صفات الرسل البشرية
لقد تَنَاول القُرآن الكريم التأكيد على أن أنبياء الله ورسله هم بشرٌ من جنس بني آدم، وليسوا من جنس الملائكة، وقد كان سبب هذا التأكيد القرآني لبشرية الرسول، أو لبشرية الرُّسل جميعًا -ما اعترض عليه المنكرون من الرسالات استكبارًا أو حقدًا أو حسدًا، أو حبًّا في الغي والضلال وبعدًا عن الإيمان، والأخذ بشرائع الله تعالى؛ ولذلك أكد الله سبحانه وتعالى أن الرسل من البشر بقوله: {قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ} [فصلت: 6], وقوله تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نّحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ وَلَـَكِنّ اللّهَ يَمُنّ عَلَىَ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11], وفي هذا دليل على أن الله يرسل رسلًا من البشر أنفسهم.
وذهب قوم اعترضوا على اختيار الله رسله من البشر، معتبرين في ذلك المظهر الخارجي للرسول، ونظروا إليه على أنه جسد يحتاج إلى الطعام والشراب، ويحتاج إلى النوم، ويمشي في الأرض لتلبية حاجاته، وقد عبر القرآن الكريم على اعتراضهم هذا بقوله تعالى: {وَقَالُواْ مَا لِهَـَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسْوَاقِ لَوْلآ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} [الفرقان: 7].
ثم بين القرآن الكريم وجهًا آخر من كونهم بشرًا، فقد سجل القرآن الكريم اعتراض الكافرين على كيفية إرسال الله سبحانه بشرًا رسولًا، ولم يكن ملكًا، فقال عز من قائل: {وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رّسُولاً} [الإسراء: 94] وقد عدوا أتباع الرسل وكونهم بشرًا أمرا قبيحًا, قال تعالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ إِنّكُمْ إِذاً لّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] وقال تعالى: {فَقَالُوَاْ أَبَشَراً مّنّا وَاحِداً نّتّبِعُهُ إِنّآ إِذاً لّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24].
وقد كان اعتراض أعداء الرسل على بعثهم من البشر، اعتراضًا يحتاج إلى رد على أقوالهم:
فالرّد الأول: أن الله اختارهم بشرًا لا ملائكة؛ لأنهم أعظم في الابتلاء والاختبار.
الثاني: أن في هذا إكرامًا لمن سبقت لهم منه الحسنى، فإن اختيار الله لبعض عباده ليكونوا رسلًا تكريم وتفضيل {أُولَـَئِكَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّيْنَ مِن ذُرّيّةِ ءادَمَ} [مريم: 58].
الثالث: أن البشر أقدر على القيادة والتوجيه، وهم الذين يصلحون أن يكونوا قدوة وأسوة لأممهم.
الرابع: صعوبة رؤية الملائكة؛ لأن الاتصال بالملائكة ورؤيتهم أمر ليس بالسهل، فالكفار عندما يقترحون أن يكون الرسل إليهم ملائكة؛ لا يدركون طبيعة الملائكة، ولا يعلمون مدى المشقة والعناء الذي سيلحق بهم جراء ذلك؛ لذلك كان إرسال الرسل من البشر أمرًا ضروريًّا؛ كي يتمكنوا من مخاطبتهم، وأخذ الشريعة عنهم وفهمها فهمًا صحيحًا، وسؤالهم عما غمض عليهم، فعبر الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ردًّا على قولهم: لو بعث الله إلينا رسلًا ملائكة، فأعلمهم بأنه لو بعث رسله إليهم ملائكة لما أمكنهم ذلك؛ قال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رّسُولاً}(94) {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السّمَآءِ مَلَكاً رّسُولاً} [الإسراء: 94، 95].
وإذا كان البشر لا يستطيعون رؤية الملائكة والتلقي عنهم بيسر وسهولة؛ فيقتضي هذا لو أرسل الله ملكًا رسولًا إلى البشر أن يجعله رجلًا من جنسهم, قال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلآ أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لّقُضِيَ الأمْرُ ثُمّ لاَ يُنظَرُونَ}(8) {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مّا يَلْبِسُونَ}} [الأنعام: 8، 9].
ثم بين سبحانه فضله ورحمته، وحكمته في إرسال رسل من جنسهم -أي: جنس البشر- في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] وهو أشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم.
ومقتضى بشرية الأنبياء والرسل أن يتصفوا بالصفات التي لا تنفك عنها البشرية، فمن ذلك كونهم جسدًا يحتاجون لما يحتاج إليه البشر من الطعام والشراب؛ قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ فَاسْئَلُوَاْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(7) {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاّ يَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} [الأنبياء: 7، 8]. ومن الصفات البشرية التي تتحقق في الأنبياء والرسل أنهم وُلدوا كما وُلد البشر، ولهم آباء وأمهات وأعمام وعمات، وأنهم يتزوجون ويولد لهم؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرّيّةً} [الرعد: 38].
ومن ذلك أنه يصيبهم ما يصيب البشر من أعراض؛ فهم ينامون ويقومون ويمرضون، ويأتي عليهم ما يأتي على البشر من الموت، فقد جاء عن إبراهيم خليل الرحمن أنه قال عن ربه: {وَالّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}(79) {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}(80) {وَالّذِي يُمِيتُنِي ثُمّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 79-81].
ومن مُقتضى بشريتهم أنهم يتعرضون للابتلاء كما يتعرض البشر؛ فقد سُجن يوسف عليه السلام ومكث في السجن بضع سنين {فَلَبِثَ فِي السّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] الآية، وقد أصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة أحد، فأدموه وكسروا رباعيته، وأخرجوه وصحابته من ديارهم؛ فهاجروا من مكة إلى المدينة المنورة.
ومنهم من قُتل كذلك: {أَفَكُلّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىَ أَنْفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87], وقد أصيبوا -الأنبياء والرسل- بالأمراض كأيوب عليه السلام: {وَأَيّوبَ إِذْ نَادَىَ رَبّهُ أَنّي مَسّنِيَ الضّرّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ}(83) {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىَ لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84].
ومن مقتضى بشريتهم أنهم يقومون بالأعمال والأشغال التي يقوم بها البشر؛ فمن ذلك اشتغال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالتجارة قبل البعثة، ونبي الله موسى نص القرآن على أنه رعى الغنم في قوله تعالى: {إِنّيَ أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيّ هَاتَيْنِ عَلَىَ أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] الآية، وكل الأنبياء تحقق لهم رعي الغنم، ففي حديث جابر قالوا -أي يسألون رسول الله-: أكنت ترعى الغنم؟ أجاب صلى الله عليه وسلم وقال: ((وهل من نبي إلا وقد رعاها؟)) رواه البخاري في صحيحه.
والذي قاله العلماء في حكمة رعي الأنبياء للغنم، أنهم قالوا: ليأخذوا أنفسهم بالتواضع، وتعتاد قلوبهم بالخلوة، ويترقوا من سياستها -أي: سياسة الغنم- إلى سياسة الأمم.
ومن الأنبياء الذين اشتغلوا وعملوا بأعمال البشر: داود عليه السلام؛ فقد كان حدّادًا يصنع الدروع, قال تعالى: {وَعَلّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] ونبي الله زكريا كان يعمل نجّارًا.
بيان أن الرسل لا يملكون شيئًا مع الرب:
بعد الحديث عن تحقيق بشرية الرسل، من أنهم يمرضون وينامون ويشفون ويتاجرون، ويرعون الغنم، ويتعرضون لكل أنواع البلاء في الحروب والغزوات، ومن طردهم من ديارهم، وتعلمهم للصنعة لكي يحققوا الأخذ بالأسباب في سبل الرزق؛ فكل ذلك يدل على أنهم لا يملكون شيئًا لأنفسهم لا من نفع ولا ضر، ولا كذلك لغيرهم من البشر، فيثبت أن جميع الأنبياء والرسل ليس لهم شيء مع الله سبحانه وتعالى؛ فهو المتصرف في ملكه كيف يشاء، فعال لما يريد، فكما أن الأنبياء والرسل لم يستطيعوا دفع الضر عن أنفسهم -وذلك لأن لله حكمًا لا يدركها العقل الإنساني القاصر، فالله أعلم بمراده، وهو على كل شيء قدير-ينتفي عنهم أي صفة من صفات الرب سبحانه وتعالى؛ وذلك لحاجتهم إليه.
بيان أنّ الرُّسل ليس فيهم شيء من خصائص الألوهية والملائكية:
هنا نريد أن نؤكد أن الرسل على كرامتهم على الله، وأن الله خلقهم -يمثلون الكمال الإنساني في أرقى صوره، خَلقا وخُلقًا، وقد أثنى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ثناء عطرًا بقوله تعالى: {وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وأنهم خير الناس أنسابًا، وأنهم لا يكونون أرقّاء، يؤكد هذا السفاريني حيث يقول: “الرّق وصف نقص لا يليق بمقام النبوة، ومن الكمال كذلك أنه اختار جميع الرسل من الرجال، وأنهم أُعطوا العقول الراجحة، والذكاء الفذّ، واللسان المبين، والبديهة الحاضرة، وغير ذلك من المواهب والقدرات التي لا بد منها لتحمل الرسالة. كل هذه الصفات التي جمعها الله فيهم، إلا أنه ليس فيهم من صفات الألوهية شيء، وهم يعتصمون بالله الواحد الأحد، ولا يدّعون شيئًا من صفات الله تعالى، وليس فيهم كذلك من صفات الملائكة شيء؛ إذ أثبتنا لهم أنهم أجسام، وأنهم يأكلون ويشربون وينامون، كل هذه الصفات ليست من صفات الملائكة؛ فثبت أنهم لا يتصفون بأي شيء من صفات الملائكة كذلك”.
الأمور التي تفرد بها الأنبياء دون سائر البشر:
منها: الوحي، وهو أن يوحي الله إليهم، فإذا أردنا أن نثبت ما للأنبياء من صفات تفردوا بها عن سائر البشر، فأول شيء نثبته لهم من صفات: أن الله اختصهم بإنزال الوحي عليهم دون سائر البشر؛ قال تعالى: {قُلْ إِنّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُوحَىَ إِلَيّ أَنّمَآ إِلَـَهُكُمْ إِلَـَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110] وهذا الوحي الذي يأتيهم من عند الله تعالى يجعلهم يفارقون الناس، ويختلفون عنهم في عدة أمور:
1. تكليم الله لبعض الأنبياء، كتكليم الله موسى عليه السلام.
2. اتصالهم ببعض الملائكة، كاتصال نبينا صلى الله عليه وسلم بجبريل عليه السلام.
3. أن الوحي يفرق بينهم وبين البشر؛ بأن يخبرهم الله بأشياء من الأخبار الماضية، كقصة أهل الكهف، وقصة خلق آدم، وقصة مريم، وقصة يوسف، والغيوب الآتية كقوله تعالى: {غُلِبَتِ الرّومُ}(2) {فِيَ أَدْنَى الأرْضِ وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 2، 3] وغيره كالإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس والعروج به إلى السموات العلا، ورؤيته للملائكة وللأنبياء، واطلاعه على الجنة والنار، ومن ذلك رؤيته للمعذبين في قبورهم وسماعه تعذيبهم.
4. مما اختص الله به أنبياءه أن أعينهم تنام وقلوبهم لا تنام، ودليل ذلك عن أنسرضي الله عنه في حديث الإسراء: “والنبي نائمة عيناه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم” وهذا الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه.
وقد يقول قائل: إن هذا قول أنس رضي الله عنه؛ غير أن ابن حجر يردّ فيقول: إنه يرى أن مثل هذا القول لا يُقال من قِبل الرأي من أنس، وقد ورد ما يؤكد ذلك -أي: إن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم- فقد صح عنه أنه قال: ((إنا معاشر الأنبياء, تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا))، وقال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: ((إن عيني تنامان ولا ينام قلبي)).
5. من الأمور التي تفرد بها الأنبياء عن البشر: تخيير الأنبياء عند الموت بين الدنيا والآخرة؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من نبي يمرض إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة، وكان في شكواه الذي قبض فيه أخذته بحة شديدة، فسمعته يقول: {الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ}، فعلمت أنه خير)) رواه البخاري في صحيحه، وهذا دليل على تخيير الأنبياء عند الموت.
6. ومما خص الله به أنبياءه بعد موتهم أمور:
أولها: أنه لا يقبر نبي إلا في الموضع الذي مات فيه، ففي الحديث: ((لم يقبر نبي إلا حيث يموت))؛ ولهذا فإن الصحابة رضي الله عنهم دفنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الموضع الذي مات فيه، وهو حجرة عائشة رضي الله عنها.ثانيها: ومما اختصوا به بعد موتهم أن الأرض لا تأكل أجسادهم، وهذا من إكرام الله تعالى لأنبيائه ورسله، فمهما طال الزمان وتقادم العهد تبقى أجسادهم محفوظة من البلى، ففي الحديث: ((إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)).