شعر رثاء المدن والممالك الزائلة، وأهم الشعراء والنصوص في هذا الموضوع
رثاء المدن والممالك الزائلة:
رثاء المدن والممالك الذاهبة ورثاء الأندلس كلها بابٌ معروفٌ في الأدب الأندلسي يدل على هذا الأسى والحزن والكمد الذي استعر في قلوب الشعراء بسبب ضياع الأندلس.
لقد فقد المسلمون وجودهم ومجدهم في الأندلس بسبب انشغال الحكام بالدنيا وحرصهم على إشباع نزواتهم وشهواتهم، وانشغالهم عما يحقق استمرار وجودهم في تلك البلاد، واستطاع أعداؤهم أن يغْرُوهم كل واحد منهم بصاحبه وأخيه، بعد أن انقسمت الأندلس وتفرق شمل حكامها، وأصبحت عدة ممالك بدل أن تكون دولةً واحدة.
تاريخ الأندلس بدأ مجيدًا وقويًّا، وبلغ أوج مجده وقوته في مرحلة ما يسمى بعهد بني أمية في الأندلس بعد أن دخلها عبد الرحمن الداخل، الفتى الأموي الذي أنشأ هناك مملكة للأمويين؛ أخذت هذه المملكة تقوى وتزدهر حتى بلغت أعلى موجات هذه القوة والازدهار في عصر الناصر والمستنصر.
وبعد أن زالت دولة الأمويين بالانقسام والتآمر، وانقسمت الجزيرة إلى دويلات صغيرة، وطوائف متنافرة -فيما يُسمى بعصر ملوك الطوائف- بدأ عصر الانحصار، وعصر الانكسار، وعصر الهزائم، وأخذت الدولة الأندلسية المسلمة القوية تدب إليها عوامل الضعف، وعوامل الشيخوخة والزوال؛ لأن لله سبحانه وتعالى سننًا في كونه، من هذه السنن: أن القوة تكون في الاتحاد، والضعف يكون في التفرق والتشرذم.
الصبر والاعتصام بحبل الله والأخذ بأسباب القوة، والحذر من الأعداء كل هذا من عوامل البقاء وعوامل القوة والاستمرار، أما التناحر والتفرق والاختلاف، وأن يبحث كل أمير عن زعامة خاصة به وعن ملكه هو، ولا يلتفت إلى إخوانه ولا يعتبر بدروس التاريخ، ويصبح الأخ عدوًّا لأخيه، ويتسابق الأمراء والملوك في إرضاء أعدائهم، ويستغيثون بأعدائهم، ويستعينون بهم لحرب إخوانهم؛ ظنًّا منهم أن أعداءهم سيسكتون عنهم، ذلك هو الجهل بعينه، وذلك هو طريق الفناء بعينه. هذا هو الذي حدث في دولة الأندلس فيما يسمى بعصر الطوائف، أو عصر ملوك الطوائف.
كان المسيحيون أو النصارى المتطرفون الذين يحملون عداوة في قلوبهم مشتعلة ضد المسلمين يجمِّعون في قوتهم، ويستعدون للانقضاض على ما يجدونه ضعيفًا من ممالك الأندلس ومدنها، وساعدهم المسلمون بتناحرهم وتفرقهم وغفلتهم، فأخذوا يقتطعون منهم دولتهم المسلمة مدينة بعد مدينة، وإمارة بعد إمارة، وظلَّت هذه المدن تتساقط والنصارى المتعصبون يقتلون ما يستطيعون قتلهم من المسلمين، ويطردون من لا يقتلون؛ حتى كانت غرناطة هي آخر معقل للإسلام في إسبانيا، ورحل المسلمون وخرج الإسلام، وبقيت آثارهم وآثار حضارتهم، وآثار علومهم، عندما كانوا في قوتهم، وعندما كانوا في عزهم، وعندما كانوا يعملون بما يأمرهم به دينهم بقيت هذه الآثار شاهدة على أن الإسلام كان هناك.
انتهى الوجود الإسلامي بسقوط غرناطة في اليوم الثاني من ربيع الأول، سنة ثمانمائة وسبع وتسعين من الهجرة الموافق الثاني من يناير سنة ألفٍ وأربعمائة واثنين وتسعين من الميلاد بعد أن ظل الوجود الإسلامي في تلك البلاد ثمانية قرون؛ فيقول الدكتور مصطفى الشكعة في كتابه عن الأدب الأندلسي: “فسلام على الأندلس، ولا سلام على من قصَّر، وطمع، وخان؛ فأضاع الأندلس”، ونحن نقول: وسلام على كل من يأخذ العبرة من التاريخ، ولا سلام على الغافلين الذين لا يتعلمون من دروس التاريخ.
وإذا كان التاريخ يُسجل الأسباب، ويرصد النتائج، ويحلل المواقف؛ فإن الشعر هو الذي يحتفظ لنا بالعواطف، والمواقف الإنسانية التي صورها الشعراء الذين عاصروا الأمجاد؛ وفرحوا بها وتغنوا بها، ثم بعد ذلك شاهدوا الانكسار والهزائم والضياع، وتأثروا، وحزنوا، وصوَّروا حزنهم في الشعر الذي رثوا به بلادهم.
فالرثاء هو ذكرُ الموتى، وإظهارُ الحزن عليهم، هذا معروفٌ في ذكر الأفراد، أو البشر الذين ماتوا ورحلوا، ورثاء المدن هو ذكرُ هذه المدن التي كانت عزيزة قوية باذخة المجد، ثم أخذت من أهلها، وسُلب مجدهم فيها، وضاعت كرامتهم فيها وطردوا منها؛ فالشعراء الذين رثوا المدن والممالك الزائلة في الأندلس يتحسرون على المجد الذي ضاع، والتاريخ الذي كان، وعلى العز الذي تحقق يتحسرون ويحزنون على وطنهم الذي ضاع.
لم يفقد المسلمون الأندلس هكذا طفرة أو مرة واحدة؛ وإنما اقتُطِعت هذه البلاد، وسقطت منهم مدينة تلو مدينة، وإمارة بعد إمارة، وكان الشعر مسايرًا لهذه الفترة الحزينة من الانكسار والسقوط، وأول مدينة إسلامية كبيرة سقطت من بلاد الأندلس هي مدينة “طليطلة”، كانت “طليطلة” واحدة من أكبر القواعد الإسلامية في الأندلس، وكان سقوطها في سنة أربعمائة وثمان وسبعين، يعني يمكن أن نقول: إن سقوط هذه المدينة كان في منتصف التاريخ الإسلامي ببلاد الأندلس تقريبًا، ولكن أسباب سقوط الدول والممالك لا تخضع للزمان بقدر ما تخضع لصلاح الحاكم، أو فساده، وسلامة السكان وصحتهم العقدية والنفسية والاجتماعية والثقافية أو فسادهم.
لقد كان من المخجل -كما يقول التاريخ- وطليطلة تسقط أن يرى الناس من غزاة ومقيمين حاكمها -وكان اسمه “القادر بالله بن يحيى بن ذي النون”- وبيده “إسطرلاب”: آلة من الآلات الفلكية، ينظر فيه ليحدد الوقت الذي يرحل فيه، يريد أن يهرب؛ لقد كان سقوط هذه المدينة وتلك القاعدة صدمة كبرى، أصابت المسلمين في الأندلس بالذهول، لكن الناس لم يعتبروا، وسقطت بعد طليطلة مدنٌ غيرها كثيرة، فسقطت أشبيلية، وسقطت جيان، وسقطت مرسية، وسقطت غرناطة آخر البلاد التي سقطت. وهكذا التاريخ يعلمنا العبرة، ونترك التاريخ لننظر في الشعر.
من الشعر الذي ورد في رثاء المدن والممالك الزائلة:
احتفظ تاريخ الأدب بقصيدة طويلة وبديعة، وعجيبة لشاعر مجهول لم يذكر التاريخ اسم هذا الشاعر؛ لكنه احتفظ بهذه القصيدة التي قالها في رثاء طليطلة، ضَّمن الشاعر قصيدته أحاسيسه الحزينة، وحسرته الشديدة، كما ضمَّنها دعوة يستنفر بها الملوك والأمراء، وقواد الجيوش، ويستحثهم ويلومهم، ويضع أمامهم الكارثة الكبرى التي لحقت بالمسلمين، بسقوط هذه المدينة، يريد منهم أن يعتبروا وأن يفيقوا؛ لكنهم لم يعتبروا ولم يفيقوا.
يقول هذا الشاعر في هذه القصيدة:
لثكْلِك كيف تبتسم الثغورُ | * | سرورًا بعدما يئست ثغورُ |
لقد قُصِمَتْ ظهورٌ حين قالوا | * | أمير الكافرين له ظهورُ |
ترى في الدهر مسرورًا بعيشٍ | * | مضى عنا لطيَّته السرورُ |
أليس بنا أبيُّ النفسِ شهمٌ | * | يُدير على الدوائر إذ تدور |
لقد خضعت رقاب كُنَّ غلبًا | * | وزال عتوُّها ومضى النفور |
وهان على عزيزِ القوم ذلٌّ | * | وسامحَ في الحريمِ فتًى غَيورُ |
طليطلة أباح الكفر منها | * | حماها إن ذا نبأ كبير |
فليس مثالَها إيوانُ كسرى | * | ولا منها الخَوَرْنقُ والسَّديرُ |
محصَّنةٌ محسَّنةٌ بعيد | * | تناوُلها ومطلبُها عسيرُ |
هكذا كانت طليطلة، كانت حصينة، وكانت مجيدة، وكان مطلبها عسيرًا، عندما كان فيها رجال يحمونها، ويدافعون عنها، وعندهم غيره، ينفرون من الذل ويرفضون الخسة والنذالة.
يقول الشاعر:
ألم تكُ معقِلًا للدين صعبًا | * | فَذَلَّلَهُ كما شاء القديرُ |
وأخرج أهلَها منها جميعًا | * | فصاروا حيث شاء بهم مصيرُ |
وكانت دارَ إيمانٍ وعلمٍ | * | معالمُها التي طُمِسَت تنيرُ |
كانت كذلك… كانت معقلًا للدين، لكن أهلها أُخرِجوا منها، وكانت دار إيمان وعلم، وكانت معالمها منارات، وكانت مدارسها مساجد، وكانت مساجدها مدارس؛ لكن الذي حدث أنها كما قال الشاعر:
فعادت دارَ كفرٍ مصطفاةً | * | قد اضطربت بأهليها الأمورُ |
مساجدُها كنائسُ أيُّ قلبٍ | * | على هذا يقرُّ ولا يَطيرُ |
تحولت مساجدها إلى كنائس، وعادت دار كفر؛ فأي قلب مؤمن يقر على هذا ويتحمله ويقبله؟!، ليت الناس يعتبرون.
ثم يقول هذا الشاعر المجهول مذكرًا بأسباب السقوط، ومذكرًا بأسباب سقوط أيِّ أمة على الدوام: إن من أسباب سقوط طليطلة -كما ذكر الشاعر في قصيدته: فساد الحكام، وانتشار الظلم والجور والمصادرات، وذيوع الفاحشة بين الناس، وانحلال المجتمع، والإقبال على الشهوات، واقتراف المعاصي، وخوَر الحكام وتفرقهم وجبنهم، والاستهانة بأخطار العدو، إما كبرًا وغرورًا، وإما غفلة وغباءً…
الشاعر يذكر هذه الأمراض السياسية والثقافية والاجتماعية التي إذا نخرت في جسد حضارة من الحضارات أو أمة من الأمم أهلكتها؛ ولا يجد أعداؤها صعوبة بعد ذلك في إسقاطها.
يقول هذا الشاعر المجهول:
وكان بنا وبالقينات أولى | * | لو انضمَّتْ على الكل القبورُ |
لقد سخِنت بحالتهنَّ عينٌ | * | وكيف يصحُّ مغلوبٌ قريرُ |
لئن غِبْنَا عن الإخوانِ إنا | * | بأحزانٍ وأشجانٍ حضورُ |
نذورٌ كان للأيام فيهم | * | بملكهم فقد وفت النذورُ |
فإن قلنا العقوبة أدركتهم | * | وجاءهمُ من الله النكيرُ |
فإنا مثلهم وأشد منهم | * | نجورُ وكيف يسلم من يجورُ |
أنأمنُ أن يحلَّ بنا انتقامٌ | * | وفينا الفسقُ أجمعُ والفجورُ |
وأكلٌ للحرامِ ولا اضطرارٌ | * | إليه فيسهل الأمر العسيرُ |
أصبرًا بعد سبيٍ وامتحانٍ | * | يُلام عليهما القلبُ الصبورُ |
فأمُّ الصبرِ مذكارٌ ولود | * | وأم الصقرِ مقلاةٌ نزورُ |
نخور إذا دُهينا بالرزايا | * | وليس بمعجبٍ بقرٌ يخورُ |
ونجبن ليس نزأرُ لو شجُعنا | * | ولم نجبنْ لكان لنا زئيرُ |
لقد ساءت بنا الأخبار | * | حتى أمات المخبرين بها الخبيرُ |
أتتنا الكتْبُ فيها كلُّ شرٍّ | * | وبشَّرَنَا بأنْحُسِنَا البشيرُ |
وقيل تجمعوا لفراق شمل | * | طليطلة تملكها الكفور |
ويعبر الشاعر عن حيرته الشديدة وهو يذكر طليطلة بلده الجميلة التي صارت أسيرة بيد الأعداء، ويذكر الأهل، والحفل، والبستان، والديار، والحقول، والطبيعة الجميلة، ويرثي لحال المقيم، ويبكي لمصير النازح، وتتمثل له هذه المشاهد المروِّعة في تلك الديار التي كانت عامرة وخربها الأعداء، وكانت عزيزة وأذلها المحتلون، وكانت دار إسلام؛ فصارت دار كفر.
يقول:
كفى حَزَنًا بأن الناس قالوا | * | إلى أين التحولُ والمسيرُ |
أنترك دورنا ونفِرُّ عنها | * | وليس لنا وراء البحرِ دورُ |
ولا ثَمَّ الضِّياعُ تروق حُسنًا | * | نُباكرُها فيعجبُنا البكورُ |
وظلٌّ وارفٌ وخريرُ ماءٍ | * | فلا قُرٌّ هناك ولا حَرورُ |
ويؤكل من فواكهِها طريٌّ | * | ويُشرَب من جداولها نَميرُ |
يؤدى مغرَمٌ في كل شهر | * | ويؤخذ كل صائفةٍ عُشورُ |
فهم أحمى لحوزتنا وأولى | * | بنا وهم الموالي والعشيرُ |
لقد ذهب اليقين فلا يقين | * | وغر القوم بالله الغَرورُ |
فلا دينٌ ولا دنيا ولكن | * | غُرور بالمعيشة ما غُرورُ |
رضوا بالرِّق يا للهِ ماذا | * | رآه وما أشار به مشيرُ |
مضى الإسلام فابكِ دمًا عليه | * | فما ينفي الجوى الدمعُ الغزيرُ |
لا يزيل الدمع الغزير الحزن؛ لكن الشاعر لا يملك إلا أن يبكي، ولا يجد إلا دموعه، ولا يجد إلا كلماته ولغته، يصور بها هذه الفاجعة، ويصور حزنه وأساه. ويبحث الشاعر عن رجل يستدرك الأمر، ويعيد الأمور إلى نصابها، يتساءل عنه ويذكر أوصافه؛ فيقول:
ألا رجلٌ له رأيٌ أصيل | * | به مما نحاذرُ نستجيرُ |
يكِرُّ إذا السيوف تناولته | * | وأين بنا إذا ولَّتْ كرورُ |
وطَعنٌ بالقنا الخطَّارِ حتى | * | يقول الرمح ما هذا الخطيرُ |
عظيمٌ أن يكون الناس طُرًّا | * | بأندلسٍ قتيل أو أسيرُ |
أذكر بالقِراعِ الليثَ حرصًا | * | على أن يقرَع البيضَ الذَّكورُ |
يبادر خرقَها قبل اتساعٍ | * | لِخطبٍ منه تنخسف منه البدورُ |
يوسع للذي يلقاه صدرًا | * | فقد ضاقت بما تلقى الصدورُ |
تنغصَّت الحياة فلا حياة | * | وودِّع جيرةً إذ لا مجيرُ |
فلَيْلٌ فيه همٌّ مستكِنٌّ | * | ويومٌ فيه شرٌّ مستطيرُ |
أين هذا الرجل الذي يستغيث به الشاعر؟ للأسف الشديد لم يجد الشاعر رجلًا يستدرك الأمر، وينقذ طليطلة، ويحمي غيرها.
كانت إذًا طليطلة أول مدينة تسقط، وكان الشعر مواكبًا لسقوطها، مسجلًا لحزن الناس عليها، مُدِينًا للذين قصروا وأضاعوا، والذين تخاذلوا وخانوا، ومستنجدًا برجال في عصر وفي وقت عز فيه الرجال، ثم بعد سقوط طليطلة سقطت مدينة بلنسية.
وكما بحث الشاعر المجهول الذي سبق الحديث عن قصيدته عن رجل يستدرك الأمر وينقذ البلاد؛ فعل ذلك أيضًا الشاعر ابن الأبَّار البلنسي؛ فقد أنشد قصيدة يستنجد فيها ويستصرخ، ويقول مخاطبًا أحد الملوك والأمراء في إفريقيا -وكانت كلمة إفريقيا تطلق على بلاد المغرب المجاورة لبلاد الأندلس في الجهة الثانية من البحر المتوسط التي نسميها نحن الآن بلاد تونس والمغرب؛ فيخاطبه ويقول:
أَدْرِكْ بِخَيْلِكَ خَيْلِ اللَّهِ أندلُسًا | * | إنَّ السَّبِيلَ إلَى مَنْجاتِها دَرَسَا |
إن الطريق إلى الأندلس تخرَّب؛ فأدركها قبل أن تذهب:
أَدْرِكْ بِخَيْلِكَ خَيْلِ اللَّهِ أندلُسًَا | * | إنَّ السَّبِيلَ إلَى مَنْجاتِها دَرَسَا |
وَهَبْ لهَا مِنْ عَزيزِ النَّصْرِ مَا الْتَمَسَتْ | * | فَلَمْ يَزَلْ مِنْكَ عزُّ النَّصْر مُلْتَمَسا |
يَا للجَزيرَةِ أَضْحَى أَهلُها جَزَرًا | * | لِلحَادِثَاتِ وأَمْسَى جَدُّهَا تَعَسا |
في كُلِّ شارِقَةٍ إِلْمَامُ بَائِقَةٍ | * | يَعُود مَأتَمُها عِندَ العِدَى عُرُسا |
وكُلِّ غَارِبَةٍ إِجْحَافُ نائِبَةٍ | * | تَثْنِي الأَمَانَ حِذارًا والسرُور أَسَى |
تَقَاسَمَ الرومُ لا نَالَتْ مَقَاسِمُهُم | * | إِلا عَقَائِلَها المَحْجوبَةَ الأُنُسَا |
وَفِي بَلَنْسِيةٍ مِنْها وَقُرْطُبَةٍ | * | ما يَنْسِفُ النَّفسَ أَو ما يَنزِفُ النَّفَسا |
مَدائِنٌ حَلَّها الإشْرَاكُ مُبْتَسِمًا | * | جَذْلانَ وارتَحَلَ الإِيمانُ مُبْتَئِسا |
وَصَيَّرَتْها العَوادِي العَابِثاتُ بِها | * | يَسْتَوحِشُ الطَّرْفُ مِنْها ضِعْفَ ما أَنِسا |
فَمِنْ دَسَاكِرَ كانَتْ دُونَهَا حَرَسًا | * | وَمِنْ كَنَائِسَ كَانَتْ قَبْلَها كُنُسا |
يَا للْمَساجِدِ عَادَتْ للعِدَى بِيَعًا | * | ولِلنِّداءِ غَدَا أَثْناءَها جَرَسا |
لَهْفِي عَلَيها إلَى استِرجَاعِ فائِتِها | * | مَدارِسًا لِلْمَثانِي أصبَحَتْ دُرُسا |
فهذا الشاعر يُشير إلى تبدل الأحوال كما فعل صاحبه من قبل، يذكر أن المساجد صارت بيعًا، وتحولت إلى كنائس، وأن الأذان اختفى من هذه البلدة، وصار الجرس حالًّا محله، ويحاول الشاعر أن يستثير الهمم، وأن يستنفر الغُيُر الذين من واجبهم أن يدفعوا عن هذه البلاد ويستنقذوها، ثم بعد ذلك يتأسف الشاعر، ويتذكر ما كان في هذه البلاد مقارنًا بين الأمس واليوم؛ فيقول في تحسر وحزن:
فأَيْنَ عَيْشٌ جَنَيْنَاهُ بِها خَضِرًا | * | وَأيْنَ غُصنٌ جَنَيْناهُ بِها سَلِسا |
مَحَا مَحَاسِنَها طاغٍ أُتِيحَ لَها | * | مَا نامَ عَن هَضْمِهَا حِينًا وَلا نَعِسا |
وَرَجَّ أَرْجَاءَهَا لمَّا أحاطَ بِها | * | فَغادَر الشُمَّ مِنْ أَعْلامِها خُنُسا |
خلا لَهُ الجوُّ فَامْتَدَّتْ يَداهُ إلَى | * | إِدْراك ما لَمْ تَطَأْ رِجْلاهُ مُخْتَلِسا |
وأكْثَرَ الزَّعْمَ بالتَّثْلِيثِ مُنْفَرِدًا | * | وَلَوْ رَأَى رايةَ التَّوحِيدِ مَا نَبَسا |
وتمضي الأيام وتسقط المدن الأندلسية والممالك الأندلسية، واحدة تلو الأخرى، ومع كل مدينة تسقط وكل إمارة تزول، تتفجر عواطف الشعراء حزنًا وأسى واستنجادًا؛ ولكن الأحداث لا تتغير بسبب التحسر والأحزان؛ لا تتغير الأحداث إلا بالأفعال.
وذهبت الأندلس سقطت حضارة المسلمين هناك، ورثى الشعراء الأندلس الذاهبة، كما رثوا المدن مدينةً مدينةً، وكان أشهر قصيدة قيلت في رثاء الأندلس الضائعة نونية أبي الطيب الرندي التي مطلعها:
لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ | * | فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ |
هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ | * | مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ |
وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ | * | وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ |
يُمَزِّقُ الدَهرُ حَتمًا كُلَّ سابِغَةٍ ُ | * | إِذا نَبَت مَشرَفِيّات وَخرصان |
وَيَنتَضي كُلَّ سَيفٍ للفَناء وَلَو | * | كانَ ابنَ ذي يَزَن وَالغِمد غمدانُ |
أَينَ المُلوكُ ذَوي التيجانِ مِن | * | يَمَنٍ وَأَينَ مِنهُم أَكالِيلٌ وَتيجَانُ |
وَأَينَ ما شادَهُ شَدّادُ في إِرَمٍ | * | وَأينَ ما ساسَه في الفُرسِ ساسانُ |
وَأَينَ ما حازَهُ قارونُ من | * | ذَهَبٍ وَأَينَ عادٌ وَشدّادٌ وَقَحطانُ |
أَتى عَلى الكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدّ لَهُ | * | حَتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما كانُوا |
وَصارَ ما كانَ مِن مُلْكٍ وَمِن مَلِكٍ | * | كَما حَكى عَن خَيالِ الطَيفِ وَسنانُ |
دارَ الزَمانُ عَلى دارا وَقاتِلِهِ | * | وَأَمَّ كِسرى فَما آواهُ إِيوانُ |
كَأَنَّما الصَعبُ لَم يَسهُل لَهُ سببٌ | * | يَومًا وَلا مَلَكَ الدُنيا سُلَيمانُ |
فَجائِعُ الدُهرِ أَنواعٌ مُنَوَّعَةٌ | * | ولِلزَمانِ مَسرّاتٌ وَأَحزانُ |
وَلِلحَوادِثِ سلوانٌ يُسَهِّلُها | * | وَما لِما حَلَّ بِالإِسلامِ سلوانُ |
بعد أن ذكر حوادث الدهر ليأخذ منها العبرة؛ قال: إن هذه الأحداث نسيان يسهلها، وليس لما حل بالإسلام في بلاد الأندلس نسيان، هكذا أراد الشاعر، أراد من المسلمين ألا ينسوا ما حدث لهم بالأندلس؛ لكنهم -وللأسف الشديد- نسوا ما حدث بالأندلس، ونسوا ما حدث لهم في غير الأندلس وما يزالون ناسين وغافلين، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم يذكر الشاعر بعض المدن المجيدة التي سقطت فيقول:
فاِسأل بَلَنسِيةً ما شَأنُ مرسِيَةٍ | * | وَأَينَ شاطِبة أَم أَينَ جيّانُ |
وَأَين قُرطُبة دارُ العُلُومِ فَكَم | * | مِن عالِمٍ قَد سَما فِيها لَهُ شانُ |
وَأَينَ حمص وَما تَحويِهِ مِن نُزَهٍ | * | وَنَهرُها العَذبُ فَيّاضٌ وَمَلآنُ |
قَوَاعدٌ كُنَّ أَركانَ البِلادِ فَما | * | عَسى البَقاءُ إِذا لَم تَبقَ أَركانُ |
ثم يقول:
تَبكِي الحَنيفِيَّةُ البَيضَاءُ مِن أَسَفٍ | * | كَما بَكى لِفِراقِ الإِلفِ هَيمَانُ |
عَلى دِيارٍ منَ الإِسلامِ خالِيَةٍ | * | قَد أَقفَرَت وَلَها بالكُفرِ عُمرانُ |
حَيثُ المَساجِدُ قَد صارَت كَنائِس | * | ما فيهِنَّ إِلّا نَواقِيسٌ وصلبانُ |
حَتّى المَحاريبُ تَبكي وَهيَ جامِدَةٌ | * | حَتّى المَنابِرُ ترثي وَهيَ عيدَانُ |
يا غافِلًا وَلَهُ في الدهرِ مَوعِظَةٌ | * | إِن كُنتَ في سنَةٍ فالدهرُ يَقظانُ |
وَماشِيًا مَرِحًا يُلهِيهِ مَوطِنُهُ | * | أَبَعدَ حِمْصٍ تَغُرُّ المَرءَ أَوطانُ |
تِلكَ المُصِيبَةُ أَنسَت ما تَقَدَّمَها | * | وَما لَها مِع طِوَالِ المَهرِ نِسيانُ |
هذه إذًا قصيدة ابن الرندي في رثاء الأندلس الضائعة.