صلاة المريض، والحدث والرعاف في الصلاة
. صلاة المريض: حُكمها، كيفيّتها:
الباب السادس والأخير من أبواب الجملة الثالثة من جُمل الصلاة، وهو عن صلاة المريض.
أولًا: حكمها:
سبق أن ذكَرْنا أكثر من مرة: أن الصلاة لا تسقط عن الإنسان بحال من الأحوال ما دام عاقلًا، ولا تسقط إلّا بالجنون -عافانا الله وإياكم من ذلك- بقوله صلى الله عليه وسلم: ((رُفع القلم عن ثلاث: عن الصغير حتى يَكبر أو يبلغ، وعن المجنون حتى يعقل أو يُفيق، وعن النائم حتى يستيقظ)).
ومن هنا، فإن المريض بأيّ مرض غير عقليٍّ لا تسقط عنه الصلاة، وإنما يصلِّي بأي كيفية يَقدر عليها ويستطيعها.
أ. ما قاله ابن رشد:
ولذلك صدّر ابن رشد -رحمه الله- هذا الموضوع بقوله:
أجمع العلماء على أنّ المريض مُخاطَب بأداء الصلاة -أي: مكلّف بها، وأنه يسقط عنه بعض الأركان، يسقط عنه مثلًا: فرْض القيام إذا لم يستطعه. تسقط عنه الطهارة إذا لم يقدر عليها لا تيمّمًا ولا ماءً، ويصلِّي فاقد الطهوريْن. يصلّي جالسًا إذا عجز عن القيام. يسقط عنه فرض الركوع إذا لم يستطعه، وكذلك فرض السجود، ويومئ إن استطاع، ولا يومئ إذا لم يستطع. تلك أمور أجمع عليها العلماء بالنسبة للمريض، وبهذا يبقى وجوب الصلاة في ذمّته ولا تبرأ ذمّته إلا بأداء الصلاة كيفما يستطيع.
أمّا الذي اختلف عليه العلماء بعد هذا الإجماع، فهي مجموعة من المسائل البسيطة، منها:
اختلافهم فيمن له أن يصلّي جالسًا، وفي هيئة الجلوس، وفي هيئة الذي يقدر على الجلوس ولا يقدر على القيام، هذه أمور عِدّة.
فأمّا من له أن يصلِّي جالسًا، فإنّ قومًا قالوا هذا الذي لا يستطيع القيام أصلًا. هذا رأي.
رأي آخَر قال: هو الذي يشقّ عليه القيام من المرض، يعني: يَقدر على القيام لكنه يشق عليه؛ وهذا مذهب مالك وهو الصحيح.
إذًا نحن أمام قوليْن بالنسبة لسقوط القيام، هل يسقط القيام للعجز عنه فعلًا، أو لحدوث المشقة في أثنائه؟ الإمام مالك أخذ بالمشقّة وقال بسقوط القيام عند وجود المشقة. والآخَرون قالوا: لا يسقط القيام إلّا بالعجز.
ما سبب الاختلاف؟ هو هل يسقط فرض القيام مع المشقة؟ أو مع عدم القدرة؟
يقول ابن رشد: ليس في ذلك نصٌّ -أي: تحديد، أو تقدير- وبالتالي تبقى المسألة محلّ خلاف بين العلماء.
ب. ما قاله ابن قدامة:
ماذا قال ابن قدامة في هذه القضية؟ يقول -رحمه الله- في كتابه (المغني)، تحت عنوان: مسألة الخرقي: “والمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه، صلّى قاعدًا”. وتحت هذه المسألة يقول -رحمه الله- مثلما قال ابن رشد: أجمع أهل العلْم على أن من لا يُطيق القيام، له أن يصلّي جالسًا. ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنْب))، رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي وزاد: ((فإن لم تستطع، فمستلقيًا. {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286])).
وروى أنس قال: ((سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس، فخُدش أو جُحش شقُّه الأيمن -يعني: جُرح. فدخلنا عليه نعوده، فحضرت الصلاة، فصلّى قاعدًا، وصلّينا خلفه قعودًا)). وهذه القضية سبق أن تناولناها في صلاة الجماعة، هل يصلّي المأمومون قاعدين خلْف الإمام المريض القاعد، أم يصلّون قيامًا؛ لأنهم قادرون على القيام. وبيّنّا أقوال العلماء هناك، والراجح: أن يصلّوا قائمين؛ لأن القيام لا يسقط في حقهم إلا بالعذر، وليسوا معذورين.
وإن أمكنه القيام، إلّا أنه يَخشى زيادة مرَضه به -يعني: بالقيام- أو تباطؤَ بُرئه فيه -يعني: الشفاء- أو يشقّ عليه مشقّة شديدة، فله أن يصلّي قاعدًا. وهذا هو مذهب الإمام مالك كما قال ابن رشد، وعليه الحنابلة كما رأينا. ونحو هذا قال مالك وإسحاق، وقال ميمون بن مهران: إذا لم يستطع أن يقوم فليصلِّ جالسًا، وحكي عن أحمد نحو ذلك.
يقول ابن قدامة: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وتكليف القيام لِمن به مشقّة، أو زيادة مرض، أو تأخّر الشفاء -حرج، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى جالسًا لما جُحش شقّه الأيمن، والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يَعجز عن القيام بالكليّة، لكن لمّا شقّ عليه القيام سقط عنه، فكذاك تسقط عن غيره.
وإن قدَر على القيام، بأن يتّكئ على العصا، أو يستند إلى حائط، أو يعتمد على أحد جانبيْه، لزمه القيام؛ لأنه حينئذ قادر على القيام من غير ضرر. أمّا إن كان ذلك يضره، أو يُعرّضه للوقوع أو السقوط فلا يجب عليه القيام.
وأيضًا يقول ابن قدامة: وإن قدر على القيام، إلا أنه يكون على هيئة الراكع كالأحدب أو من له بيت قصير السقف لا يمكنه الخروج منه -يعني لا بد من أن يطأطئ رأسه، أو في سفينة، أو خائف لا يأمن أن يُعلم إذا رفع رأسه، فإنه إن كان ذلك لِحَدب أو كِبَرٍ لزمه قيام مثله -يعني: يقوم على قدره طاقته من القيام- وإن كان لغير ذلك، احتمل أن يلزمه القيام قياسًا على الأحدب، واحتمل أن لا يلزمه؛ لأنه غير مستطيع؛ فإن أحمد -رحمه الله- قال في الذي في السفينة لا يقدر على أن يستتم قائمًا لقصر سماء السفينة، قال: يصلي قاعدًا، إلّا أن يكون شيئًا يسيرًا فيُقاس عليه سائر ما في معناه.
ومن قَدَر على القيام وعجز عن الركوع أو السجود، لم يسقط عنه القيام؛ يصلي قائمًا ويومئ بالركوع، ثم يجلس ويومئ بالسجود؛ وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة يسقط القيام؛ لأنها صلاة لا ركوع فيها ولا سجود، فسقط فيها القيام كصلاة النافلة على الراحلة.
يردّ عليه ابن قدامة بقوله: ولنا قول الله سبحانه وتعالى: {وَقُومُواْ للّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران: ((صلَّ قائمًا))، ولأن القيام ركْن قَدر عليه، فلزمه الإتيان به كالقراءة. والعجز عن غيره -أي: الركوع والسجود. لا يقتضي سقوطه، كما لو عجز عن القراءة.
ثم يقول: وإن قدَر المريض على الصلاة وحْده قائمًا، ولا يقدر على ذلك مع الإمام لتطويل الإمام، يحتمل أن يلزمه القيام ويصلِّي وحْده؛ لأن القيام آكد لكون القيام ركنًا في الصلاة لا تتمّ إلا به، أمّا الجماعة فتصحّ الصلاة بدونها. واحتمل أنه مخيّر بين الأمريْن؛ لأننا أبحْنا له ترْك القيام المقدور عليه مع إمام الحيّ العاجز عن القيام، مراعاة للجماعة. وهي من وجهة نظر للحنابلة: أن الإمام الذي يصلي قاعدًا يصلي المأمومون خلفه قعودًا، ولأن العجز يتضاعف بالجماعة أكثر من تضاعفه بالقيام، بدليل أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم، وصلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده سبْعًا وعشرين درجة؛ وهذا أحسن، وهو مذهب الشافعي.
تلك هي رؤية ابن قدامة -رحمه الله- لقضية القيام.
ثانيًا: كيفيتها:
نأتي إلى ابن رشد؛ لنرى ماذا يقول عن صلاة الجالس، ما صفة الجلوس؟ وتلك أيضًا هي مسألة من المسائل التي اختلف الفقهاء بالنسبة لصلاة المريض.
صفة الجلوس فيها قولان:
القول الأوّل: قال أصحابه: يجلس المريض متربِّعًا -يعني: الجلوس الذي هو بدل من القيام، وليس جلوس التشهّد.. وكره ابن مسعود الجلوس متربِّعًا.
لماذا؟
أ. ما قاله ابن رشد:
يقول ابن رشد: مَن ذهب إلى التربيع، لا فرق بينه وبين جلوس التشهد -يعني: كما سبق أن ذكرْنا في جلسة التشهد. ينصب قدمه اليمنى، ويَثني قدمه اليسرى، ويفترشها أو يجلس عليها، أو يتورّك فيضعها تحت قدمه اليمنى، ويضع إلْيته على الأرض. أمّا مَن كرِه التّربع كابن مسعود، فلأنه ليس من جلوس الصلاة، بخلاف جلوس التشهد فإنه من جلوس الصلاة.
الآن عرفنا: أن العاجز عن القيام، المريض الذي لا يقدر على القيام، سواء كان لِعجز أو مشقة فعليّة، يصلي جالسًا. فإذا لم يستطع الجلوس، يصلِّي مضطجعًا، أو يصلّي على جَنب، أو يصلِّي مستلقيًا. تلك هي الجزئية الثالثة من جزئيات صلاة المريض.
يقول ابن رشد: وأما صفة الذي لا يقدر على القيام ولا على الجلوس، فإن قومًا قالوا: يصلِّي مضطجعًا. طبعًا، عرفنا أن العاجز عن القيام يُصلِّي جالسًا، ويومئ للركوع، ويومئ للسجود. وإذا استطاع أن يركع فعلًا ويسجد فعلًا، فإن عليه ذلك.
أما الآن، فهو عاجز عن القيام وعاجز أيضًا عن الجلوس، وقد قلنا إنه لا بدّ أن يصلي بالكيفية التي يقدر عليها؛ هنا خلاف بين الفقهاء في العاجز عن القيام والجلوس، كيف يصلي؟
- قوم قالوا: يصلِّي مضطجعًا، أي: على جَنْبه.
- وقوم قالوا: يصلِّي كيفما تيسّر له.
- وقوم قالوا، ومنهم أبو حنيفة: يُصلِّي مستقبلًا، رجلاه إلى الكعبة.
- وقوم قالوا، وهم مالك والشافعي وأحمد: إن لم يستطيع الجلوس صلّى على جنْبه. فإن لم يستطع على جَنْبه صلّى مستلقيًا ورجلاه إلى القبلة على قدْر طاقته. ويومئ برأسه إلى الركوع والسجود إن استطاع. وإن لم يستطع الإيماء برأسه أومأ بطرْفه -يعني: بعيْنه- أو بأصبعه يشير إلى الركوع ويشير إلى السجود. وكون الرِّجليْن تستقبلان القبلة هو اختيار ابن المنذر.
ب. ما قاله ابن قدامة:
قال في كتابه (المغني)، تحت مسألة الخرقي قال فيها: “فإن لم يُطق جالسًا، فنائمًا -يعني: مضطجعًا. سماه الخرقي نائمًا؛ لأنه في هيئة النائم. وقد جاء مثل هذه التسمية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم. وصلاة النائم على النصف من صلاة القاعد))، رواه البخاري.
فمن عجز عن الصلاة قاعدًا، فإنه يصلّي على جنبه مستقبل القبلة بوجهه؛ وهذا قول مالك، والشافعي، وابن المنذر.
وقال سعيد بن المسيب، والحارث العكلي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي: يصلِّي مستلقيًا ووجهه ورجلاه إلى القبلة، ليكون إيماؤه إليها؛ فإنه إذا صلى على جَنبه كان وجهه في الإيماء إلى غير القبلة.
وعلى كل حال، فالأولى من هذا وذاك أن يصلّي على قدْر طاقته وكيفما تيسّر له ذلك، لقوله سبحانه وتعالى: {لاَ يُكَلّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. ولا تسقط الصلاة -كما قلنا- عن المريض ما دام عاقلًا.
2- مفسدات الصلاة:
هذا الدرس هو جزء من أجزاء الجملة الرابعة من جُمل الصلاة، كما سماها ابن رشد؛ حيث عَنون لهذه الجملة: “قضاء الصلاة، وجبر ما يقع فيها من خلل”.
وكنا قد عرفنا الجمل الثلاث السابقة، وفي الجملة الرابعة نبدأ في التعرف على ما تحتها من أبواب.
وقد قسّم ابن رشد أبواب الجملة الرابعة ثلاثة أبواب:
الباب الأول: إعادة الصلاة، ومتى تجب الإعادة، وأقوال الفقهاء في ذلك.
الباب الثاني: القضاء، وبيّن أقوال الفقهاء فيه، ومن يجب عليه القضاء ومن لا يجب عليه القضاء.
الباب الثالث: الجبران، أي: جبران الخلل الذي يقع في الصلاة، ويكون بسجود السهو.
الباب الأول من أبواب الجملة الرابعة من جُمل الصلاة: مفسدات الصلاة:
الباب الأول عنون له ابن رشد بقوله: “مفسدات الصلاة”. وبعض العلماء يُسمِّيها مُبطلات الصلاة. وجمهور العلماء على: أنّ المبطلات والمفسدات شيء واحد، يعني: مشترك لفظي والمعنى واحد.
أما الحنفية فقد فرقوا بين المُبطل والمُفسد، فجعلوا المبطل لِما يتعلّق بركن الشيء وحقيقته، أمّا المفسد فهو الذي يتعلّق بوصْفه وليس حقيقته ولا ذاته. والراجح: ما قاله جمهور الفقهاء من: أنّ البطلان والفساد بمعنى واحد.
هذا الباب الأول من أبواب الجملة الرابعة بيّن فيه ابن رشد الأسباب التي تقتضي إعادة الصلاة، وهي كما يقول: مفسدات الصلاة.
ثم ذكر ما اتّفق عليه الفقهاء من هذه المفسدات، ثم انتقل إلى بيان ما اختلفوا فيه، فقال: إنهم اتّفقوا على: أنّ مَن صلّى بغير طهارة يجب عليه الإعادة، عمدًا كان ذلك أو نسيانًا. وكذلك مَن صلّى لغير القبلة، عمدًا كان ذلك أو نسيانًا.
وبالجملة: فكلّ من أخلّ بشرط من شروط صحّة الصلاة التي سبق ذكْرها، من مثْل: دخول الوقت، صلّى الصلاة في غير وقتها لغير سفر أو جمْع، أو لم يستر عورتَه في الصلاة، أو كان بدنُه أو ثيابه أو المكان الذين يصلي عليه يشتمل على نجاسة؛ فكلّ هذه الأمور التي سبق بيانها في الجملة الثانية من شروط الصلاة كلّ إخلال بشرط منها يجعل الصلاة باطلة؛ وبالتالي تجب على المصلِّي الإعادة.
بعد بيان ما اتفق عليه الفقهاء، انتقل ابن رشد -رحمه الله- إلى بيان ما اختلفوا فيه، وذكَر أنّ ههنا مسائل تتعلّق بهذا الباب خارجة عمّا ذُكر من فروض من الصلاة، اختلف فيها الفقهاء، وعدّ منها ستّ مسائل.
ولكن قبل أن نسترسل مع ابن رشد في ذكْر هذه المسائل، تعالوا إلى ابن قدامة -رحمه الله- في كتابه (المغني)؛ حيث يقول تحت عنوان: “باب ما يُبطل الصلاة، إذا ترَكه عامدًا أو ساهيًا”.
يقول -رحمه الله: روى أبو هريرة: ((أنّ رسول صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: ارجِعْ فصلِّ فإنك لم تُصلِّ! فرجع الرجل فصلّى، ثم جاء ثانية. فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ارجعْ فصلِّ فإنك لم تُصلِّ! -ثلاث مرات- فقال الرجل: والذي بعَثك بالحق! ما أُحسن غير ذلك، فعلِّمْني! قال: إذا قمتَ إلى الصلاة، فكبِّرْ، ثم اقرأْ ما تيسّر معك من القرآن. ثم اركعْ حتى تطمئنّ راكعًا. ثم ارفعْ حتى تعتدل قائمًا. ثم اسجدْ حتى تطمئنّ ساجدًا. ثم ارفعْ حتى تطمئنّ جالسًا. ثم اسجدْ حتى تطمئنّ ساجدًا. ثم افعلْ ذلك في صلاتِك كلِّها))، متفق عليه.
زاد مسلم: ((إذا قمتَ إلى الصلاة، فأسبغِ الوضوء، ثمّ استقبلِ القِبلة فكبِّرْ)). وكأنّ ابن قدامة -رحمه الله- يريد أن يُبيِّن لنا: أنّ ترْك ركن من الأركان يُبطل الصلاة كما يُبطلها ترْك الشروط. فإذا كان ابن رشد -رحمه الله- قد ذكّرنا في بداية حديثه عن مفسدات الصلاة بأن كلّ من أخلّ بشرط من شروط صحّة الصلاة وجبتْ عليه الإعادة، فإن ابن قدامة -رحمه الله- يضيف إلى ذلك هذه الأركان، أركان الصلاة الذي سبق بيانها.
ثم يورد مسألة للخرقي قال فيها: “ومن ترَك تكبيرة الإحرام أو قراءة “الفاتحة”، وهو إمام أو منفرد، أو الركوع، أو الاعتدال بعد الركوع، أو السجود، أو الاعتدال بعد السجود، أو التشهد الأخير، أو السلام، بَطلت صلاتُه، عامدًا كان أو ساهيًا.
ومن هذا، يتبيّن لنا: أنّ ابن قدامة -رحمه الله- قد أضاف وبيّن ووضّح ما لم يقُله ابن رشد.
فابن رشد اقتصر على شروط صحة الصلاة، والطهارة، واستقبال القبلة، ونحو ذلك. ولكن ابن قدامة ذكَر الأركان.
ثم قال على تعليقه على كلام الخرقي:
وجملة ذلك: أن المشروع في الصلاة ينقسم قسميْن: واجب، ومسنون.
فالواجب نوعان:
أحدهما: لا يسقط في العمد ولا في السهو -وهو الذي ذكَره الخرقي في هذه المسألة- وهو عشرة أشياء: تكبيرة الإحرام، وقراءة “الفاتحة” للإمام والمنفرد، والقيام للقادر عليه، والركوع حتى يطمئن، والاعتدال منه حتى يطمئن، والسجود حتى يطمئن، والاعتدال عنه بين السجدتيْن حتى يطمئن، والتشهد في آخِر الصلاة، والجلوس له، والسلام، وترتيب الصلاة على ما ذكرناه.
ثم قال: كما أشرنا من قبل، فهذه تسمّى أركانًا للصلاة، لا تسقط في عمدٍ ولا سهو. وفي وجوب بعض ذلك اختلاف سبق بيانُه كما ذكرنا عند حديثنا عن الأركان، مثل: الاعتدال، والطمأنينة، والتشهد، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك… وقد دلّ على وجوبها -أي: وجوب هذه الأركان التي ذكَرها، وبطلان الصلاة عند عدم وجودها، أو عدم وجود بعضها: حديث أبي هريرة عن المُسيء في صلاته الذي سبَق ذكْرُه.
فأمّا بُطلان الصلاة بترْكها، ففيه تفصيل؛ وذلك أنه لا يخلو إما أن يتركها عمدًا أو سهوًا. فإن ترَكها عمدًا؛ بطلت الصلاة في الحال. وإن ترك شيئًا منها سهوًا ثم ذكَره في الصلاة، أتى به ولا بدّ -كما سنُبيِّن ذلك في سجود السهو، أو جبران الخلل الذي يقع في الصلاة. وإن لم يذكُره حتى فرَغ من الصلاة، فإن طال الفصلُ ابتدأ الصلاة -يعني: أعادها. وإن لم يَطُلْ بنى عليها، وأكمل الصلاة. وبهذا قال الشافعي، ونحوه قال مالك.
ويُرجع في طول الفصل وقِصَره إلى العادة والعُرف.
واختلف أصحاب الشافعي، فقال بعضُهم كقولنا، وقال بعضهم: الفصل الطويل قَدْر ركعة، وهو المنصوص عن الشافعي.
وقال بعضهم: قَدْر الصلاة التي نسي فيها. والذي قلنا أصحّ؛ لأنه لا حدّ له في الشرع، فيُرجع إلى العُرف فيه، ولا يجوز التقدير بالتّحكّم.
وقال جماعة من أصحابنا: متى ترَك ركنًا فلم يُدركْه حتى سلّم، بَطلت صلاتُه.
قال النخعي والحسن: من نَسِيَ سجدة من صلاة ثم ذكرها في الصلاة، سجدها متى ذكرها. فإذا قضى صلاته، سجد للسهو. وعن مكحول ومحمد بن أسلم الطوسي في المصلِّي ينسى سجدة أو ركعة قال: يُصلِّيها متى ما ذكرها، ويسجد للسهو.
وعن الأوزاعي: في رجل نسِيَ سجدة من الظهر ثم ذكرها في صلاة العصر، قال: يمضي في صلاته، فإذا فرغ سجَدها.
يردّ ابن قدامة على هذه الأقوال بقوله: ولنا على أنّ الصلاة لا تبطل بقرب الفصْل: أنه لو ترَك ركعة أو أكثر فذكَر قبل أن يطول الفصل، أتى بما ترَك ولم تبطل صلاته إجماعًا.
وقد دلّ عليه: حديث ذي اليديْن الذي سنذكره في: “باب سجود السهو وجبران الخلل”. فإذا ترك ركنًا واحدًا، فأوْلى أن لا تبطل الصلاة؛ فإنه لا يزيد على ترك ركعة -أي: أوْلى أن لا تبطل مع الفصل القصير، ويَبْني. أما مع الفصل الطويل، فقد سبق أن قلنا: إنه يعيد الصلاة. والدليل على أنّ الصلاة تبطل بتطاول الفصل: أنه أخلّ بالموالاة، فلم تصحّ صلاته، كما لو ذكر في يوم ثانٍ.
ثم يضيف أيضًا ابن قدامة ما قاله ابن رشد -رحمه الله- عن الشروط التي تَبطل الصلاة بترْكها، فيقول:
يُشترط للصلاة ستة أشياء:
الطهارة من الحدث والنجاسة، والسّترة -يعني: ستر العورة- والموضع، واستقبال القبلة، ودخول الوقت، والنِّيّة.
فمتى أخلّ هذه بشيء من هذه الشروط، لم تنعقد صلاته. وتختص النِّية بأنها لا تصحّ الصلاة مع عدمها بحال، لا في حق معذور ولا غيره. ويختص الوقت ببعض الصلوات؛ لأنه كما علمنا من قبل هناك جمْع التقديم وجمْع التأخير، وكلّ ما اعتُبر له وقت، فلا يصحّ قبل وقته، كالصبح مثلًا؛ لأنها لا تُجمع تقديمًا ولا تأخيرًا مع غيرها، ولا تقصر إلَّا الثانية من المجموعتيْن تُفعل في وقت الأولى حال العذر إذا جُمع بينهما. وبقيّة الشروط تسقط بالعذر على تفصيلٍ ذُكر في مواضعه فيما مضى -أي: عند الكلام عن الشروط، وعند الكلام عن الأركان.
تلاحظون: أنّ ابن قدامة -رحمه الله- قد فصّل ما يُبطل الصلاة، سواء من ترْك الأركان أو بعضها، أو من ترْك الشروط التي نوّه بها ابن رشد أو بعضها.
المسائل السِّتّ في مفسدات الصلاة:
1. طروء الحدث:
يعني: شخص يصلي، رجلًا كان أو امرأة، إمامًا كان أو مأمومًا، أو منفردًا. رجل يصلِّي، طرأ في صلاته حدث يَنقض الوضوء -كما سبق أن ذكَرنا من خروج الريح، أو ما خرج من السبيليْن، أو غير ذلك من نواقض الوضوء.
فقال تحت هذا العنوان: الحدث: إنهم -أي: الفقهاء:
- اتفقوا على: أنّ الحدث -أي طروء الحدث- يَقطع الصلاة.
- واختلفوا: هل يقتضي الإعادة من أوّلها إذا كان قد ذهب منها ركعة أو ركعتان قبل طروء الحدث، أم يَبني على قد مضى من الصلاة.
السؤال هنا يعني: أنّ من طرأ عليه الحدث وهو يصلِّي تنقطع صلاته وتبطل قولًا واحدًا، ويذهب فيتوضأ. فإذا عاد: هل يبدأ الصلاة من أوّلها؟ أو يبني على ما كان صلَّاهُ قبل طروء الحدث؟
هذا هو السؤال الذي يطرحه ابن رشد -رحمه الله- والذي يذكر فيه اختلاف الفقهاء.
يقول في الإجابة عنه:
- القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنه لا يَبني، يعني: يبدأ الصلاة من أوّلها ولا يَبني على ما كان قد صلّى منها قبل طروء الحدث. لا يَبني لا في حدث ولا في غيره، ممّا يقطع الصلاة، إلَّا في حالة واحدة وهي: الرّعاف فقط. والرّعاف هو: عبارة عن خروج الدم وسيلانه من الأنف. يذهب لإزالة الدم، ثم يعود ويُتمّ صلاته. هذه هي الحالة التي استثناها جمهور الفقهاء من طروء الحدث، وقالوا: يَبني على ما صلّى.
- القول الثاني: من الفقهاء من رأى أنه لا يَبني لا في الحدث ولا في الرعاف، وإنما يبتدئ الصلاة في كلتا الحالتيْن؛ وهذا قول الشافعي.
- القول الثالث: هو قول الكوفيِّين -قول أبي حنيفة وأصحابه- ذهبوا إلى: أنه يبني في الأحداث كلِّها. لا يبدأ الصلاة من أوّلها، وإنما يَبني على ما كان قد صلّى منها.
وقبل أن ننظر في اختلاف الفقهاء الذي ذكَر ابن رشد، وبيّن فيه سبب اختلافهم، ننظر فيما قاله ابن قدامة عن هذه القضية.
يقول: فأمّا الذي سبقه الحدث -سبقه يعني: غلبه وطرأ عليه- فتَبطل صلاته، ويَلزمه استئنافُها.
قال أحمد: “يُعجبني أن يتوضّأ ويستقبل” -أي: يبدأ الصلاة من أوّلها. هذا قول الحسن، وعطاء، والنخعي، ومكحول. وهو -كما قلنا رأي جمهور الفقهاء كما ذكَر ابن رشد.
وعن أحمد رواية أخرى: أنه يتوضّأ ويَبْني؛ رُوي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، لما رُوي عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قاء أو رعف في صلاته، فلْينصرفْ فلْيتوضّأْ؛ ولْيبْنِ على ما مضى من صلاته)).
وعن أحمد رواية ثالثة: إن كان الحدث من السبيليْن -يعني: ما خرج من السبيليْن- ابتدأ -أي: أعاد الصلاة من أوّلها. وإن كان من غيرهما، بنَى لأنّ حُكْم نجاسة السبيل -أي: الفرْج. أغلظ؛ والأثر إنما ورَد بالبناء في الخارج من غير السبيليْن، فلا يلحق به ما ليس في معناه.
والصحيح الأوّل: أنه يتوضّأ ويستقبل- لِما روى عليّ بن طلق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فسا أحدُكم في صلاته، فلْينصرفْ فلْيتوضّأْ، ولْيُعِدْ صلاتَه)) -أي: خرج منه ريح- رواه أبو داود والأثرم.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائمًا يصلِّي بهم، فانصرف. ثم جاء ورأسه يَقطر -أي: عليه الماء- فقال: إني قُمْتُ بكم، ثم ذكرْتُ أني كنتُ جُنبًا ولم أغتسل. فانصرفت فاغتسلتُ. فمَن أصابه منكم مثلُ الذي أصابني أو أصابه في بطنه، فلْينصرفْ فلْيغتسلْ أو لِيتوضّأْ، ولْيستقبلْ صلاتَه)) -يعني: لا يبني، وإنما يبدأ من أوّلها رواه الأثرم.
ولأنه فقْد شرط الصلاة في أثنائها -أي: الطهارة- على وجْه لا يعود إلَّا بعد زمن طويل وعمل كثير، ففسدت صلاتُه. يعني: من طرأ عليه الحدث، يحتاج إلى الخروج وإلى المشي، وإلى إعادة الوضوء، وإلى العودة للصلاة؛ وهذا عمل كثير يؤدِّي إلى فساد الصلاة، كما لو تنجّس نجاسة يحتاج في إزالتها إلى مثْل ذلك، أو انكشفت عورتُه ولم يجد السترة إلَّا بعيدة منه، أو تعمّد الحدث، أو انقضت مدّةُ المسح.
إذًا: ابن قدامة يُفصِّل في هذه القضية ما لم يفصِّلْه ابن رشد -رحمه الله- حيث اكتفى ابن رشد ببيان رأي الجمهور: أنه لا يَبني لا في حدث ولا في غيره إلَّا الرعاف، وقول الشافعي: أنه لا يبني لا في الحدث ولا في الرعاف، وقول الحنفية: أنه يَبني في الأحداث كلّها.
سبب الاختلاف الفقهاء على هذه الأقوال الثلاثة في طروء الحدث:
يقول ابن رشد: وسبب اختلافهم أنه لم يَرِد في جواز ذلك أثرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنّما صحّ عن ابن عمر أنه رعف في الصلاة فبنى ولم يتوضأ.
ثم يعلِّل أقوال الفقهاء فيقول:
من رأى أن هذا الفعل -أي: الرعاف والبناء على الصلاة- من الصحابي يجري مجرى التوقيف -يعني: مرويّ عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يمكن للصحابي أن يفعل ذلك دون أن يقف على مثْله من النبي صلى الله عليه وسلم إذ ليس يمكن أن يفعل مثل هذا بقياس- من قال ذلك، أجاز هذا الفعل. ومن كان عنده من هؤلاء: أنّ الرعاف ليس بحدث، أجاز البناء في الرعاف فقط، ولم يُعدِّه لغيره؛ وهو مذهب مالك. ومن كان عنده أنه حدث، أجاز البناء في سائر الأحداث، قياسًا على الرعاف؛ وهو قول الكوفيِّين: أبو حنيفة وأصحابه.
ومن رأى: أنّ مثل هذا لا يجب أن يُصار إليه إلَّا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إذ قد انعقد الإجماع على: أنّ المصلّي إذا انصرف إلى غير القبلة أنه قد خرج من الصلاة، وكذلك إذا فعَل فعلًا كثيرًا، لم يُجز البناء لا في الحدث ولا في الرّعاف.
إذًا: ابن رشد -رحمه الله- علّل وبيّن أقوال القائلين باستقبال الصلاة وإعادتها من أوّلها -وهم الجمهور- أو استثناء الرعاف والاكتفاء بالبناء، أو عدم البناء لا في الحدث ولا في الرعاف، أو البناء في الأحداث كلِّها. وأنّ مسألة البناء إن كانت توقيفية صرنا إليها. وما فعَله بعض الصحابة يجري مجرى التوقيف؛ لأنه لا يمكن أن يفعل هذا بالقياس، وإنما وقف فيه على النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل.
وبهذا بيّن ابن رشد أقوال الفقهاء في هذه المسألة وهي: طروء الحدث، كما بيّن أيضًا ابن قدامة ما ورَد فيها.