شروط مَن تقبل روايته
يشترط في من تقبل روايته شرطان:
الشرط الأول: العدالة.
الشرط الثاني: الضبط.
يشترط في الراوي الذي تقبل روايته أن يكون عدلًا في دينه، ضابطًا لحفظه، وسبق الحديث عن هذين الشرطين في شروط الحديث المقبول.
شروط الجارح المعدِّل:
شرط العلماء في الجارح المعدِّل شروطًا لا بد من تحققها، فإذا انتفى شرط من هذه الشروط رد قوله، ولا يقبل منه جرح ولا تعديل، وهذه الشروط هي:
الشرط الأول: أن يكون الجارح المعدل عدلًا في دينه، فلا يُقبل الجرح والتعديل من غير العدل؛ لأنه إذا كان مجروحًا في نفسه فلا تُقبل له رواية، فمن باب أولى لا نقبل منه جرحًا ولا تعديلًا.
الشرط الثاني: أن يكون ضابطًا لحفظه؛ لأن غير الضابط لا تُقبل روايته، فمن باب أولى لا يُقبل جرحه ولا تعديله، وسبق أن ذكرنا أن العدالة والضبط شرطان لقبول رواية الراوي، فإذا لم يكن الجارح المعدل مستجمعًا للشروط الواجب توفرها في الراوي المقبول الراوية فلا يقبل منه جرح ولا تعديل من باب أولى.
الشرط الثالث: أن يكون المجرِّح المعدل عالمًا عارفًا بأسباب الجرح والتعديل والخلاف في ذلك، مع حسن تطبيق ذلك على الرواة، ومع تمام الدراية بالرواة ومروياتهم، خبرة وتمرُّسًا ومقارنة، فلا يُقبل الجرح والتعديل من جاهلٍ بأسبابهما؛ لأنه قد يُعدِّل أو يجرح بوصف غير معتبر.
الشرط الرابع: ألا يكون الجارح المعدِّل متعصبًا لمذهب أو لغيره، فإن التعصب حمل أقوامًا فجرحوا الأئمة العدول، لا لقصور في ضبطهم أو طعن في عدالتهم، ولكن الذي حملهم على ذلك إنما هو التعصب الممقوت الذي أنساهم إنصاف المخالفين لهم، والتجرد للحق والعدل الذي أمر الله تعالى به في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون} [المائدة: 8].
والمعنى: لا يحملنكم بغض قوم على ألا تعدلوا فيهم، بل إن التعصب أوجب تكفير الناس لبعضهم، وأوجب عصبيةً اعتقدوها دينًا يُدان لله به، ويتقرب به إليه، وحقًّا يُذاد عنه.
الشرط الخامس: أن يكون الجارح المعدِّل عالمًا بالمذاهب الفقهية، ومدى الخلاف الذي وقع بين الفقهاء؛ حتى لا يُكفِّر مسلمًا أو يفسقه أو يبدعه بأمر يراه حرامًا وهو ليس بحرام، أو هو من المسائل المختلف فيها بين الفقهاء، ولا يصح أن ينكر المسلم على مسلم أمرًا مختلفًا فيه بين الفقهاء، فضلًا عن أن يكفّره أو يبدّعه أو يجرّحه.
الشرط السادس: أن يكون الجارح المعدّل تقيًّا ورعًا، ولما كان عمل الجارح المعدل هو الحكم على الراوي جرحًا أو تعديلًا، ويترتب على ذلك قبول روايته أو ردها- كان لا بد من أن يكون الجارح المعدل تقيًّا ورعًا؛ لأن مراقبة الله تعالى والخوف منه هو الذي يحمل العبد على الإنصاف وعدم مجاوزة الحد في سره وعلانيته.
الشرط السابع: ألا يكون الجارح المعدّل من المتشددين، كالإمام يحيى بن سعيد القطان، والنسائي، وأبي حاتم، وغيرهم، فمثل هؤلاء توثيقهم معتبر، ويجب أن يُعض عليه بالنواجذ، أما إذا جرّح واحد من هؤلاء المتشددين فلا يُعتبر به إلا إذا وافقه غيره من المعتدلين، اللهم إلا إذا لم نجد فيه جرحًا ولا تعديلًا لغير هذا المتشدد؛ فيكون إعمال قول المتشدد فيه أولى من إهماله، والله أعلم.
الشرط الثامن: ألا يكون بين الجارح ومن جرحه عداوات شخصية، أو منافسات علمية، كالذي يكون بين المتعاصرين غالبًا، فإن وجد شيء من ذلك بين الجارح ومن جرّحه لا يقبل الجرح مطلقًا.
هل الجرح والتعديل يقبلان من غير ذكر أسبابهما؟
أولًا: مذهب الجمهور:
ذهب الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده، وعلى رأسهم الإمام البخاري ومسلم، وأهل الفقه والأصول، إلى أن التعديل يقبل من غير ذكر سببه؛ وذلك للآتي:
أولًا: أسباب التعديل كثيرة يصعب ذكرها على المعدل؛ لأن ذلك يوجب على المعدل أن يقول: لم يفعل كذا، ولم يرتكب كذا، فيُعدل جميع ما يفسق بفعله أو بتركه، وهذا شاقٌّ جدًّا.
ثانيًا: الأصل في المسلم العدالة، ما لم يظهر منه خلاف ذلك.
أما التجريح فإنه لا يُقبل إلا مفسّرًا مبيَّنًا السبب؛ وذلك للآتي:
الناس يختلفون فيما يجرح وما لا يجرح، فيطلق أحدهم الجرح على أمر اعتقده جارحًا، وهو ليس بجارح في نفس الأمر؛ لذلك كان لا بد من ذكر سبب الجرح، لينظر فيما هو جارح وما ليس بجارح، لذلك احتج الإمام البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم، واحتج الإمام مسلم بن الحجاج بجماعة اشتهر الطعن فيهم، وهكذا فعل أبو داود السجستاني وغير واحد؛ احتجوا بجماعة سبق من غيرهم الطعن فيهم.
المذهب الثاني:
ذهب بعض العلماء إلى أن الجرح يُقبل من غير ذكر سببه، ولا يُقبل التعديل إلا بذكر سببه، وجهة نظرهم، قالوا: أسباب العدالة يكثُر التصنع فيها، فيبني المعدِّل على الظاهر.
المذهب الثالث:
ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يقبل الجرح والتعديل إلا مفسَّرَين؛ لأنه كما يجرح الجارح لا يقدح، كذلك يوثِّق المعدل بما لا يقتضي العدالة.
شروط قبول الجرح والتعديل من غير ذكر السبب: مما سبق اتضح أن الجرح والتعديل يُقبَلان من غير ذكر أسبابها بالشروط الآتية:
أن يكون الجارح المعدل عالمًا بأسباب الجرح والتعديل والخلاف في ذلك.
الشرط الثاني: أن يكون الجارح المعدل كلًّا منهما بصيرًا مرضيًّا في اعتقاده وأفعاله، فإن لم يكن كذلك، فلا بد من ذكر السبب الذي اعتمد عليه في الحكم بالجرح والتعديل.
وهذا هو الصواب الذي عليه العمل في كتب الجرح والتعديل، فنرى العلماء يقولون: فلان ثقة، وفلان ضعيف، دون أن يذكروا سبب الجرح أو التعديل.
فإذا لم نقبل الجرح والتعديل إلا إذا ذُكر السبب، فلماذا شرطنا فيمن يُقبل جرحه وتعديله ما شرطنا؟
وهل يُقبل قول كل أحد حتى يقال: لا بد من ذكر سبب الجرح والتعديل، لننظر في أقوالهم ونرى: هل أصابوا أم لا؟ إن هذه الشروط التي شُرطت فيمن يُقبل جرحه وتعديله كفيلة بتأمين جانب الخطأ أو الحيف في الحكم على الراوي، ثم إن الحكم النهائي على الراوي إنما يؤخذ من مجموع أقوال أئمة الجرح والتعديل، لا بقول واحدٍ فقط.
هل يثبت الجرح والتعديل بقول الواحد؟
المذهب الأول: ذهب جمهور العلماء إلى أن الجرح والتعديل يثبُتان بقول الواحد؛ وذلك لأن العدد لم يُشترط في قبول الخبر، كما هو الصحيح الذي عليه العمل، فلم يُشترط في جرح راويه أو تعديله، ولأن الجرح والتعديل بمنزلة الحكم، وهو لا يُشترط فيه أيضًا العدد.
المذهب الثاني: ذهب بعض العلماء إلى أن الجرح والتعديل لا يَثبتان بقول الواحد، بل لا بد من اثنين؛ قياسًا على الشهادة، وهذا قياسٌ باطل؛ لأنه قياسٌ مع الفارق، فهناك فرقٌ كبير بين الرواية والشهادة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
هل يثبت الجرح والتعديل بقول العبد والمرأة؟
للعلماء في ثبوت الجرح والتعديل بقول العبد والمرأة مذهبان:
المذهب الأول: ذهب الخطيب البغدادي، والرازي، والقاضي أبو بكر الباقلاني إلى أن الجرح والتعديل يثبت بقول العبد والمرأة؛ وذلك لأنه خبر، وخبرهما مقبول، وقد استدل الخطيب على ذلك بتعديل بريرة للسيدة الطاهرة عائشة رضي الله عنهما في قصة الإفك، فقال رحمه الله تعالى: والأصل في هذا الباب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بريرة في قصة الإفك عن حال عائشة أم المؤمنين، وجوابها له، ثم ذكر بإسناده “أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل بريرة عن عائشة فزكتها” وهذا هو الذي ترجم عليه الإمام البخاري في “صحيحه” باب تعديل النساء بعضهم بعضًا، وقد أخرج الإمام البخاري حديث الإفك بطوله، وفيه: «فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة، فقال: يا بريرة، هل رأيتِ فيها شيئًا يُريبك؟ فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق» الحديث أخرجه البخاري في (صحيحه).
المذهب الثاني: ذهب أكثر الفقهاء من أهل المدينة إلى أن الجرح والتعديل لا يثبتان بقول العبد والمرأة؛ لأنهما شهادة، والعبد والمرأة ليسا من أهل الشهادة، ولكن قياس الشهادة على الرواية قياس باطل، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.