Top
Image Alt

شروط وجوب القصاص فيما دون النفس

  /  شروط وجوب القصاص فيما دون النفس

شروط وجوب القصاص فيما دون النفس

لا شك أن وجوب القصاص فيما دون النفس يفترض لوجوبه شروط؛ منها ما يتعلق بالجارح، ومنها ما يتعلق بالمجروح، ومنها ما يتعلق بالجرح.

أما فيما يتعلق بالجارح من شروط؛ فيشترط التكليف، وهو أن يكون الجاني مكلفًا؛ فإن كان غير مكلف فلا قصاص، أي: بالغًا عاقلًا، مطاعًا، فإذا انتفى التكليف فلا قصاص.

كذلك يشترط في الجاني، أو الجارح أن يكون غير أصل للمجني عليه، كما لو كان الجاني أبًا، أو جدًا؛ حيث ذكرنا في الجناية على النفس: لا يُقاد الولد بوالده، ولا الوالد بولده، وهنا أيضًا إذا انتفى هذا الشرط؛ وهو أن يكون الجاني غير أصل للمجني عليه، فلا قصاص، فلو جنى الابن على الأب، أو جنى الأب على الابن، فقد انعدم الشرط هنا، ومن ثم فلا قصاص.

يشترط أيضًا في المجروح العصمة، بمعنى: أن يكون المجني عليه معصومًا، أي: معصوم الدم، ومن ثم فلا يقتل المسلم بالحربي، أو المستأمن لعدم العصمة على التأبيد.

أيضًا من الشروط التي تشترط في الجرح، أن تكون الجناية قد تمت عمدًا وعدوانًا، إذًا لا قصاص فيما وقع خطأً؛ لأن الخطأ لا يوجب القصاص في النفس، وهي الأصل؛ فعدم وجوبه فيما دون النفس أولى، وهو كذلك -أي: القصاص- لا يجب في شبه العمد، وهو ما يقصد فيه الضرب بآلة ليس من شأنها أن تجرح.

أيضًا فيما يتعلق بالشرط المتعلق بالفعل الذى هو الجرح، لا بد أن يكون هناك إمكانية لاستيفاء القصاص من غير حيف، أي: من غير ظلم، وذلك بالمماثلة التامة من غير نقص أو زيادة، ومن ثم إذا لم تتحقق المماثلة فلا قصاص، وفي وجوب القصاص عند تحقق المماثلة والضبط، يقول الله تعالى: { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، ويقول سبحانه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].

وبناءً على ذلك فإنه لا قصاص فيما دون النفس إلا في الأطراف، وأما في الجروح فلا قصاص إلا في الموضحة كما بينا؛ أو ما كان في معنى الموضحة كالذي يكون في الساعد، أو العضد، أو الفخذ، أو غير ذلك مما يمكن فيه المماثلة من غير زيادة أو حيف، أما ما كان من الجروح والشجاج، فلا قصاص فيه؛ لعدم إمكانية الضبط والمماثلة باستثناء الموضحة، وعليه فإنه في الجروح لا قصاص في الجائفة مثلًا؛ لأنها لا تفضي إلى عظم، فيصعب معها تحديد مقدار الجناية، وكذلك من الشجاج لا يجب القصاص إلا في الموضحة؛ لإمكانية الاستيفاء بمماثلة وتحكم وضبط، أما ما دونها كالسمحاق، والمتلاحمة، والباضعة، والدامية، والخالصة، فلا قصاص فيها.

ويضاف إلى اشتراط المماثلة لوجوب القصاص فيما دون النفس أيضًا عدم السرايا إلى النفس غالبًا، أي: لا يتعدى أثر الجرح إلى النفس غالبًا ككسر العنق، والترقوة، والفخذ؛ فإن القصاص في مثل هذه الجروح لا نأمن معه السرايا إلى النفس في الغالب.

هذا فيما يتعلق بالجروح، والشجاج التي يمكن أن يقتص فيها أو لا يقتص، وإذا انتهينا إلى أن الموضحة مما يمكن أن يجري فيها القصاص، فماذا عن كيفية القصاص في الموضحة؟

يقول الفقهاء: عند القصاص في الموضحة يعتبر القدر بالمساحة طولًا وعرضًا وليس بالجزئية، وأن يراعى طول الجراحة وعرض الجراحة؛ لأن رأس الجاني، ورأس المجني عليه مثلًا قد يختلفان صغرًا وكِبَرًا، فيكون جزء أحدهما مساويًا لجميع الآخر، فهنا يقع الحيف، بخلاف الأطراف؛ فإن القصاص فيها مما يكون بالمماثلة بالجملة، فلو اعتبرناها بالمساحة لأدى ذلك مثلًا إلى أخذ الأنف ببعض الأنف، مع أن الله سبحانه يقول: { وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} [المائدة: 45].

إذًا لا ننظر إلى المساحة طولًا وعرضًا في غير الموضحة؛ لأن الأمر مختلف، ويصعب علينا تحقيق المساحة، فلو كانت الموضحة في الرأس مثلًا حُلق موضعها من رأس الجاني، وعلِّم القدر المستحق لتنفيذ القصاص باللون الأسود أو غير ذلك، ويضبط الشاج حين الشج كي لا يضطرب، وعليه أن يوضح بحديدة حادة كالموس مثلًا، ولا يجوز التوضيح بسيف، أو حجر، أو نحو ذلك مما لا تؤمن معه الزيادة.

القصاص في الأطراف:

الأطراف مفردها طرف، وهو في اللغة بمعنى: الناحية، ويطلق على ألسنة الفقهاء: على ما له حد ينتهي إليه من أعضاء الجسد، وذلك كاليد، والرجل، والسن، والأذن، وهذه الأشياء لها حدود يُنتهى إليها، وعليه فإنه يجب القصاص في الأطراف، في كل ما ينتهي منها إلى مفصل، ذلك أن الطرْف الجاني يمكن إيقاع القصاص عليه بقطعه من غير حيف.

ووجه ذلك: أن الطرْف ينتهي إلى مفصل، فهو بذلك معلوم وبيِّن ومحدَّد مما يمكن للحاكم من إبانة هذا الطرْف للجاني في مماثلة تامة من غير نقص أو زيادة، كما لو كان الطرْف المقطوع يدًا مثلًا، أبانها الجاني من الكوع، أو المرفق، أو الكتف، أو كان الطرْف رِجلًا أبانها من مفصل القدم، أو الركبة، أو كما لو كان الطرْف المجني عليه عينًا، أو سنًّا، أو أذنًا؛ فإن مثل هذه الأطراف يجب القصاص فيها؛ لإمكانية الاستيفاء في مماثلة تامة من غير حيف، وفي هذا المعنى يقول الله تعالى: { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45].

لكن لقائل أن يعترض؛ لأن ذلك وارد في معرض الحديث عما في التوراة، أو يقول: هذا شرع من قبلنا، فنقول: شرع من قبلنا إذا ذكره القرآن، ولم يرد فيه ما يخالفه أو ينسخه، كان العمل بمقتضاه واجبًا، كذلك حديث الربيع التي قضى النبي صلى الله عليه وسلم أن تكسر قصاصًا منها لجارية كسرت سنها عمدًا، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كتاب الله القصاص))، وغير ذلك من النصوص الدالة على وجوب القصاص في الأطراف؛ لانتهائها إلى المفاصل يمكن معها الاستيفاء في مماثلة.

وتأسيسًا على ذلك يمكننا أن نقول: لا يجوز القصاص إلا في الأطراف ذات المفاصل، باستثناء الموضحة كما سبق أن بينا من الجروح، ولا قصاص بناءً على ذلك في العظم، لكن في السن يتحقق القصاص، وإن كان من العظم؛ لما جاء في الحديث: ((لا قصاص في العظم إلا في السن))؛ لأن القصاص في غير السن متعذر؛ لاحتمال الزيادة والنقصان بخلاف السن فإنه ممكن.

لكن لو كانت الإبانة فوق المفصل؛ فماذا يكون الحكم؟ يعني: الجراحة الأولى تجاوزت المفصل، فكيف يستوفى القصاص؟

قال الفقهاء: لو كانت الإبانة فوق المفصل أو دونه، استوفى المجني عليه من طرف الجاني حتى المفصل، وما بقي له من حق كانت له فيه حكومة عدل، وحكومة العدل يقصد بها: المحكوم به، المسمى بالاجتهاد فيما لم يرد فيه نص من الشارع مما لا قصاص فيه؛ وذلك في الجروح التي لا قصاص فيها؛ لعدم إمكانية المماثلة، واحتمال الحيف في الغالب، ومثل هذه الجروح يناط الحكم فيها لأهل الخبرة؛ ليقدروا ما تساويه من مال.

هذا فيما يتعلق بالمقصود بحكومة العدل، وذلك ما لو أبان الجاني يدًا من الساعد أو فوق الكوع كان للمجني عليه -كما ذكرنا- أن يقتص من الجاني بإبانة يده من الكوع، وما زاد على الكوع ففيه عقوبة؛ لعدم إمكانية الاستيفاء من الساعد خشية الحيف؛ وهذا قول للشافعية.

لكن للحنابلة قول آخر، فهم يقولون في مثل تلك الحالات التي يصعب فيها المماثلة: لا قصاص، بل له نصف الدية، وحكومة في المقطوع من الذراع؛ لأن الموضع الذي قطعه الجاني ليس بمفصل.

هذه هي شروط القصاص في الأطراف، والكيفية، وبالإمكان أن نضم إلى ذلك شرطين أساسيين لوجوب القصاص في الأطرف:

الشرط الأول: التساوي؛ هو أن يكون الطرْف في المجني عليه مساويًا لنظيره في الجاني، وعليه فلا يؤخذ طرف صحيح بطرف أشلّ، ولا يد كاملة الأصابع بناقصة الأصابع، ولا أصبع أصلي بزائد، ومع ذلك، فإنه لا يشترط التساوي في الدقة، والغلظ، والصغر، والكبر، والصحة، والمرض؛ لأن اشتراط التساوي في مثل هذه الحالة سيفضي بالتالي إلى سقوط القصاص، يعني: لا يشترط، أو لا يراعى التساوي فيما إذا كانت هناك يد دقيقة وأخرى غليظة، أو إصبع ضعيف والآخر غليظ، وما إلى ذلك؛ لأننا لو دققنا في ذلك أفضى إلى سقوط القصاص، وبناءً على ذلك تؤخذ العين القوية الإبصار بالعين الضعيفة الإبصار.

الشرط الثاني: الاشتراك في الاسم الخاص بالعضو أو الطرف، وتأسيسًا على هذا الشرط، لا تؤخذ يمين بيسار، ولا يسار بيمين، وكذلك لا تؤخذ أصبع بأخرى مخالفة لها كالخنصر بالسبابة مثلًا، أو البنصر بالوسطى، ولا تؤخذ شفة سفلى بأخرى عليا، ووجه ذلك: أن كل واحد مما ذكرنا يختص بالاسم المنفرد، وقد ذكرنا: الاشتراك في الاسم الخاص بالعضو شرط لتحقق القصاص في الأطراف، ومع اتفاق العلماء على مثل هذه المسائل، إلا أن ثمةَ تفاوت في كلمتهم حول إمكانية القصاص، وكيفيته في بعض الأعضاء.

ولنأخذ مثالًا لاستيفاء القصاص في الأطراف، فنقول:

الأنف، إذا ما كان هناك جناية على الأنف فهنا القصاص، والقصاص يكمن في أن تؤخذ الأنف بالأنف؛ لقول الله تعالى: { وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ}، دون تفريق بين الأنفين من حيث الصغر والكبر، أو من حيث الحس، أو من حيث الحسن والقبح، أو من حيث المنفعة، وانتفاءها.

الأُذن، فيما لو كانت الجناية على الأذن تقطع الأذن قصاصًا في العمد بغير خلاف؛ لقول الله تعالى: { وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ}؛ ولأنها تنتهي إلى حد فاصل، ويقام القصاص فيها بغض النظر عن اختلاف الأوصاف بين الأذن الكبيرة والصغيرة، وبين الأذن ذو حاسة السمع القوية وبين الأخرى؛ لتساويهما في السلامة، كذلك تؤخذ الأذن الصحيحة بالمثقوبة؛ لأن الثقب ليس عيبًا؛ بل يكون للزينة في الغالب.

أيضًا السن، فيما إذا كانت الجناية على السن، والسِّن بكسر السين، بمعنى: الضرس، وهو مفرد، وجمعه: أسنان، وقد أجمع العلماء على وجوب القصاص في السن، وهو ظاهر الآية الكريمة { وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}، وكذلك حديث الربيع بنت النضر بن أنس، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((كتاب الله القصاص))، وعلى هذا، فإنه تؤخذ السن الصحيحة بالصحيحة، والمكسورة بالصحيحة؛ لأن المجني عليه يأخذ بعض حقه، ويأخذ عن باقي حقه أرشًا، وقيل: لا يأخذه، لكن لا تؤخذ السن الصحيحة بالمكسورة؛ كي لا يأخذ المجني عليه بذلك أكثر من حقه.

وقت القصاص:

قالوا: وقت القصاص على الفور لا الإبطاء أو التراخي؛ لأن الظاهر عدم عود السن المقلوعة.

error: النص محمي !!