Top
Image Alt

شروط وجوب القسامة

  /  شروط وجوب القسامة

شروط وجوب القسامة

هناك شروط لا بد أن تتوافر حتى نعمل بالقسامة:

الشرط الأول: أن تكون ثمة شبهة، والشبهة التي يقصدها الفقهاء: أن يكون هناك ثمة لوث، والشبهة تحتمل صورًا شتى من بواعث الريبة، والظن بما يبعث على التهمة بالقتل، ولا جرم أن تكون العداوة الظاهرة، واللوث أساسيين مهمين يبعثان على الظن والشبهة، ويحملان على تصديق المدعي بحدوث القتل، إذن، لا يعد لوثًا أساسيا ما إذا كانت العداوة غير ظاهرة، أو غير واضحة، إنما يعد لوثًا ما إذا كان هناك عداوة ظاهرة بين أولياء القتيل، وبين من وُجد القتيل في محلتهم.

فإذا وجد قتيل في محلة، ثم ادعى أولياؤه قتله على رجل أو جماعة، ولم تكن بين القتيل والمدعى عليهم عداوة ظاهرة، أو لوث لم يكن للأولياء حق في القسامة، بل لهم الحق بالعمل، ومجرد الدعوى كسائر الدعاوى القائمة على القاعدة الشرعية: “البينة على المدعي واليمين على من أنكر”، فإن كانت لهم بينة على دعواهم، أو أقر المتهم بما عليه حكم لهم بمقتضى تلك البينة، أو بمقتضى هذا الإقرار، أما إذا لم يكن لهم بينة، ولا أقر المتهم بشيء، فالقول قول المتهم مع اليمين.

أما إذا كانت ثمة عداوة ظاهرة، أو لوث جاز للأولياء أن يطالبوا المدعى عليهم بالقسامة للكشف عن الجاني، وصونًا للدم أن يضيع هدرًا، وعلى هذا، فإنه يشترط لوجوب القسامة حصول الشبهة التي تنشئ في النفس الظن، والجنوح للاتهام، وتلك مدعاة لولي القتيل أن يطالب المتهم بالدم، أو الدية.

هذا، مع ملاحظة أن الشبهة قد تتضمن جملة من الوجوه، منها: العداوة الظاهرة بين القتيل، والمدعى عليهم، أو قرينة من قرائن الأحوال تزجي بحصول القتل، أي: قرينة تبين حصول القتل، وأن القاتل هو فلان، وتتمثل تلك القرينة فيما لو كان القتيل يتشخَّطُ بدمه، وبجانبه إنسان يحمل سكينًا ملطخًا بالدم، أو غير ذلك من الوجوه المثيرة للظن، لا شك أن هذه قرينة قوية تؤدي إلى اتهام من كان يحمل سكينًا، بأنه هو القاتل لهذا الشخص.

على أن الشبهة في معانيها تتفاوت بين الفقهاء تفاوتًا غير بعيد من خلال ما يظهر من كواشفَ، وقرائن تحوم حول جريمة القتل، فعلى سبيل المثال، مثلا: اشترط فقهاء الحنفية لوجوب القسامة، أن يظهر بالقتيل أثر القتل من جراحة، أو أثر ضرب، أو خنق، أو نحو ذلك من وجوه الجنايات، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا قسامة، ولا دية، كأنهم يرون أن وجود الجراحة، أو وجود أثر الخنق قرينة، أو لوث يثبت القسامة، ومن ثم، إذا لم يكن هناك أثر القتل من جراحة، أو ضرب، أو خنق فلا قسامة، وعلى ذلك، فلو مر إنسان في محلة أو موضع فأصابه فيه سيف، أو آلة من آلات القتل فجرح من غير أن يعلم من أي جهة أصابه هذا السهم، فحمل إلى أهله فمات، فإن كان لم يزل صاحب فراش، أي: اتصل الموت بالواقعة، فعلى عاقلة القبيلة القسامة، والدية، أما إذا لم يكن صاحب فراش، بمعنى: أنه توسط بين الواقعة، وبين الموت فاصل شفي فيه القتيل، أو المصاب فلا قسامة، ولا دية في تلك الحالة.

ووجه هذا القول: أن المصاب إذا لم يبرأ من الجراحة، وكان لم يزل صاحب فراش حتى مات، تبين أن الموت بسبب الجراحة، وتبين كذلك أن الجراحة تمخضت عن قتل سببه الجراحة في المحلة، أو الموضع الذي أصيب فيه، لكنه إذا لم يكن صاحب فراش تبين أن الموت لم يحصل بسبب الجراحة، فكان القتيل في تلك الحالة كما لو مات حتف أنفه.

أما الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، فهم أيضًا تحدثوا في الشبهة، وقالوا: يشترط لتحقيق الشبهة الموجبة للقسامة، حصول اللوث، وهو -أي: اللوث- بمثابة شبهة قائمة يباح على أساسها لأولياء القتيل أن يطلبوا القسامة، أما اللوث: فهو شبهة الدلالة على حدث من الأحداث من غير أن يكون هناك بينة تامة، فيقال مثلًا: لم يقم على اتهام فلان بالجناية إلا لوث، وعلى ذلك، فاللوث يراد به القرينة الحالية، أو المقالية التي تزجي بالظن من الدلالة على وقوع القتل، ولو لم يكن هناك ثمة بينة، إذًا، القرينة التي تدعى في موضوع القسامة باللوث تزكي، وتقوي الظن في اتهام هؤلاء بالقتل، وكأنها أيضًا -أي: هذه القرينة- تقوم مقام البينة، إذًا، إذا كان للوث، وللقرينة أهمية كبيرة في حالة القسامة، فنقول: اللوث بهذا المفهوم يحتمل عدة معان، من خلال تلك المعاني يمكننا أن نحدد ما يصلح أن يكون لوثًا، وما لا يصلح أن يكون لوثا، فالعداوة الظاهرة مثلا بين المقتول والمدعى عليه، كالذي حصل بين الأنصار، ويهود خيبر، وما بين القبائل والأحياء، وأهل القرى الذين بينهم الدماء والحروب، وكذلك ما بين الشرطة واللصوص، وغيرهم من الفرقاء الذين يخالط قلوبهم الضغن والكراهية،

ويستوي في ذلك أن تكون العداوة بين الفرقاء دينية، أو دنيوية، فليس بلازم أن تكون العداوة بين الفرقاء دينية فقط، أو دنيوية فقط، بل يجوز أن تكون دينية، ودنيوية، أو دينية فقط، أو دنيوية فقط، إذًا، فهي بذلك من الأمور الباعثة على المنافرة، واشتداد الغضب، والعداوة بما يبعث على الظن بحصول القتل من المدعى عليه، إذًا، العداوة غير الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه لا تزكي الاتهام، فلو وجد قتيل بين قريتين، أو قبيلتين، ولم يعرف بينه وبين إحداهما عداوة، فإن قربه من إحداهما لا يعتبر لوثًا، ومن هذا يتضح، أن هناك ما يعد لوثًا، وهناك ما لا يعد كذلك.

أيضًا من معاني اللوث: أن تتفرق الجماعة عن قتيل، ويعد ذلك لوثًا في حق كل واحد منهم، إذ هو أمر مثير للشبهة بموجبه يستحق أولياء الدم القسامة على الجماعة؛ لوجود اللوث بمظنة القتل.

ومن معاني اللوث أيضًا: أن يوجد قتيل، وبقربه إنسان يحمل سيفًا، أو سكينًا، أو آلة من شأنها أن تقتل غالبًا، وهي ملطخة بالدم بما يغلب على الظن أنه قتله، فلا مناص أن يكون مثل هذه القرينة الحالية لوثًا يثير الشبهة، ويبرر للأولياء المطالبة بالقسامة، ما لم يكن هناك قرينة أخرى تعارض ذلك، كما لو وجد بقرب القتيل أسد مثلًا، فإن هذا يضعف من اللوث في تلك الحالة.

ومن معاني اللوث أيضًا: لو اقتتل فريقان من الناس، ثم افترقوا عن قتيل من أحدهما، فإن ذلك لا شك أنه لوث في حق الفريق الآخر؛ لحصول الشبهة، ومظنة القتل.

ومما يعتبر لوثًا: ما لو شهدت نساء على القتل، فإن ذلك لوث؛ لأنه يغلب على الظن صدق المدعي في دعواه حينئذ، على الخلاف في تلك الحالة، حيث هناك من لا يرى أن ذلك لوثا؛ وذلك لأن شهادة النساء في الدماء مردودة، هذا، وهناك من الفقهاء كالإمام مالك، والشافعي، وأحمد، من لا يشترط لحصول اللوث أن يكون بالقتيل أثر كجراحة، أو ضرب، أو نحو ذلك، واستدلوا لذلك، بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل الأنصار إن كان بقتيلهم أثر من جراحة، أو غيرها، ومن جهة أخرى، فإن القتل ربما يحصل بما لا أثر له في البدن، كما لو كان خنقًا، أو ضربة فادحة في القلب فأسكتته، هذا، فيما يتعلق بجانب من جوانب معاني القسامة، من خلالها اتضح لنا أن هناك ما يعد لوثًا، وهناك ما لا يعد.

الشرط الثاني من شروط العمل بالقسامة: ألا يعلم القاتل، ومن ثم، فإن علم القاتل فلا قسامة عندئذ بلا خلاف؛ لأن بظهوره -أي: بظهور القاتل- يجب القصاص عليه إن كان القتل عمدًا وعدوانًا، أو تجب الدية إن كان القتل غير عمد، كما لو كان خطأ، أو شبه عمد، إذًا، في حال معرفة القاتل لا مجال للعمل بالقسامة، بل العمل يقوم بناء على القاعدة الشرعية: ((البنية على المدعي، واليمين على من أنكر))، كأصل من أصول التعامل.

الشرط الثالث: أن يتفق أولياء القتيل على إجراء دعوى القسامة من غير اختلاف بينهم، ويتمثل هذا الاختلاف فيما لو كذب بعض الأولياء بعضًا، فقال أحدهم: قتله فلان، وقال الآخر: بل قتله فلان، أو قال: لم يقتله هذا، وقتله غيره، فلا تثبت القسامة في مثل هذا التناقض، وهذا التكذيب، ومن ثم، فلا يصح العمل بها، وليس هناك قرينة طالما أن هناك اختلاف بين أولياء القتيل على إجراء دعوى القسامة.

الشرط الرابع: إنكار المدعى عليه القتل، وذلك ظاهر لا خلاف فيه، فإنه إذا أقر بالقتل وجب في حقه موجب القتل؛ لأن الإقرار -كما نعلم- هو سيد الأدلة، فمن ثم، إذا أقر القاتل بالقتل وجب في حقه موجب القتل من حيث القصاص، أو الدية بناءً على تكييف نوع القتل، ومن ثم أيضًا، لا مجال للعمل بالقسامة عندئذ.

الشرط الخامس: أن يكون الموضع الذي وجد فيه القتيل مملوكًا لأحد، أو في يد أحد، أو جماعة محدودة من الناس، ومن ثم، إذا لم يكن كذلك فلا قسامة، يعني: إذا لم يكن الموضع مملوكًا لأحد، أو ليس في يد أحد، أو ليس مملوكًا لجماعة محدودة من الناس، فإن العمل بالقسامة لا يكون ولا يتم؛ لعدم التقصير، وانتفاء المسئولية عن أحد، وهنا تجب الدية في بيت المال، وإن كان الموضع في موضع عموم لا خصوص أيضًا فلا قسامة، بمعنى: أنه إذا كان الموضع في يد عموم لا خصوص يمكن ضبطهم والوقوف عليهم، بمعنى: أن يكون حق التصرف في المكان لعامة الناس، وليس لجماعة محصورة، ولا لواحد بعينه، فإنه لا قسامة، وتجب الدية من بيت مال المسلمين.

ووجه ذلك: أن القسامة تجب بسبب التقصير من أهل المحلة، ولترك الحفظ اللازم منهم، فهم منوط بهم أصلًا، خاصة إن كان يمكن حصرهم، ومنوط بهم أن يراعوا من كان بينهم، فيدفعوا عنه العوادي، ويدرءوا عنه كل احتمالات الشر الطارئ، أما وقد حاق به شيء من ذلك، فلا جرم أن يكونوا مقصرين، وهم نتيجة لذلك مؤاخذون، ويجب عليهم ما يجب من التزام مالي، أو غير ذلك، ولكي يتضح الكلام، نضرب أمثلة على القتيل الذي يوجد في موضع مملوك لأحد، أو لجماعة محدودة من الناس؛ لنجعل القسامة بعد ذلك على المالك، أو واضع اليد.

وتأسيسًا على ذلك، إذا وجد إنسان قتيلًا في دار آخر جعلت القسامة، ومقتضاها على صاحب الدار؛ لأن الظاهر أن غير صاحب الدار لا يتمكن من القتل في الغالب؛ حيث وجد في دار فلان، ولا يمكن أن يتهم في تلك الحالة إلا مالك هذه الدار، ولا توجد ريبة، أو شبهة أن يكون غير صاحب الدار هو القاتل، وكذلك، فإنه لا شك في أن الإنسان لا يقتل نفسه غالبًا، ووجه ذلك: أن صاحب الدار يعتبر مقصرًا في حفظ القتيل قبل أن يقتل. كذلك، إذا وجد بدل القتيل، أو أكثر من نصف البدل، ومعه الرأس في محله، أو في دار كان على أهلها القسامة، ومقتضاها؛ لأن القتيل وجد في محلتهم، ويعتبر لأكثر البدن حكم الكل، وإن وجد القتيل على دابة يسوقها آخر، أو كان راكبًا عليها، ففي تلك الحالة أيضًا تجب القسامة في حقه، وما يترتب على ذلك، ولو وجد القتيل في سفينة، كانت القسامة على من في السفينة، ويستوي في ذلك الركبان، أو المالكون؛ لأن لهم يدا في التقصير حتى حصل القتل، أما إذا لم يكن الموضع مملوكًا لأحد، ولا لجماعة فلا قسامة في تلك الحالة.

الشرط السادس: أن يكون كل من المدعي والمدعى عليه في القسامة مكلفًا، أي: بالغًا، عاقلا، وعلى هذا، فإنه لا تسمع الدعوى من صبي، ولا مجنون. وكذلك، لا تصح الدعوى على صبي أو مجنون.

الشرط السابع: أن يكون المدعى عليه معينًا، سواء كان واحدًا، أو جماعة معينة، وبذلك، فإن الدعوى في القسامة على غير معين لا تسمع، فلو كانت الدعوى مثلا على أهل مدينة، أو محلة، أو واحد غير معين، أو جماعة منهم بغير أعيانهم لم تسمع، وهذا ما ذهب إليه الإمام الشافعي، ومالك، وأحمد.

error: النص محمي !!