صورتا زيادة الثقة، وأمثلتهما، والأدلة على قبولهما
صورة المسألة:
إذا روى جماعة من الرواة العدول والثقات حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم انفرد أحدهم بزيادة في ذلك الحديث لم يذكرها غيره من الرواة، فما الحكم في هذه الحالة؟ هل تقبل هذه الزيادة أو لا تقبل؟.
أمثلة لزيادة الثقة اللفظية والمعنوية:
وقبل ذكر مذاهب العلماء لا بد أن نذكر أنَّ الزيادة نوعان، زيادة الثقة التي ينفرد بها نوعان: زيادة لفظية، وزيادة معنوية.
أ. الزيادة اللفظية: هي الزيادة التي لا تؤثر في المعنى، ولا في الحكم الشرعي، ولأجل ذلك لم يهتم الأصوليون بها، بل اهتموا بالزيادة المعنوية.
ومثالها: ما أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وإذا قال -يعني: الإمام- سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد)).
وقد أخرج البخاري في صحيحه نفس الحديث السابق لكن عن طريق الزهري، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد)).
فالحديث الأول: ((فقولوا: ربنا لك الحمد))، والحديث الثاني: ((فقولوا: ربنا ولك الحمد)) بزيادة الواو، فقد ورد في رواية الزهري زيادة لفظة وهي: الواو، في قوله: ((لك الحمد)) بينما رواية ابن شهاب لم ترد فيها تلك الواو، فهذه الزيادة زيادة لفظية.
ب. الزيادة المعنوية: هي الزيادة التي تؤثر في المعنى، والحكم الشرعي.
أمثلتها: لها أمثلة كثيرة منها:
المثال الأول: ما أخرجه البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه: ((أنه لم يأنِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَخْضَب)) أي: لم يحن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخضب، ومعنى يخضب: هو خضاب اللحية بالحنَّاء، والكَتَم، والصفرة، يعني: يصبغ لحيته صلى الله عليه وسلم أو شعره بالحناء.
وأخرج النسائي في سننه عن أبي رمثة رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خضب)) وأخرجه أيضًا أبو داود في سننه عن ابن عمر، وعن أبي رمثة، والمقصود: خضاب اللحية بالحناء، والكتم، والصفرة، والكَتَم: نبت فيه حمرة يُخْضب به، أو هو نوع من النبات يستخدم في الخضاب.
فهنا قد ورد في حديث أبي رمثة زيادة وهي: ثبوت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خضب، وهذه الزيادة لم ترد في حديث أنس.
المثال الثاني: ما أخرجه البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه أيضًا، وأبو داود في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت ولم يصلِّ)) يعني: دخل الكعبة ولم يصلِّ.
وأخرج البخاري في صحيحه، ومسلم في صحيحه أيضًا، والبيهقي في (السنن الكبرى)، والإمام مالك في (الموطأ) عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت وصلى)) فهنا قد ورد في حديث ابن عمر زيادة وهي: أنه صلى داخل الكعبة، وهذه الزيادة لم ترد في حديث ابن عباس، ولا شك أن هذه زيادة معنوية، أي: لها تأثير في الحكم الشرعي.
أحوال الزيادة:
اعلموا أن انفراد الثقة بالزيادة له ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون الزيادة معارضة لما رواه سائر الثقات.
والحكم في هذه الحالة: أن ترد الزيادة، والعلة في ذلك: لترجيح رواية الثقات، فالعهد بالثقات العدول -وهم عدد كثير- أنهم لا يتركون هذه الزيادة التي انفرد بها هذا الراوي، لا سيما إذا كانت زيادة معارضة.
الحالة الثانية: أن تكون الزيادة ظاهرها التعارض مع رواية الثقات، ولكن يمكن الجمع بين هذه الزيادة وبين رواية الثقات.
ومثال ذلك حديث: ((وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا)) فقد تفرد أبو مالك الأشجعي عن سائر رواته فقال: ((وجعلت تربتها طهورًا))، فهذا ظاهره التعارض، ويمكن الجمع بينهما بأن المراد من التربة: الأرض، وهي الصعيد، أو أن المراد بالأرض: التربة، والصحيح في هذه الحالة قبول هذه الزيادة.
الحالة الثالثة: أن تكون الزيادة لا تخالف ما رواه الثقات أصلًا، فالحكم في هذه الحالة: قبول تلك الزيادة مطلقًا، سواء كانت في اللفظ فقط كزيادة الواو في: ((ربنا ولك الحمد))، أم في المعنى نحو: ((إذا اختلف المتبايعان -والسلعة قائمة- تحالفا وترادا))، بزيادة: “والسلعة قائمة”.
أدلة الجمهور على قبول زيادة الثقة:
وقد استدل ابن قدامة -رحمه الله- للجمهور على أن زيادة العدل الثقة في الحديث مقبولة مطلقًا بأدلة نسردها على نحو ما أوردها ابن قدامة في روضته:
الدليل الأول: القياس على قبول الحديث التام.
الدليل الثاني: يقول ابن قدامة -رحمه الله: “وغير ممتنعٍ أن ينفرد بحفظ الزيادة”، ومعنى هذا: أن انفراد الراوي الثقة العدل بحفظ زيادة في الحديث على ما رواه الآخر غير ممتنع عقلًا ولا شرعًا، بل هو ممكن وواقع، كما سبق أن بينا.
الدليل الثالث: أن الراوي للحديث التام -وهو من أتى بالزيادة- قد وصف بالعدالة والثقة، وهو حال الرواية جزم بتلك الرواية، ولم يوجد له مخالف، فهذا يغلب صدقه على كذبه، وإذا غلب صدقه على كذبه فلا يجوز حينئذ تكذيبه، وإذا لم يجز تكذيبه، فيجب قبول ما أتى به من الزيادة وهو المطلوب.
أما الحكم إذا عُلم أن السماع حصل في مجلس واحد فقد قال ابن قدامة -رحمه الله: “فإن عُلم أن السماع كان في مجلس واحد، فقال أبو الخطاب: يُقدم قول الأكثرين وذوي الضبط”، ومعنى ذلك: أنه إذا عُلم أن الحديث قد قيل في مجلس واحد فإنه يقدم قول الأكثرين ويقبل، سواء رووا الزيادة أو لا، وذلك تغليبًا لجانب الكثرة، فإن الكثرة عن الخطأ أبعد لا سيما إذا كان هؤلاء قد اتصفوا بصفات الراوي من عدالة، وضبط، وغيرهما.
الحكم إذا استوى الراويان في جميع الأمور:
يقول ابن قدامة -رحمه الله: “فإن تساويا في الحفظ والضبط قُدِّم قول المثبت”، وقال القاضي أبو يعلى: “إن تساويا فعلى روايتين”.
ومعنى كلام ابن قدامة : أنه إن تساوى راوي الحديث الناقص مع راوي الحديث التام وهو الذي فيه زيادة في الحفظ، والضبط، والعدالة، والثقة، وغيرها من شروط الراوي فقد اختلف العلماء في قبول تلك الزيادة التي أتى بها راوي الحديث التام على مذهبين:
المذهب الأول: أنه يُقدم قول المثبت لتلك الزيادة، أي: نأخذ بالزيادة ونعمل بها مطلقًا، وأدلة هذا المذهب هي نفس أدلة الجمهور الثلاثة التي سبق ذكرها.
المذهب الثاني: أنه يُقدم قول النافي لتلك الزيادة، بمعنى: أننا لا نأخذ بتلك الزيادة، ولا نعمل بها مطلقًا، وهذا المذهب أومأ إليه الإمام أحمد، كما أشار إلى ذلك أبو يعلى في (العدة)، وأشار إليها أبو الخطاب في (التمهيد)، وذهب إليه بعض أهل الحديث.
وقد استدل أصحاب هذا المذهب بأدلة كثيرة، وقد أجاب عنها العلماء، وليس هذا محل ذكرها نظرًا لقوة المذهب الأول.
ولا بد أن ننبه هنا إلى أن هناك مذاهب أخرى في المسألة، وقد توقف بعض الأصوليين؛ لأن الاحتمالات متكافئة ومتعادلة بين من روى الزيادة وبين من تركها، وما ذكرناه -والحمد لله- فيه كفاية.
وعند ختامنا للكلام على زيادة الثقة نذكر تذييلًا يذكره الأصوليون كتتمة للكلام في هذه المسألة، وحاصله:
أن الزيادة في الحديث قد تكون رافعة للإشكال، مزيلة للإجمال، والاحتمال، يعني: الحديث بدون زيادة فيه إشكال، وفيه إجمال، وفيه احتمال، فتأتي هذه الزيادة مزيلة لهذا الإشكال، والاحتمال.
وقد تكون هذه الزيادة دالة على إرادة القدر المشترك لا على خصوصية الزيادة أو ضدها.
فمثال ما تكون الزيادة فيه رافعة للإشكال، ومزيلة للإجمال والاحتمال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)) الحديث رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، فإن هذا اللفظ يحتمل لأن يكون معناه: أنه يدفع الخبث عن نفسه لقوته، ويحتمل أن معناه أنه يَضعف عن حمل الخبث لضعفه، فجاء الحديث عند الإمام أحمد وابن ماجه -انظروا إلى الزيادة: ((إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شيء)) فكانت هذه الزيادة رافعة للإشكال مزيلة للاحتمال.
أما مثال الزيادة التي تكون دالة على إرادة القدر المشترك لا على خصوصية الزيادة أو ضدها فقوله صلى الله عليه وسلم: ((طَهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات إحداهن بالتراب)) يعني: مُطهر إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، إحداهن بالتراب.
في بعض روايات الحديث: ((أولاهن بالتراب)) وفي رواية أخرى: ((أخراهن بالتراب)) ولا شك أن التقييد بالأولى، والأخرى تضاد لا سبيل معه إلى الجمع بين الروايتين، فكان ذلك دليلًا على إرادة القدر المشترك وهو: غسلة واحدة بتراب أيتهن كانت، وبهذا نكون قد أتينا على مسألة زيادة الثقة.
تحرير محل النزاع:
العلماء حرروا النزاع في هذه المسألة:
أولًا: رأوا أنَّ الحديث إن كان من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، يعنى: كان يتكلم بالكلام الموجز، لكنه يحمل معانٍ كثيرة.
فقد قال أهل العلم: إنَّ الحديث إذا كان من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم مثل حديث: ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر))، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار))، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((الخراج بالضمان))، فقد اتفقوا على أنه لا يجوز رواية هذا الحديث ولا نقله بالمعنى، بل لا بد من نقله بلفظه؛ لأنه لا يمكن درك جميع معاني جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: اتفق أهل العلم أيضًا على أن الحديث إذا كان مما يتعبد بلفظه كالأذان والتشهد فلا يجوز نقله بالمعنى، فالحديث الوارد في الأذان، والحديث الوارد في التشهد، لا يجوز نقله بالمعنى، بل لا بد من نقله بلفظه فقط، وهذا باتفاقٍ أيضًا.
ثالثًا: اتفق أيضًا أهل العلم على أن الحديث إذا كان من المتشابه الذي استأثر الله تعالى بعلمه، كأحاديث الصفات لا يجوز أيضًا نقله بالمعنى.
شروط نقل الحديث بالمعنى:
يقول ابن قدامة: فجمهور العلماء يرون جواز نقل الحديث بالمعنى بشروط:
الشرط الأول: أن يكون الناقل عارفًا بدلالات الألفاظ.
الشرط الثاني: أن يكون بغير زيادة، ولا نقصان في المعنى. وعلى ذلك إذا كان الناقل غير عارف بذلك فإنه يحرم عليه، هذا مذهب جمهور أهل العلم، فيرون جواز نقل الحديث بالمعنى بهذه الشروط. وقد نقل عن جماعة من السلف منع ذلك مطلقًا.
ومثال ذلك: ما أخرجه أبو داود في سننه، والترمذي في سننه، عن حذيفة رضي الله عنه: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة))، فيجوز لراوي الحديث بالمعنى إبدال لفظ: جلس، بلفظ: “قعد”.
ومثال ذلك أيضًا: حديث الأعرابي الذي بال في المسجد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صبوا على بول الأعرابي))، فيجوز أن تبدل لفظة: “صبوا”، بلفظة: “أريقوا”، وهكذا يجوز استبدال لفظٍ بلفظٍ آخر إذا أدى نفس معنى الحديث دون زيادةٍ ولا نقصان.
الشرط الثالث: قال فيه ابن قدامة: “ولا يجوز إلا فيما فهمه قطعًا، دون ما فهمه بنوع استنباطٍ، واستدلالٍ يُختلف فيه”.
الشرط الرابع: الذي أورده ابن قدامة قال: “ولا يجوز أيضًا للجاهل بمواقع الخطاب، ودقائق الألفاظ”.
وعلى ذلك إذا كان الناقل غير عارف بمواقع الألفاظ وبدلالات الألفاظ فإنه يحرم عليه، هذا مذهب الجمهور.
ونقل عن جماعة من السلف منع رواية الحديث بالمعنى مطلقًا، قال الفخر الرازي -رحمه الله- في (المحصول): “يجوز نقل الخبر بالمعنى، وهو مذهب: الحسن البصري، وأبي حنيفة، والشافعي رحمهم الله خلافًا لابن سيرين، وبعض المحدثين ولكن بشرائط ثلاث”.
فكلام الرازي -رحمه الله- في هذا يدل على أن في المسألة مذهبين: الأول وهو مذهب الجمهور: جواز نقل الحديث بالمعنى، والثاني وهو مذهب ابن سيرين وبعض المحدثين: لا يجوز.
ومن جوّز رواية الحديث بالمعنى اشترط شروطًا:
هذا نص كلام الرازي: “ولكن بشرائط ثلاث:
- ألا تكون الترجمة قاصرةً عن الأصل في إفادة المعنى”.
- ألا تكون فيها زيادة ولا نقصان.
- أن تكون الترجمة مساويةً للأصل في الجلاء والخفاء؛ لأن الخطاب تارةً يقع بالمحكم، وتارةً بالمتشابه لحكم وأسرار استأثر الله بعلمها، فلا يجوز تغييرها عن وضعها”.
أدلة المانعين، والجواب عنها:
وقد استدل القائلون بوجوب نقل الحديث باللفظ بأدلة:
الدليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فحفظها، فأداها، فربّ حامل فقهٍ غير فقيه، وربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه))، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وهو صحيح.
ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حث، وحرّض على نقل الحديث على الوجه الذي سمعه الراوي، وهذا إنَّما يتحقق إذا أداه بلفظه.
ويمكن أن يجاب عن هذا الدليل: بأن من نقل المعنى أدى الحديث كما سمعه، إذ المراد بتأديته تأدية معناه، ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ورب حامل فقهٍ))، فإنَّ الفقه يتعلق بالمعنى دون اللفظ.
الدليل الثاني: أن النقل بالمعنى يؤدي إلى الإخلال بالمقصود -يعني: بمقصود الحديث- كذا قالوا، وهذا يؤدي بالتدريج إلى طمس الحديث، فإنه لو نقل الحديث الأول بالمعنى لتغير الحديث، ثم بعد نقله كذلك في درجاتٍ أخرى وقع فيه تغيير زائد، ثم يزداد ذلك بالتكرار، وفي كل مرة يحدث تغير لاختلاف الأفهام، فيؤول إلى تغير فاحشٍ فيكون مفوتًا للمقصود، وإذا بطل هذا ثبت نقيضه وهو عدم رواية الحديث بالمعنى.
ويجاب عن هذا الاستدلال بأن فرض الكلام عدم تغيير المعنى ألبتة، لا بزيادة، ولا بنقصان، وإلا لم يكن جائزًا حينئذٍ.
الدليل الثالث: قالوا: لو صح النقل بالمعنى للزم تقليد الراوي وهو باطل.
وبيان هذا: أن المجتهد إنما اجتهد في لفظ الراوي، واستنبط الحكم منه لا من لفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال: بأننا لا نسلم تقليد الراوي، يعني: المجتهد لما اجتهد في لفظ الحديث المروي بالمعنى هو لم يقلد الراوي، إذ الراوي نقل معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذٍ فيكون التقليد لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث معنى كلامه قد رواه الراوي، أما إذا لم يكن ثمة معنًى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا نزاع أنه لا يجوز.
الدليل الرابع: وحاصله قالوا: إنَّ الراوي قد يفهم من اللفظ معنًى ويغفل عن آخر، فلا يكون قد وفى بالغرض حينئذٍ.
ويمكن أن يجاب عن هذا: بأن الكلام إنَّما هو مفروض في نقل المعنى من غير زيادة ولا نقصان، وعليه فمن غفل عن شيء من ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم فنحن لا نقبله.
أدلة الجمهور على جواز الرواية بالمعنى:
وقد استدل الجمهور على صحة أو جواز رواية الحديث بالمعنى بأدلةٍ كثيرة:
الدليل الأول: فما رواه الخطيب بسنده عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، تحدثنا بحديث لا نقدر أن نسوقه كما سمعناه، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدِّث)).
وهذا الحديث نص صريح في جواز رواية الحديث بالمعنى.
ووجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد رخص للذي لم يقدر أن يسوق الحديث كما سمعه حيث أصاب المعنى.
الدليل الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينقلون الواقعة الواحدة بألفاظٍ مختلفة في مجلس واحد، فهم يسمعون جميعًا من النبي صلى الله عليه وسلم لكن إذا أرادوا أن ينقلوا الحديث الذي سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم ينقلون الحديث بألفاظ مختلفة مع أنهم كانوا في مجلسٍ واحد، وسمعوا الحديث بلفظٍ واحد، ولم ينكر بعضهم على بعض، فدل ذلك على صحة نقل الحديث بالمعنى وهو المطلوب.
الدليل الثالث: لمن جوز رواية الحديث بالمعنى: قالوا: إن الصحابة ما كانوا يكتبون الأحاديث، ولا يكرون عليها، يعني: ما كانوا يكتبونها، ولا يرددونها، يعني: حفظًا، بل يروونها بعد أزمانٍ طويلة على حسب الحاجة، وذلك موجب لنسيان اللفظ مطلقًا، وهذا هو الذي تشهد به أحوال الصحابة والسلف، ولذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن أصبت المعنى فلا بأس)).
فالصحابة في أول الأمر كانوا يسمعون الأحاديث من النبي صلى الله عليه وسلم لا يقيدونها، ولا يكتبونها، وإنما كانوا يتركونها، ويروونها حسب الحاجة.
الدليل الرابع: قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله: “ومن أقوى حججهم: الإجماع على شرح الشريعة للعجم بلسانهم للعارف به، فإذا جاز الإبدال بلغةٍ أخرى، فجوازه باللغة العربية أولى”.
وبيان هذا الكلام: أنَّه أجمع العلماء على جواز نقل الشرع كله للعجم، وشرحه، وبيانه، بما يناسب لغتهم، ولسانهم، فإذا جاز إبدال لفظ عربية بلفظ أعجمية تناسبها وتساويها وترادفها، فكذلك يجوز إبدال لفظ عربية بلفظ عربية، ولا فرق بجامع استبدال لفظة بمرادفها دون زيادة ولا نقصان، بل إن إبدال لفظة عربية بلفظة عربية أولى وأقرب إلى الصواب من إبدال لفظ عربية بلفظةٍ غير عربية، لأن اللسان متحد في إبدال لفظةٍ عربية بلفظةٍ عربية، بخلاف إبدال لفظةٍ عربية بغير عربية فإن اللسان مختلف.
هذا من أقوى الأدلة وأقوى الحجج على جواز رواية الحديث بالمعنى.
وقد أورد ابن قدامة ستة أدلة في (الروضة) على جواز رواية الحديث بالمعنى.
وقد أجاب -رحمه الله- عن حديث: ((نضر الله امرأً)) الذي استدل به من منع رواية الحديث بالمعنى، بقوله: “والحديث حجة لنا، لأنَّه ذكر العلة وهو اختلاف الناس في الفقه والفهم، ونحن لا نجوزه لغير من يفهم”.
وأجاب بجواب آخر قال: “جوابٌ آخر: أن من روى بالمعنى فقد روى كما سمع، ولهذا لا يُعد كذبًا”.
الخلاصة:
لا نزاع بين أهل العلم في أن الأفضل هو رواية الحديث بلفظه، للحديث الذي تحفظونه جميعًا: ((نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فربّ مبلغ أوعى من سامع)).
كما أنه لا تجوز رواية الحديث بالمعنى فيما يتعبد بلفظه كالأذان، والتشهد، وفيما هو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم كقوله: ((لا ضرر ولا ضرار))، ونحو ذلك مما ذكرنا.
أما ما عدا ذلك فالمشهور عن الأئمة الأربعة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد: جواز رواية الحديث بالمعنى بشرط أن يكون الراوي عارفًا بمدلولات الألفاظ، واستدلوا على ذلك بـ: إجماع العلماء على جواز شرح أحكام الكتاب والسنة للعجم بلسانهم للعارف بذلك، فإذا جاز بلغة العجم فجوازه باللغة العربية أولى.
واستدلوا أيضًا: بما رواه الطبراني وغيره من حديث عبد الله بن سليمان الليثي قال: ((قلت: يا رسول الله، إني أسمع منك الحديث لا أستطيع أن أؤديه كما أسمع منك، أزيد حرفًا أو أنقص حرفًا، فقال: إذا لم تحلوا حرامًا ولم تحرموا حلالًا وأصبتم المعنى فلا بأس))، هذا مذهب الجمهور منهم الأئمة الأربعة.
ومنع من رواية الحديث بالمعنى بعض أصحاب الحديث مطلقًا، وهو مذهب أهل الظاهر، وهو أيضًا رواية عن الإمام أحمد.
واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري ومسلم من حديث البَراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت، فإن مت في ليلتك مت على الفطرة، قال -يعني: البَراء بن عازب: فرددتهن لأستذكرهن، فقلت: آمنت برسولك الذي أرسلت، فقال: قل: آمنت بنبيك الذي أرسلت))، فدل هذا الحديث على وجوب نقل اللفظ بصورته، وهذا من أدلة من منع رواية الحديث بالمعنى.
وقد يجاب عن هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بذلك للجمع بين لفظي: النبوة، والرسالة.