ضوابط من يبحث في النازلة، وضوابط قبل النظر في النازلة
(أ) ضوابط من يبحث في النازلة:
نبحث أولًا في الضوابط التي يحتاجها ويلتزمها من يبحث في النازلة:
– على علماء الأمة أن يبحثوا عن الحكم الشرعي لأي نازلة، وأن ينقبوا عن حكم كل جديد؛ ليكون المسلم على وعي تام بما يجب عليه كمسلم، هذا أمر واجب.
ولا يتصدى لهذا البحث عن الحكم إلا من لديه القدرة على الاجتهاد، ومن يكون أهلًّا لذلك من العالمين بالقرآن والسنة وأقوال الصحابة والأئمة الفقهاء.
– حبذا لو كان الاجتهاد في الوصول إلى أحكام النوازل اجتهادًا جماعيًّا؛ من خلال المجامع العلمية والفقهية التي تضم الكفاءات العلمية اللازمة والقادرة على الفهم والاستنباط؛ فكما نعلم هناك اجتهاد فردي وهناك اجتهاد جماعي، الاجتهاد الجماعي أولى؛ لأنه يضم عددًا كبيرًا من العلماء ربما يمثلون العالم الإسلامي كله أو أغلبه؛ مثل: مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي، أو مجمع البحوث الإسلامية التابع لجامعة الأزهر في مصر، أو غيرهما من المجامع العلمية؛ كمجمع الفقه الأمريكي أو مجمع الفقه الأوربي أو الإفريقي وهكذا.
– يجب على من ينظر في النازلة ويصدر حكمه عليها أن يكون بالغًا، عاقلًا، عدلًا، عالمًا بلغة العرب وبالقرآن الكريم والسنة النبوية ومواطن الإجماع وضوابط القياس وشروطه، ويكون عالمًا أيضًا بالمصالح وكيفية مراعاتها ودرء المفاسد أيضًا.
– بجب أن يكون الناظر في النوازل على قدر كافٍ من اليقظة وجودة الذهن والمعرفة بالناس والمعرفة بالواقع المحيط به، وأن يكون صلبًا في دينه لا تأخذه في الله لومة لائم؛ حتى لا يجامل أحدًا من الحكام أو القيادات السياسية والتنفيذية.
تلك أدوات خاصة بمن يبحث في النازلة.
إذًا هذه كلها أدوات تجعل الحكم في النازلة يأتي محققًا لمقاصد الشرع ومصالح المكلفين؛ لأن الإفتاء بالحكم إخبار عن حكم الله، فلا بد أن يكون الباحث أهلًا لذلك.
ولو رجعنا إلى ما كتبه الدكتور صلاح الصاوي في كتابه (قضايا فقهية معاصرة) “صفحة 19-21” لوجدنا الكثير من هذه الضوابط، فقد أشار فضيلته تحت عنوان “شروط المفتي في النوازل المعاصرة” قال: “يجب أن يكون الذي ينظر في النازلة ويصدر حكمه عليها بالغًا، عاقلًا، عدلًا، عالمًا بلغة العرب وبالقرآن محكمه ومتشابهه، مجمله ومبينه، عامه وخاصه، مطلقه ومقيده، ناسخه ومنسوخه”.
فكذلك يجب أن يكون عالمًا بالسنة النبوية، وبالروايات المتعددة، وبالرجال المجروح منهم والعدل، وغير ذلك مما يتصل بعلوم القرآن، وغير ذلك مما يتصل بالإجماع أو بالقياس أو بالمصالح أو نحو ذلك مما أشرنا إليه.
إذًا يتعلق بالناظر في النوازل شروط جمة؛ منها: العلم والعدالة؛ فشرط العلم يدخل فيه الإخبار بالحكم الشرعي على الوجه الأكمل، وشرط العدالة يدخل فيه عدم التساهل في الفتوى بالشرع والمحاباة فيها، مع مراعاة وجه الحق فيها والنظر إلى مشكلات الناس برحمة ويسر الشرع، وحمل أفعالهم على الوسط في أحكامه.
(ب) مجموعة من الضوابط قبل النظر في النازلة:
وأهم الضوابط التي يحتاجها الناظر في النوازل قبل الحكم فيها هي ما يلي:
أولًا: التأكد من وقوع النازلة وحدوثها؛ لأن هذا هو الأساس في تسميتها، وأساس الاجتهاد في حكمها، فلا مجال للتخيل والافتراض في هذه النازلة، بل يكره النظر في مسائل لم تنزل أو يستبعد وقوعها، كما يكره السؤال عما لم يقع لورود النهي عن ذلك.
ثانيًا: أن تكون النازلة من المسائل التي يسوغ النظر فيها حتى لا يشتغل المجتهد بنفسه أو مع غيره -إذا كان الاجتهاد جماعيًّا- فيما لا يفيد، وإنما يشتغل بما ينفع الناس ويحتاجون إليه في واقع دينهم ودنياهم، كما لا ينبغي ولا يجوز الاشتغال بما ورد فيه النص؛ فهذا محسوم؛ إذ القاعدة أنه لا مساغ للاجتهاد في مورد النص، والذي يسوغ النظر فيه من المسائل أمور أخرى غير مورد النص، مثل: أن تكون المسألة غير منصوص عليها بنص قاطع أو مجمع عليها؛ أو أن يكون النص الوارد -إن وجد- محتملًا قابلًا للتأويل، فيسوغ النظر فيها.
ثالثًا: أن تكون المسألة مترددة بين طرفين؛ الإثبات والنفي، إذًا يسوغ الاجتهاد لنرجح أحد الأمرين، إما الإثبات أو النفي.
رابعًا: ألا تكون المسألة من مسائل أصول العقيدة؛ لأننا نتكلم في الفقه وليس في العقيدة، أو من المتشابه من القرآن؛ لأن الله تعالى قال عن المتشابه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} [آل عمران: 7].
خامسًا: أن تكون المسألة من النوازل والوقائع أو مما يمكن وقوعها في الغالب.
هذا عن التأكد من وقوع النازلة وعن أن تكون النازلة من المسائل التي يسوغ النظر فيها.
سادسًا: فهم النازلة فهمًا دقيقًا وتصورها تصورًا صحيحًا، والتعرف على جميع جوانبها وأبعادها وظروفها وأصولها وفروعها ومصطلحاتها وغير ذلك مما له تأثير في الحكم فيها؛ كما جاء في كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.
وهناك تفاصيل في بيان ما يتعلق بهذا الضابط -وهو فهم النازلة- وكلام آخر لابن القيم -رحمه الله تعالى- يحسن الرجوع إليه لمعرفة محتواه.
سابعًا: التثبت والتحري واستشارة أهل الاختصاص حتى لا يكون النظر قاصرًا أو يكون الحكم خاطئًا؛ فالتأني والتحري -مهما استغرق ذلك من الأيام والليالي والشهور والسنين- واستشارة أهل الاختصاص؛ ضروري خصوصًا في أبواب الطب والاقتصاد والفلك؛ لأن من موضوعاتنا معرفة حكم الصلاة والصيام ومواقيت كل منهما في البلاد التي يطول فيها النهار أو يقصر، وهذا يحتاج إلى الاستعانة بأهل الاختصاص في الفلك، وكذلك أمور الاقتصاد تحتاج إلى رأي أهل الاقتصاد، والأمور الطبية تحتاج إلى معرفة آراء الأطباء؛ لأن إغفال مشورة هؤلاء المختصين يؤدي إلى الخطأ في الحكم.
ثامنًا: الالتجاء إلى الله تعالى وسؤاله الإعانة، وطلب العون والتوفيق من الله -تبارك وتعالى- كما نقرأ في سورة “الفاتحة” في صلواتنا كلها {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين} [الفاتحة: 5]، والبعد عن الهوى ومجاملة الناس.