح الانتفاع به شرعًا، وأن يكون طاهرًا غيرَ نجس، وأن يكون مقدورًا على تسليمه، معلومًا غيرَ مجهول، غير أن الجَهالة تفسد العقدَ عند الحنفية، ولكنها تبطله عند الجمهور.