طواف الوداع والعودة إلى المدينة، وبعثه صلى الله عليه وسلم بأسامة لغزو الروم وأعوانهم، ومرضه صلى الله عليه وسلم
أ. طواف الوداع والعودة إلى المدينة:
حرص صلى الله عليه وسلم أن يكون الطواف آخر عهد الناس بالبيت؛ لأنهم كانوا قبل ذلك ينصرفون من كل وجه كما قال ابن عباس، وهذا من الأمور التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حجه للناس.
وبعد هذا توجه النبي صلى الله عليه وسلم عائدًا إلى المدينة بعد أن أتم هذا النُسك وبين للناس حجهم، وكان آخر لقائه للناس وآخر عهده بمكة صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه الحجة من التشريع والبيان الذي تضمنته وكانت بيانًا واضحًا وتطبيقًا رحيمًا منه صلى الله عليه وسلم في أداء هذا الحج، وما يجب على المسلمين أن يتخلقوا به وأن يلتزموه في أداء مناسك الحج حتى يوم القيامة.
وبعد؛ فهذه هي حجة الوداع التي حجها النبي صلى الله عليه وسلم وسميت بذلك لوداعه صلى الله عليه وسلم الناس فيها لقوله: ((خذوا عني مناسكم، لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) كما أنها سميت: حجة البلاغ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقول لخطبه للناس فيها: ((ألا هل بلغت)) ثم يقول: ((اللهم فاشهد)) كما سميت: حجة الإسلام؛ لأنها التي حجها صلى الله عليه وسلم بعد فرض الحج لم يحج صلى الله عليه وسلم غيرها؛ لأن الحج فرض في السنة التاسعة أو العاشرة على خلاف وإن كان أصحها هو الأول والنبي صلى الله عليه وسلم كان يباشر الحج من قبل الإسلام ومن قبل الهجرة وأنه حج حججًا كثيرة كما يقول ابن الجوزي: بل إنه صلى الله عليه وسلم كان يحج قبل البعثة، وهذا ما ذكره جبير بن مُطعِم لما رآه صلى الله عليه وسلم واقفًا بعرفة أيام الجاهلية وكان هذا من توفيق الله عز وجل؛ لأن قريشًا لم تكن تقف بعرفات؛ لأنها لا تريد أن تقف في المشاعر من الحِل وعرفات منها.
وهكذا تمت هذه الحجة المباركة ووصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحُليفَة عائدًا بعد أن أدى نسكه فبات بها ثم دخل المدينة صلى الله عليه وسلم وقد أدى هذا الحج، وبقي في المدينة بعد ذلك نحوًا من واحد وثمانين يومًا كانت فيها ختام الأعمال التي أتم الله بها هذا العمر الكريم المبارك الذي هدى الله به أمة الإسلام والناس جميعًا.
ب. بعثه صلى الله عليه وسلم بأسامة لغزو الروم وأعوانهم:
وكان من أهم الأعمال التي قام بها صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة هو بعث أسامة الذي وجهه لغزو الروم وأعوانهم أخذًا بثأر شهداء مؤته، فإنه صلى الله عليه وسلم أقام بعد حَجه في المدينة بقيّة ذي الحجة والمحرم، ولما جاء يوم الاثنين لأربع ليالٍ بقين من صفر، أمر النبي صلى الله عليه وسلم للتهيؤ لغزو الروم وأمر الناس بالجد في ذلك ثم دعا من الغد أسامة بن زيد فقال: يا أسامة، سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى موضع مقتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك على هذا الجيش فأغر صباحًا على أَهْلِ أُبْنَى وَحَرّقْ عَلَيْهِمْ وَأَسْرِعْ السّيْرَ تَسْبِقْ الْخَبَرَ فإن أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون والطلائع أمامك.
ج. مرضه صلى الله عليه وسلم:
فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر بدأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فحمّ وصدع صلى الله عليه وسلم فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواءً بيده ونصحه وأمره بالغزو في سبيل الله، فخرج أسامة رضي الله عنه بلوائه معقودًا فدفعه إلى بُريدَة بن الحصيب الأسلمي وعسكر بالجرف وهو على ثلاث أميال من المدينة ولم يبق أحدًا من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في هذه الغزوة؛ منهم أبو بكر والصديق وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من وجوه الأنصار والمهاجرين.
د. كلام الناس في إمارة أسامة وموقفه صلى الله عليه وسلم من ذلك:
ثم إنه صلى الله عليه وسلم اشتكى وزاد وجعه ثم وجد من نفسه راحة، فخرج عاصبًا رأسه، وأمر الناس أن ينفذوا بعث أسامة، وهنا كره بعض الناس إمارة أسامة لصغر سنه، وكان ممن تحدث في هذا عياش بن أبي ربيعة المخزومي الذي قال: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين، وكثرت المقالة، وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعض ذلك فرده على من تكلم به تسليمًا بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وانقيادًا له.
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فغضب غضبًا شديدًا وخرج يوم السبت العاشر من ربيع الأول، وقد عصب رأسه بعصابة، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد فما مقالة قد بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة بن زيد ولئن طعنتم في إمارتي أسامة، لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وايم الله إن كان للإمارة لخليق، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي وإنهما لمخيلان لكل خير فاستوصوا به خيرًا فإنه من خياركم)) ثم نزل فدخل بيته صلى الله عليه وسلم وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيهم عمر بن الخطاب، ويمضون إلى المعسكر بالجرف، وهنا دخلت أم أيمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لو تركت أسامة يقيم في معكسره حتى تتماثل فإن أسامة إن خرج على حاله هذا لم ينتفع بنفسه، فقال: انفذوا بعث أسامة، فمضى الناس إلى المعكسر فباتوا ليلة الأحد.
وجاء أسامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم، وقد اشتد به الألم وزاد عليه المرض فدخل عليه وعنده الناس والنساء حوله، فطأطأ عليه أسامة فقبله والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم، وجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة كأنه يدعو له، ثم رجع أسامة إلى معسكره استعدادًا للخروج لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ولما دخل يوم الاثنين وهو اليوم الذي توفي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أصبح فيهم مفيقًا صلى الله عليه وسلم وجاءه أسامة فقال له: اغد على بركة الله فودع أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج إلى معسكره لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقًا، وهنا دخل أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله أصبحت مفيقًا بحمد الله، واليوم يوم بنت خارجة، فأذن لي، فأذن له صلى الله عليه وسلم فذهب إلى بيته بالسُنح وهي منازل ابن الحارث بن الخزرج بالمدينة.
وركب أسامة إلى العسكر وصاح في أصحابه باللحوق به، ولما انتهى إلى المعسكر وأمر الناس بالرحيل، وبينما هو على ذلك الأمر أتاه رسول من أمه أم أيمن يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت، فأقبل إلى المدينة وأقبل منه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه فتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم ومن ثم دخل المسلمون الذين عسكروا بالجُرف إلى المدينة ورجع بُريدة بن الحُصَيب باللواء معقودًا بعقدة النبي صلى الله عليه وسلم فغرسه عند باب الرسول صلى الله عليه وسلم.
هذا البعث للجهاد في سبيل الله في هذا الميدان العظيم ميدان الشام، وأمر البعث بعد ذلك هو الذي سيتولاه أبو بكر حتى يكون أول أمر يباشره بعد أن ولي أمر المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك هذا البعث كان وصْلة الخير في العمل بين عمل النبي صلى الله عليه وسلم وعمل أبي بكر فإذا كان هذا البعث آخر عمله صلى الله عليه وسلم فقد كان أول أعمال أبي بكر رضي الله عنه الذي أصر على إنفاذه وعلى أن يسير هذا البعث في عقدة اللواء التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم بيمينه حتى يكون له بركة النصر -إن شاء الله.
إذا كان هذا البعث بعث أسامة آخر أعماله صلى الله عليه وسلم وهو الذي اهتم به وهو في مرض وفاته، وقرر الأمر بإنفاذه، ولم يخرج البعث بوفاته صلى الله عليه وسلم التي كانت مصاب المسلمين جميعهم وكانت في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول بعد نحو من عشرة أيام أو تزيد قليلًا من المرض الذي نزل به صلى الله عليه وسلم وكان مرض الوفاة.