Top
Image Alt

شعر الحنين والغربة

  /  شعر الحنين والغربة

شعر الحنين والغربة

عبد الرحمن الداخل والحنين إلى بلاده:

يمثل عبدُ الرحمن الداخل موضوعَ الحنين والغربة في الشعر الأندلسي، فقد ترك بلاده في المشرق، وذهب ليقيم ملكًا لبني أمية في بلاد الأندلس، وذات مرة رأى عبد الرحمن نخلة في بلاد الأندلس؛ فذكرته بنخل المشرق، فقال:

تبدت لنا وسط الرُّصافة نخلة

*تناءت بأرض الغربِ عن وطنِ النخلِ

فقلت شبيهي في التغرُّبِ والنَّوَى

*وطول التنائي عن بني وعن أهلي

نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غريبةٌ

*فمِثلُك في الإقصاء والمنتأى مِثلِي

سقتك غوادي المزنِ في المنتأى الذي

*يسِحُّ ويستمري السماكَيْن بالوبْل

ويدعو لهذه النخلة بالسقيا، ويرى أنها غريبة في هذه الأرض مثله، وهو يستشعر الحنين إلى بلاده التي نشأ فيها وربي. وفي أبيات له يقول عبد الرحمن الداخل أيضًا:

أيها الراكب الميمِّمُ أرضي

*أقر من بعضي السلام لبعضي

إن جسمي كما تراه بأرضٍ

*وفؤادي ومالكيه بأرضِ

قُدِّرَ البينُ بيننا فافترقنا

*وطوى البينُ عن جفونيَ غَمضِي

قد قضى الله بالبعادِ علينا

*فعسى باقترابنا سوف يقضي

هذه الأبيات يتوجه الشاعر فيها إلى المسافر الذي يذهب إلى المشرق، ويطلب منه عبد الرحمن أن يوصِّل سلامَه إلى أحبته في تلك البلاد؛ لكنه يستخدم تعبيرًا عجيبًا، فيقول:

…. …. …. ….

*أقرِ من بعضي السلام لبعضي

فالذين تركهم هناك هم بعضه، ووطنه الذي نشأ فيه ونشأت فيه دولة أجداده وآبائه هذا الوطن أيضًا هو بعض منه.

إن جسمي كما تراه بأرضٍ

*وفؤادي ومالكيه بأرضِ

في هذا البيت تعبير عن هذا الإحساس الشديد بالاغتراب والحنين إلى الوطن؛ فجسمه في أرض الأندلس؛ لكن فؤاده والذين يملكون هذا الفؤاد في أرض أخرى هي بلاد المشرق؛ فعبد الرحمن الداخل في هذه الأبيات التي يرى فيها غربته تشبه غربة النخلة، وهذه الأبيات الأخرى التي يبعث السلام فيها إلى أهله وإلى وطنه الذي رحل عنه، وتركه هي في الحقيقة أبيات تحمل معاني الحنين إلى الوطن، وإلى الأهل، وتعبر عن هذا الاغتراب الذي كان يحس به، هذا البطل الفارس الذي أقام للأمويين ملكًا جديدًا في بلاد الأندلس، بدل الملك الذي فقدوه في بلاد المشرق العربي.

ابن زيدون والحنين إلى محبوبته:

إذا كان عبد الرحمن الداخل يمثل الحنين إلى الوطن وإلى الماضي؛ فإن الشاعر العاشق الوزير ابن زيدون، جرّب أيضًا الإحساس بالغربة والحنين؛ ولكنه كان يحن إلى محبوبته ولادة بنت المستكفي، وله قصيدة ذكرها فيها بعد أن فرَّ من السجن وذهب متخفيًا إلى مدينة الزهراء، وذكر فيها محبوبته وذكرياته السعيدة والجميلة معها، واستبدَّ به الحنين إلى محبوبته، وإلى أيامه الجميلة معها، واستشعر الغربة في البعد عنها وعن عهدها؛ فقال هذه القصيدة التي يقول فيها -وهو يخاطب ولادة محبوبته:

إِنّي ذَكَرتُكِ بِالزَّهراء مُشتاقًا

*وَالأُفقُ طَلقٌ وَمَرأى الأَرضِ قَد راقا

وَلِلنَسيمِ اِعتِلالٌ في أَصائِلِهِ

*كَأَنَّهُ رَقَّ لي فَاعتَلَّ إِشفاقا

وَالرَوضُ عَن مائِها الفِضِيِّ مُبتَسِمٌ

*كَما شَقَقتَ عَنِ اللَبّاتِ أَطواقا

يَومٌ كَأَيّامِ لَذّاتٍ لَنا انصَرَمَت بِتنا

*لَها حينَ نامَ الدَهرُ سُرّاقا

نَلهو بِما يَستَميلُ العَينَ مِن زَهَرٍ

*جالَ النَدى فيهِ حَتّى مالَ أَعناقا

كَأَنَّ أَعيُنَهُ إِذ عايَنَت أَرَقي بَكَت

*لِما بي فَجالَ الدَمعُ رَقراقا

وَردٌ تَأَلَّقَ في ضاحي مَنابِتِهِ فَازدادَ

*مِنهُ الضُحى في العَينِ إِشراقا

ثم يقول:

كُلٌّ يَهيجُ لَنا ذِكرى تَشَوُّقِنا إِلَيكِ

*لَم يَعدُ عَنها الصَدرُ أَن ضاقا

لا سَكَّنَ اللَهُ قَلبًا عَنَّ ذِكرُكُمُ

*فَلَم يَطِر بِجَناحِ الشَوقِ خَفّاقا

لَو شاءَ حَملي نَسيمُ الصُبحِ حينَ

*سَرى وافاكُمُ بِفَتىً أَضناهُ ما لاقى

لَو كانَ وَفّى المُنى في جَمعِنا بِكُم

*لَكانَ مِن أَكرَمِ الأَيّامِ أَخلاقا

ثم يقول في نهاية القصيدة:

فَالآنَ أَحمَد ما كُنّا لِعَهدِكُمُ

*سَلَوتُمُ وَبَقينا نَحنُ عُشّاقا

فهذه الأبيات تصور حنين ابن زيدون إلى محبوبته وتشوقه إليها، وإحساسه بالاغتراب، وهي بعيدة عنه، وفي الأبيات مزج بين معاني النسيب، ووصف الطبيعة -كما رأيت.

هذا -إذًا- نمطٌ من نمط الحنين، والإحساس بالاغتراب؛ لكنه مختلف بطبيعة الحال عن النمط الذي ذكرته من قبل، وهو الحنين إلى الوطن، والشعور بالاغتراب إذا كان المرء بعيدًا عنه.

error: النص محمي !!