Top
Image Alt

شعر الصعاليك

  /  شعر الصعاليك

شعر الصعاليك

والصعاليك جمع: صعلوك، والصعلوك في لغة العرب هو: الفقير.

فهُم إذن جماعة من الشبان الفقراء الذين أحسوا بإهمال مجتمعهم لهم واحتقاره إياهم بسبب فقرهم، فتمردوا على قبائلهم وخاصموا هذا المجتمع، وأنشئوا لأنفسهم مجتمعًا خاصًّا بهم  بعيدًا عن قبائلهم، وبعيدًا عن النظام الاجتماعي السائد في شبه جزيرة العرب، كان مجتمعهم يختلف في أعرافه عن أعراف القبيلة؛ بل كان نظامهم هذا ضد نظام القبيلة وضد أعرافها، ولأنهم كانوا ناقمين على هذا المجتمع راحوا يدرّبون أنفسهم على سرعة العدو وخفة الحركة، ويدربون أنفسهم على إجادة أنواع القتال؛ لأنهم استعدوا لمحاربة هذا المجتمع، واستحلّوا لأنفسهم ما في أيدي غيرهم، ورأوا أن الأغنياء ليسوا أحقّ منهم بالثروة والغنى.

وهكذا مثل الصعاليك مجتمعًا خارجًا على نظام الحياة العربية وعلى نظام القبيلة العربية، وخلعتهم قبائلهم وتبرّأت منهم، وأصبح لهؤلاء الصعاليك مجتمعٌ خاص يؤاخي فيه بعضهم بعضًا، وسادت بينهم روح الأخوة والمساواة والإيثار، وأخذوا يحاولون تطبيق ما يمكن تسميته بالعدل الاجتماعي، فكانوا إذا غنموا غنيمة أو سلبوا شيئًا وزَّعوه بين أنفسهم بالسوية، فهم يغيرون وينهبون من الأغنياء ويسلبون ويقطعون طرقَ القوافل، ولا يرون في ذلك حرجًا ولا عيبًا، وإنما يرون أن هذا المجتمع يستحق منهم أكثر من ذلك. ثم إنهم يوزّعون ما يحصلون عليه فيما بينهم، وأحيانًا يبحثون عن فقراء آخرين مهملين، فيعطونهم مما غنموه وسلبوه.

وراح هؤلاء الصعاليك يستبدلون بأقوامهم من البشر أقوامًا يأنسون إليهم ويثقون فيهم؛ من حيوان الوحش، فهم يجاورون الضبع، ويجاورون الذئاب، ويستأنسون بهم، ويرون أن الضبع والذئاب وسائر أنواع الوحش أكثر رحمةً وإنصافًا من مجتمع الإنسان.

واشتُهر من هؤلاء الصعاليك: تأبط شرًّا، والشنفرى، وعروة بن الورد. وشعرهم يصور مغامراتهم في الكرّ والفرّ والإغارة والسلب والنهب، ويصور شجاعتهم النادرة، وسرعتهم وخفتهم الخيالية، ويصور أيضًا سماتهم النفسية وصفاتهم الأخلاقية على نحو ما نجده في أشعارهم.

ورد في أخبار عروة: أنه كان إذا أصابت الناس سنة شديدة يجمع المرضى والضعفاء والمسنين من عشيرته ثم يحفر لهم الأسراب، ويكنف عليهم الكنف ويكسبهم، ومن قوي منهم إما مريض يبرأ من مرضه أو ضعيف تثوب قوته، خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبًا، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا وذهبت السنة ألحق كل إنسان بأهله، وقسَم له نصيبه من غنيمته إن كانوا غنموا، فربما أتى الإنسان منهم أهلَه وقد استغنى.

فهذا نموذج من تفكير هؤلاء الصعاليك، كأنهم يريدون أن يُغنوا الفقراء، وأن ينتصروا على الفقر؛ ولذلك عُرفوا بهذه النزعة الإنسانية التي تجعلنا نتعاطف معهم في كثير من الأحيان، وإن كنا لا نَرضى عن أفعالهم في أحيان أخرى.

وكانوا يصبرون على الجوع وعلى مشقات الحياة، ويرون الموت خيرًا من حياة ذليلة، فهذا مثلًا أبو خراش الهذلي يقول:

وإني لأثوي الجوع حتى يملني

*فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي


وأغترق الماء القراح فأنتهي

*إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم

أردُّ شجاع البطن قد تعلمينه

*وأوثر غيرك من عيالك بالطعم

مخافة أن أحيا برغم وذلة

*ولا الموت خيرٌ من حياة على رغم

 وهذا عروة بن الورد، يقدم لنا نموذجًا للصعلوك الذي يرتضيه ويثني عليه عروة فيقول:

ولله صعلوك صحيفة وجهه

*كضوء شهاب القابس المتنور


مطلا على أعدائه يزجرونه

*بساحتهم زجر المنيح المشهر

وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه

*تشوف أهل الغائب المتنظر

فذلك إن يلقى المنية يلقها

*حميدًا وإن يستغن يومًا فأجدر

هكذا تتجلى قوة أنفس هؤلاء الصعاليك في استهانتهم بالحياة في سبيل الوصول للغاية التي يسعون إليها، وفي سبيل تحقيق الغنى والثراء الذي يحفظ لهم كرامتهم ويعينهم على أداء ما يجب عليهم تجاه أقاربهم وتجاه الفقراء الآخرين ممن يحيط بهم، وهم مؤمنون بفكرة الفناء في سبيل المبدأ، فلا قيمة للحياة في رأيهم إذا عاش الإنسان فقيرًا محتقرًا منبوذًا من مجتمعه؛ إن الموت في هذه الحالة خير من الحياة.

دعيني أطوِّف في البلاد لعلني

*أفيد غنى فيه لذي الحق محمل


أليس عظيما أن تُلم ملمة

*وليس علينا في الحقوق معول

فإن نحن لم نملك دفاعًا بحادث

*تلم به الأيام فالموت أجمل

فالفقير -في رأيه: شر الناس وأحقرهم عندهم، وأهونهم عليهم مهما يكن له من فضل؛ يجافيه أهله وتزدريه امرأة حتى الصغير يستطيع أن يذله.

أما الغني: فمهما يفعل يقبل منه ومهما يخطئ يغفر له، فللغني رب يغفر الذنوب جميعًا؛ يصوّر هذه المعاني فيقول مخاطبًا زوجه:

ذريني للغنى أسعى فإني

*رأيت الناس شرهم الفقير

وأدناهم وأهونهم عليهم

*وإن أمسى له حسب وخير

يباعده القريب وتزدريه

*حليلته ويقهره الصغير

ويُلقى ذو الغنى وله جلالٌ

*يكاد فؤاد لاقيه يطير

قليل ذنبه والذنب جمّ

*ولكن للغنى رب غفور

هكذا يسجل أبو الصعاليك فلسفته في هذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة؛ مشكلة الغنى والفقر، في هذا الأسلوب المتميز الذي يقوم على السخرية من هذا المجتمع العجيب، الذي يحتقر الفقير لا لشيء إلا لأنه فقير، ويقدّر الغني لا لشيء إلا لأنه غني.

وبهذا حاول الصعاليك أن يسلكوا لأنفسهم مسلكًا خاصًّا بهم في الانتصار على فقرهم، ومحاولة إنصاف أنفسهم من مجتمعهم الذي ظلمهم؛ حتى لو كان الإنصاف عن طريق الاعتداء والسلب والنهب على أغنياء هذا المجتمع.

ومن الناحية الفنية يختلف شعر الصعاليك عن شعر غيرهم:

فهو من الناحية الشكلية:

تكثر فيه المقطوعات، ولا نجد فيه القصائد الطويلة، وهم لا يسيرون على نهج القصيدة الجاهلية التقليدية، التي تبدأ بالأطلال ثم ينتقل الشاعر من الأطلال إلى الغزل، ثم من الغزل إلى وصف الناقة والصحراء… وغير ذلك من الأغراض، في شعر الصعاليك لا نجد شيئًا من ذلك، ويبدو أن حياتهم في الكرّ والفرّ لم تكن لتسعفهم أن يطوِّلوا قصائدهم، ثم إنهم في شعرهم يصفون حياتهم لا يزيدون على ذلك.

ومن حيث الموضوعات:

نجد أن الموضوعات التي غلبت على شعرهم تختلف في بعض الأحيان عن الموضوعات التي نجدها عند غيرهم من الشعراء؛ فالغالب على موضوعاتهم هو وصف أحاديث المغامرات، ووصف ما كانوا يفعلونه في غاراتهم على أعدائهم، ووصف المراقب التي كانوا يتخذونها أماكن لرصد الأعداء أو لرصد القوافل التي يريدون الإغارة عليها وسلبها.

وكذلك نجد من موضوعات شعرهم الحديث عن الرفاق، فهم أسسوا لأنفسهم مجتمعًا خاصًّا بهم، الصعاليك فيه إخوان ورفاق، يساعد بعضهم بعضًا ويعاون بعضهم بعضًا، ويخرجون معًا للغزو والقتال.

ومن موضوعات شعرهم كذلك: وصف الأسلحة التي كانوا يستخدمونها في غاراتهم وفي كرهم على أعدائهم، وفي شعرهم أيضًا ذكر لأحاديث الفرار؛ لأنهم لم يكونوا يحاربون حربًا نظامية، بل كانوا يكرون ويفرون ويسلبون ويهربون، وهم من أجل ذلك يصفون سرعة عدوِهم، وقد رويت في سرعة عدوهم أخبارٌ عجيبة؛ حتى إن أكثر هذه الأخبار يدل على أن الواحد منهم كان إذا عدا سبق الخيل المسرعة، كما يلمّون في شعرهم بوصف التشرد ووصف الجوع ومعانة الفقر، ويذكرون فيه كذلك آراءهم في المجتمع الذي ظلمهم، وآراءهم في أنفسهم، وهذا نموذج من شعر الصعاليك.

وفي التائية التي رواها المفضل للشنفرى إلمام بكثير من هذه الموضوعات؛ فقد تحدث فيها عن غزوِه لبني سلامان أعدائه الألداء على رأس جماعة من رفاقه الصعاليك، وهو يبدأ الحديث برسم صورة لرفاقه، فهم جماعة من الغزاة المغامرين، قد احمرّت قسيهم لكثرة غزواتهم، ويقدم نفسه رئيسًا عليهم؛ يبعثهم للغزو، وهو يعلم أن النصر والهزيمة أمران يتعرض لهما كل مغامر، واحتمال الهزيمة لن يصرفه عن المغامرة؛ فهذه طبيعة المغامرة، فمن يغزُ يغنم مرةً ويخسر أخرى، ثم بعد أن ينتهي من تقديم رفاقه وتقديم نفسه يأخذ في وصف خروجهم؛ فيحدد أولًا الموضع الذي اجتمعوا فيه بأمره تحديدًا جغرافيًّا دقيقًا، ثم يذكر الدوافع التي دفعته إلى هذه المغامرة، ثم يهوّن على نفسه مشقة الطريق؛ فستنتهي هذه المشقة بتحقيق هدفه، ثم يعود بعد هذا إلى رفاقه ليتحدث عنهم طويلًا، وهو يخصّ أحدهم وهو تأبط شرًّا الذي كان يقوم على زادهم في غزواتهم ويتولى أمر قسمة هذا الزاد عليهم، يذكره الشنفرى بحديث مرح يداعبه فيه مداعبة طريفة، ويصوره على أنه أُمّهم، أو كأنه أمّهم، ويذكر الرفاق على أنهم العيال، فيذكر الشنفرى تأبط شرّا على أنه أم العيال وهذه الأم تقتر على أبنائها مخافة أن تطول فترة الغزوة فيموتوا جوعًا، ويعلن الشنفرى أنه غير راضٍ عن هذه السياسة التي تنتهجها أمهم، وهو بذلك مازحٌ غير جاد، فما تخشاه عليهم ينبغي أن يجعلهم راضين بما تفعلوا؛ فهي أيضًا لا تؤثِر نفسها بشيء عليهم، حتى لقد أصبحت نحيلة دقيقة، وهي أمّ ليست كسائر الأمهات؛ إنها غير محجبة لا يحجبها سِتر ولا يضمها بيت، وهي تحمل جعبة فيها ثلاثون سهمًا؛ عريضة النصال وتعدو في سرعة فائقة، وفي يمينها سيف صارم بتّار؛ إنها أم الصعاليك إنها الصعلوك الشهير تأبطّ شرّا. يقول الشنفرى في تائيته:

وأم عيال قد شهدت تقوتهم

*إذا أطعمتهم أوتحت وأقلتِ

تخاف علينا العيل إن هي أكثرت

*ونحن جياعٌ أي آل تألّت

مصعلكة لا يقصر السترُ دونها

*ولا تُرتجى للبيت إن لم تبيّت

لها وفضة فيها ثلاثون سيحفًا

*إذا آنست أولى العدي اقشعرتِ

وتأتي العدي بارزًا نصفُ ساقها

*تجول كعير العانة المتلفت

إذا فزعوا طارت بأبيضَ صارم

*ورامت بما في جفرها ثم سلّت

حُسام كلون الملح صافٍ حديده

*جُراز كأقطاع الغدير المنعّت

تراها كأذناب الحسيل صوادرا

*وقد نهلت من الدماء وعلّت

ومن المهم هنا أن نذكر معاني المفردات؛ ليسهلَ الفهمُ:

أو تحت: أقلت.

العيل: الفقر.

أيّ آل تألتِ: أي سياسة ساست، ومصعلكة بالفتح: نحيفة. وبالكسر مصعلِكة: أي صاحبة صعاليك.

الوفضة: الجعبة.

والسيحف: السهم العريض النصل.

العدي: القوم من الرجالة.

الجفر: الكنانة.

الجُراز: السيف القاطع.

الحسيل: جمع حسيلة وهي أولاد البقر؛ شبه السيوف بأذناب الحسيل إذا رأت أمهاتها فجعلت تحرك أذنابها. هذه لمحة عن ظاهرة الصعلكة في العصر الجاهلي وأسبابها.

ولقد زالت هذه الأسباب واختفت -أو كادت- هذه الظاهرة بعد ظهور الإسلام بسبب ما جاء به الإسلام من شرائع التكافل الاجتماعي والمؤاخاة بين أبنائه، وبعد أن جمع شتات العرب بعد أن كانوا قبائل متفرقة لا يجمعهم نظام، جمعهم الإسلام على نظام يُعاقب فيه المذنب ويُثاب فيه الملتزم.

من هنا اختفت ظاهرة الصعلكة واختفت آثارها أو كادت.

error: النص محمي !!