Top
Image Alt

(صحيح الإمام مسلم)

  /  (صحيح الإمام مسلم)

(صحيح الإمام مسلم)

أ. تعريفٌ مُوجزٌ بـ(صحيح الإمام مسلم):

سمَّاه الإمام مسلم: (المُسْند الصحيح)، واشتهر بـ(صحيح مسلم). ويُعْتبر صحيح مسلم في المرتبة الثانية بعد (صحيح البخاري) عند جمهور المُحدِّثين، وإن ذهبَ بعضُ علماء المَغْرب إلى تقديمه على (صحيح البخاري)، وسبقهم إلى ذلك من المشارقة: أبو حَاتم وأبو زُرعة الرازيان، وأبو علي النيسابوري، وقال بذلك مِن الباحثين المحدَثين: سزكين. وهو جامع لأقسام الحديث، لكن أحاديث التفسير فيه قليلة، لأنه لا يعوِّل على الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين -ومُعظم التفسير منْقُول عنهم-، بل شرطُه الأحاديث المرفوعة، ولم يقع فيه مِن التعليقات سوى اثنيْ عشر حديثًا.

ب. انتقاء الإمام مسلم أحاديثه:

وقد انتقى الإمام مسلم أحاديث “صحيحه” من ثلاثمائة ألْف حديث مَسْموعة، ووضَّح أنه وضع فيه ما أجمعوا عليه، وليس كلّ الأحاديث الصحيحة عنده، “وعنى بذلك ما وجد عنده فيه شرائط الصِّحة المجْمَع عليها، وإن لم يظهر اجتماعها في بعض الأحاديث عند بعضهم”. واستغرقَ تصنيفه خمس عشرة سَنة، وصنّفه في بلده بحضرة أصولِه، وفي حياة كثير من شيوخه؛ فكان يتحرّز في الألفاظ، ويتحرّى في السِياق، ويسوق الأحاديث برُمّتها من غير تقْطيع، لكونه لم يَقْصد لما تصدى له البخاري من استنباط الأحكام ليُبوِّبها به عليه، ويقطِّع الحديث بسببها. ويبلغ عدد حديثه أربعة آلاف حديث سوى المُكرّر. وقد قِيل: إنه -يعني بالمُكرر- اثنا عشر ألْف حديث، ولكن الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي رقّم أحاديثه دون المُكرّر منها، فبلغت (3033) حديث.

وبلغت عنده بالمُكرّر (5777) حديث عدا المُتابعات والشواهِد التي تبلُغ (1618) حديث، فيكون مجموع أحاديثه بالمُكرّر في طَبعة محمد فؤاد عبد الباقي (7388) حديث، وهو قريب من عدد أحاديث (صحيح البخاري) بالمُكرّر؛ فقد بلغت (7393) حديث على ما حرَّره الحافظ ابن حجر. وأما حسب إحصاء (فنسنك)، فتبلغ أحاديث (صحيح مسلم) بالمُكرر: (5788) حديث.

ج. منهج الإمام مسلم في صحيحه:

وقد خرّج مسلم أحاديث “صحيحه” عن مائتَيْ شيخ وعشرين شيخًا. وقد خرّج فيه عن رجال الطبقة الأولى، وهم: الحُفَّاظ المُتقِنون، والطبقة الثانية وهم: المَسْتورون المتوسِّطون في الحِفظ والإتقان. ولم يُخْرج فيه لأحد ممّن اتفق العلماء -أو أكثرهم- على تَضْعيفه وتَرْكه.  قد بيَّن منهجه في مقدّمة كتابه، لكن العلماء اختلفوا في فهْم المراد من تصريحه بأنه يُخرِّج أحاديث الحُفَّاظ المُتقنِين، وما رواه المستورون والمتوسِّطون في الحِفظ والإتقان، ويُهْمل ما رواه المُتّهَمون عند بَعضِ أهل الحديث أو الأكثر منهم: فقال الحاكم (ت 405هـ)، والبيهقي (ت 458هـ)، وابن عساكر (ت 570هـ)، والسيوطي (ت 911هـ)، والديوبندي (ت 1339هـ)، بأنّ مسلمًا وفّى في “صحيحه” بتخريج أحاديث الحُفَّاظ المُتقِنين، وحالت المنية دون إتمام كتابه بتخريج أحاديث المتوسّطين المستورين.

بينما يرى القاضي عِياض: “أن مسلمًا خرّج أحاديث الحُفاظ الثِّقات والصَّدوقين المستورين، وأتى بأسانيد الطبقة الثانية على طريق الإتباع للأولى والاستشهاد، أو حيث لمْ يجد في الباب للأولى شيئًا، وذكر أقوامًا تَكلَّم فيهم قوْم، وزّكاهم آخرون؛ فمن ضُعِّف، أو اتُّهِم ببِدعة، فخرّج لهم، ووُجِدت أحاديثهم في أبواب كتابه. فعندي أنه أتى بطبقاته الثلاث، على ما ذكر ورتّب وقسّم في كتابه، وطرَح الرابعة؛ فقد وفّى بما وَعد به مِن ذِكْر عِلل الأحاديث بما ذكَره من الاختلاف في الأسانيد، كالإرسال والوصل، والزيادة والنقص، وذكْر تَصحيف المصحِّفين وغيرها، وهذا يدل على استيفاء غَرضه من تأليفه، وإدخاله كلّ ما وَعد به فيه”. ثم قال: “أو يكونُ أراد بالطبقات الثلاث: الحُفَّاظ، ثم الذين يَلونَهم، والثالثة هي التي طرَحَها”.

وهذا الذي حكاه عِياض ولمْ يَخْتره، مِن أنّ مسلمًا اقتصر على حديث الطبقة الأولى والثانية، هو الذي ذهب إليه أكثر أهلُ العلْم من المتقدِّمين والمتأخِّرين. ولو قَبِلنا بأنّ مسلمًا خرّج أحاديث لبيان عِلّتها، لتَعارض هذا القَبول مع تصريح مسلم بالتزام الصِّحّة في كتابه واطراحه كلّ ما له عِلّة.

ونبّه الحافظ ابن حجر إلى أنّ مسلمًا يُخرِّج لأهل الطبقة الثانية في المُتابعات والشواهد دون الأصول، فيخَرِّج من أحاديثهم ما يَرفع به التّفرّد عن أحاديث أهل الطبقة الأولى، وكذلك يُخرِّج من أحاديثهم ما له طُرق كَثيرة مُعْتضدة، ولم يُكْثر الرواية عنهم. ومثّل لذلك بعطاء بن السائب -وهو مِن المُكْثرين، ومع ذلك فما له عنده سِوى مواضع يسيرة-، ومحمد بن إسحاق -وهو من بُحور الحديث وليس له عنده في المتابعات إلا ستّة أو سبعة أحاديث-، فإنه  لم يُخرّج لهما إلا في المتابعات، وبالليث بن أبي سليم، ومجالد بن سعيد، فإنه لم يُخرِّج لهما إلا مقرونيْن. وقد علّل النُّقاد وقوع الرواية عمَّن خفّ ضبطهم في (صحيح مسلم)، بأن ذلك يقع في الشواهد والمتابعات، أو بسبب اختلاف اجتهاد النُّقاد؛ فيكون الراوي ثقةً عند مسلم وضعيفًا عند غيره، أو أنّ الضَّعف طرأ على الراوي بعد رواية مسلم عنه، أو أنه ينتقي من أحاديثهم ما هو معروف عن شيوخهم من طُرق أخرى، أو لثبوت توثيقهم النِّسبي في بعض الشيوخ، أو لبيان العِلّة الواقعة في روايتهم.

د. شروط الإمام مسلم في صحيحه:

واشترط مسلم في العنعنة المعَاصَرة، ولم يشترط معها ثبوت اللّقيا كما هو شرط البخاري. وهكذا، فإن شُروط البخاري أعلى من شُروط مسلم، من حيث اعتماده على الطبقة الأولى من الرواة، واشتراطه ثبوت اللقيا. كما يمتاز (صحيح البخاري) باحتوائه على استدلالات فقهيّة لا توجد في (صحيح مسلم)، وبتحرّيه أحوال الرجال؛ فمَن تُكُلِّم فيه مِن رجال البخاري بِجرْح أقلّ ممّن تُكُلِّم فيه من رجال مسلم، كما أنّ ما انتُقِد من أحاديث البخاري أقلّ مما انتُقِد من أحاديث (صحيح مسلم).

هـ. تبويب صحيح مسلم:

ويَمتاز (صحيح مسلم) على (صحيح البخاري) بِعدَم تَقْطيعه الحديث وتَكراره الإسناد كما يفعل البخاري -ابتغاء ما فيها من استدلالات فقهيّة-، بل يجمع مسلم المُتون كلّها بطُرقها العديدة في مَوضع واحد، ممّا يُعِين الطالب على الإحاطة بالحديث وطُرقه، ويسوق المتون بتمامِها وكمالِها من غير اختصار ولا تَقْطيع. وإن وقَع له ذلك، فإنه يَنصُّ على أنه مُخْتصَر. ويُرتِب الأحاديث على طريقة حَسَنة: فيذكر المُجْمل، ثم المبيِّن له، والمُشْكِل، ثم الموضِّح له، والمَنْسوخ، ثم الناسِخَ له؛ فيسهُل بذلك على طالب العلْم النظَر في وجُوهه.

وقد اقتصرَ مسلم على ذكْر الأحاديث المُسنَدة المرفوعة، دون أقوال الصحابة والتابعين. ولم يُكْثر من التعاليق، فسائِرها اثنتا عشرة من المتابعات. وأعلى ما عند مسلم: الرُّباعيّات، وأدناه: التُّساعيّات. وقد فرّق مسلم بين “حدَّثنا” و”أخبرَنا”، وهو لا يرى الرواية بالمعنى -بخلاف البخاري، فإنه كان لا يفرِّق بين “حدَّثنا” و”أخبرَنا”، ويُجيز الرواية بالمعنى مُطلقًا، ويُقطّع الحديث من غير تَنصيص على اختصاره-.

وقد رتَّب مسلم الأحاديث على الكُتب -وهي أربعة وخمسون كتابًا-، وقسّم أحاديث الكتب إلى وِحدات موضوعية تَصلُح أن يُعنْون لها بالأبواب، وتوضع لها التراجم المناسبة،  حيث إنّ الإمام مسلمًا لم يُترجِم لها -أي: لم يَضعْ أوّلها عناوين دَالّة على محتواها، مثل صَنيع البخاري-، ولذلك اجتهد شُرَّاحه في وضع تراجِم الأبواب. وأمثلُهم عِبارة: الحافظ النووي، وزاد عليه الديوبندي.

ومَنْهج مسلم في عرض أسانيده مُتنوِّع: فمرّةً يسوقُ الحديث مِن طُرق عديدة، فيُفرد كلَّ سنَد مع متْنه؛ ويكون ذلك لزيادة في المتون على بعضها، أو لاختلاف سياقها عند الرواة. وأخرى يجمع الأسانيد إمّا بالعطف بين الشيوخ، أو بتحويل الأسانيد برمز “ح”، وإمّا بهما معًا، ويسوق المتن بعدها. وثالثة أنْ يذكر الإسناد والمتن، ثم يذكُر الأسانيد الأخرى لذلك المتْن. وهذا المنهج في التنسيق ساعد على اختصار الكتاب وكَشفَ عن نكات بديعة في الإسناد، خاصّة وأنه يُوضِّح اختلاف الرواة في الأسانيد والمتون، زيادة ونقصًا، وتصحيحًا ووهمًا، مع بيان اختلافهم في سياق المتون ببعض الألفاظ، أو التقديم والتأخير، أو الزيادة والنَقص.

ومن الواضح: أنّ ترتيب أحاديث الباب الواحد (المسألة الواحدة) لم يَلتزم فيه مسلم تَقديم أحاديث أهل الطّبقة الأولى أوّلًا، ثم سَوق المتابعات والشواهد إن وُجدت، بل يُعرف ذلك مِن درجة توثيق الرواة في الأسانيد، فتتميّز أحاديث أهل الطبقة الأولى -وهي الصحيح لذاته-، وأحاديث الطبقة الثانية التي هي أخفُّ ضبطًا لكنها أيضًا صحيحة لغيرها، إذ شَرْط مسلم: الصِّحة في كل ما خرّج في كتابه: “لم أخرِّج في كتابي هذا إلّا ما أجمعوا عليه”، “عرضتُ كتابي هذا على أبي زُرعة، فما قال: “إنّ له عِلّة”، تركْتُه، وما قال: “لا عِلّة فيه”، فهذا الذي أخرجته”. وبالطبع، فإنّ العِلة المقصودة هنا هي: العِلة القَادِحة.

و. تلاميذ الإمام مسلم:

وقد روى (صحيح مسلم) عنه عددٌ من تلاميذه، هم: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سُفيان (ت 308هـ)، وأبو محمد أحمد بن علي القَلانسي، ومكي بن عبدان، وأبو حامد أحمد بن محمد الشرقي.

وقد لَقي (صحيح مسلم) قبولًا كبيرًا عند العلماء، فاعتنوا بشرْحه؛ ومِن أحسن شُروحه: كتاب (المُعْلِم بفوائد مسلم) لمحمد بن علي المازري (ت 536هـ)، و (إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم) للقاضي عِياض بن موسى اليحْصُبي (ت 544)، وكتاب (المِنْهاج في شرح مسلم بن الحجاج) للحافظ أبي زكريا محيي الدِّين النووي الشافعي (ت 676هـ). وقد طُبع طبعات عديدة في الهند والقاهرة.

error: النص محمي !!