ضوابط أثناء النظر في النازلة
نتعرف في هذا العنصر على جملة من الضوابط التي تجب مراعاتها أثناء النظر في النازلة، وقد قمنا باختصار هذه الضوابط على النحو التالي:
أولًا: أن يبذل المجتهد قصارى جهده وكل وسعه في البحث عن الحكم الشرعي للنازلة؛ لأن هذه هي صفة الاجتهاد، فالاجتهاد معناه: أن تبذل قصارى جهدك ومنتهى وسعك، وذلك بتتبع طرق الاستنباط المعروفة، والجري في ذلك على سنن النظر المعهودة، فقد يجد الناظر الحكم منصوصًا عليه أو قريبًا منه، وقد يلجأ إلى القياس على الأدلة أو التخريج على أقوال الأئمة مع مراعاة عدم مصادمة حكمه للنصوص والإجماعات الأخرى السابقة أو مخالفتها للعقول الصحيحة والفطر السليمة، فهذا مسلم اعتباره في الشريعة.
ثانيًا: أن يراعي مقاصد الشريعة الضرورية والحاجية والتحسينية، فلا يجوز أن يكون الحكم للنازلة منافيًا لأي مقصد منها؛ لأن الشريعة لم توضع إلا لمقاصد ومصالح العباد، فيجب أن يكون الحكم في أي نازلة موافقًا لمقاصد الشريعة ومحققًا لها، والمقاصد الشرعية: هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، كما يدخل في هذا أيضًا معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثير منها، وقد يراد بالمقاصد أيضًا الغايات التي وضعتها الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد، إلى غير ذلك من التفاصيل المتعلقة بمراعاة مقاصد الشريعة.
ثالثًا: فقه الواقع المحيط بالنازلة، والمقصود بفقه الواقع المحيط بالنازلة أن يراعي الناظر تغير الواقع المحيط بالنازلة زمانيًّا أو مكانيًّا أو في الأحوال والظروف؛ لأنه باختلاف الظروف أو اختلاف الأحوال أو اختلاف الزمان أو اختلاف المكان يمكن أن تتغير الأحكام، ولذلك وجدنا الإمامين أبا يوسف ومحمدًا -رحمهما الله- يختلفان مع الإمام أبي حنيفة، ويعلق الفقهاء الحنفية على ذلك بقولهم: هذا اختلاف زمان أو اختلاف مكان، فينبغي بل يجب النظر إلى ذلك؛ لأن كثيرًا من الأحكام الشرعية الاجتهادية تتأثر بتغير الأوضاع والأحوال الزمنية والبيئية، فالأحكام الشرعية تهدف إلى إقامة العدل وجلب المصالح ودرء المفاسد، فهي ذات ارتباط وثيق بالأوضاع والوسائل الزمنية وبالأخلاق العامة، فكم من حكم كان تدبيرًا أو علاجًا ناجحًا لبيئة في زمن معين، فأصبح بعد جيل أو أجيال لا يوصل إلى المقصود منه، أو أصبح يفضي إلى عكسه بتغير الأوضاع والوسائل والأخلاق.
من أجل هذا أفتى الفقهاء المتأخرون من شتى المذاهب الفقهية في كثير من المسائل بعكس ما أفتى به أئمة مذاهبهم وفقهاؤهم الأولون، وصرح هؤلاء المتأخرون بأن سبب اختلاف فتواهم عمن سبقهم هو اختلاف الزمان، وفساد الأخلاق في المجتمعات، فليسوا في الحقيقة مخالفين للسابقين من فقهاء مذاهبهم، بل لو وجد الأئمة الأولون في عصر المتأخرين وعايشوا اختلاف الزمان وأوضاع الناس؛ لعدلوا إلى ما قاله المتأخرون، هذا عن فقه الواقع.
رابعًا: مراعاة العوائد؛ أي العادات والأعراف الخاصة بأهل البيئة التي نزلت فيها تلك النازلة، فالعادة محكمة وهذه قاعدة فقهية من القواعد الكبرى، فما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح، إذًا لا بد من مراعاة هذه القاعدة الكبرى في أحكام النوازل التي لا نصوص فيها؛ لأن ذلك يؤدي إلى تغير الأحكام الشرعية.
خامسًا: الوضوح والبيان في الإفتاء، بمعنى أن على كل من نظر في النازلة وتوصل إلى الحكم فيها أن يعلن حكمه بوضوح، وأن يبينه بتفسير وافٍ وأساس الاستنباط الذي قام عليه ذلك الحكم، ويتطلب ذلك مخاطبة الناس بلغة عصرهم التي يفهموها، ولذلك ينبغي للناظر في النازلة أن يعتبر نفسه عند الإجابة عنها مفتيًا ومعلمًا ومصلحًا وطبيبًا ومرشدًا حتى تبلغ فتواه مبلغها ويحصل أثرها بإذن الله.