Top
Image Alt

طُرُق تلقِّي الصحابة للسُّنّة بَعْد وفاته صلى الله عليه وسلم وتثبُّتهم في قبول الحديث

  /  طُرُق تلقِّي الصحابة للسُّنّة بَعْد وفاته صلى الله عليه وسلم وتثبُّتهم في قبول الحديث

طُرُق تلقِّي الصحابة للسُّنّة بَعْد وفاته صلى الله عليه وسلم وتثبُّتهم في قبول الحديث

أمّا بالنسبة لتلقِّي الصحابة للسُّنّة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فإنّنا نجدهم  إضافة إلى ما سبَق ذِكره- يسلكون مجالات أخرى للعناية بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والحفاظ عليها؛ مِن ذلك: حِفظُها، والتثبتُ من ذلك؛ حتى كان أحدهم يرحل في الحديث الواحد مسافة شهر ليتثبّت مِن حِفْظه، وكذلك كتابتها في الصّحف والأجزاء، ثم نَشْرها بيْن الناس، وغيرُ ذلك من المجالات… كل ذلك وفْق منهج عِلْميّ دقيق.

لقد استشعر الصحابة الكرام  عظم المسئولية المُلقاة على عواتقهم لِحِفظ الشريعة -كتابًا وسُنّةً- وتطبيقِها، ثم تبليغها إلى الأمة؛ أداءً للأمانة التي اختيروا لها، كما أدّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم.

وقد كانوا  خيْر مَن حمَل هذه الأمانة، وخيْر مَن أدّاها بعد النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا الاستشعار لعظم المسئولية مُنطلِقًا ممّا وَعَوْه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: ((بلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً، وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ))، وقوله: ((نَضَّرَ اللَّهُ امْرأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا؛ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ!)).

وكذلك في مثْل قوله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ!))، وقوله: ((كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ))، وقوله: ((مَن حدّثَ عنِّي بحديث يرى أنه كَذِبٌ، فهو أحَد الكذّابِين)). وغير ذلك مِن الأحاديث…

لذلك كلِّه، كان الصحابة  مع حِرْصهم على تبليغ دين الله للأمّة، شديدي التّحري والتّثبّت فيما يرْوُونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا لا يحدِّثون بشيء إلاّ وهُم واثقون مِن صحّته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يَقبَلون مِن الأخبار إلاّ ما عرَفوا صِحّته وثبوتَه.

نماذج من تثبُّت الصّحابة وشدة تحريهم في رواية الحديث:

  1. عن أنس رضي الله عنه قال: لولا أنّي أخشى أنْ أُخطِئ، لحدّثْتُكم بأشياء سمعتُها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أني سمعته يقول: ((مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ)).
  2.  عن ابن سيرين، قال: كان أنَس قليل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان إذا حدَّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  3. عن الشّعبيّ وابن سيرين: أنّ ابن مسعود كان إذا حدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأيام، تَربَّد وجهُه، وقال: وهكذا أو نحوه، وهكذا أو نحوه.
  4. عن الشّعبيّ، قال: “جالستُ ابن عمر سَنَة، فلم أسمعه يَذكُر حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
  5. قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: “أدركتُ مائة وعشرين مِن الأنصار مِن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما منهم أحَد يُحدِّث بحديث إلاّ ودّ أنّ أخاه كفاه إيّاه، ولا يُستَفْتَى عن شيء إلاّ ودّ أنّ أخاه كفاه إيّاه”.

وفي رواية: “يُسأل أحدهم المسألة، فيَردّها هذا إلى هذا، حتى تَرجع إلى الأوّل”.

  • عن السائب بن يزيد، قال: “خرجتُ مع سعد إلى مكة، فما سمعته يُحدِّث حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رجعنا إلى المدينة”.
  • عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: “قلنا لزيد بن أرقم: حدِّثْنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كَبرْنا ونسِينا؛ والحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد”.

نماذج من تثبُّت الصّحابة وشدة تحريهم في قبول الحديث:

كما كان احتياط الصحابة في التحديث، احتاطوا وتثبّتوا كذلك في قبولهم الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنعرض هذا فيما يلي:

1. تثبت أبي بكر الصِّدّيق في قبول الأخبار:

كان أبو بكر رضي الله عنه قُدوة حَسَنة للمسلمين في المحافظة على السُّنّة، والتّثبُّت في قبول الأخبار؛ خشية أن يقَع ويقَع المسلمون في خطأ يُؤدّي بهم إلا ما لا تُحمد عقباه.

وسأورد بعض الأخبار التي تُبيِّن لنا طريق الصحابة ومنهَجَهم في ذلك.

  • قال الحافظ الذّهبيّ: كان أبو بكر رضي الله عنه أوّل مَن احتاط في قبول الأخبار؛ فروى ابن شهاب عن قبيصة بن ذؤيْب: أنّ الجَدّة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أنْ تورَّث، فقال: ما أجِد لكِ في كتاب الله شيئًا، وما علمتُ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكَر لكِ شيئًا, ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعطيها السّدس، فقال له: هل معك أحَد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمِثْل ذلك، فأنفذه لها أبو بكر.

ب. عن يونس بن يزيد، عن الزهري: أنّ أبا بكر حدَّث رجلًا حديثًا، فاستفهمَه الرجُلُ إيّاه، فقال أبو بكر: “هو كما حدثْتُك. أيّ أرْضٍ تُقِلُّني إذا أنا قُلتُ ما لمْ أعْلَمْ!؟”.

2. تثبّت عُمر بن الخطاب في قبول الأخبار:

  • روى الإمام البخاري، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنت في مجلس مِن مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنْت على عُمر ثلاثًا، فلم يُؤذَن لي، فرجعت. فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنْتُ ثلاثًا فلم يُؤذنْ لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا استأذن أحدُكم ثلاثًا فلمْ يُؤذَنْ له، فَلْيرْجِعْ!)). فقال: والله لتُقيمَنّ عليه ببيِّنة! أمِنْكم أحَدٌ سمِعه مِن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أُبَيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم! -فكنت أصغر القوم- فقمت معه, فأخبرت عُمر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك, فقال عُمر لأبي موسى: أمَا إنّي لمْ أتَّهِمْك، ولكن خشيت أنْ يتقوّل الناس على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

ب.روى مسلم عن المسْور بن مخرمة، قال: استشار عمر بن الخطاب الناس في إِمْلاَصِ المرأة، فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرّة: عبد أو أمَة. قال: فقال عمر: ائتِني بمَن يشهد معك. قال: فشهد له محمد بن مسلمة.

جـ.عن مالك بن أوس، قال: سمعت عمر يقول لعبد الرحمن بن عوف، وطلحة، والزبير، وسعد: نشدْتُكم بالله الذي تقوم السماء والأرض به، أعَلِمتم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنّا لاَ نُورَث؛ ما تركْنا صدَقة)). قالوا: اللّهم نعم!.

3. تثبّت عثمان رضي الله عنه في قبول الأخبار:

عن بسر بن سعيد، قال: أتى عثمان المقاعد، فدعا بوَضوء، فتمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثًا، ويديْه ثلاثًا ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ورجليْه ثلاثًا ثلاثًا. ثم قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا يتوضأ. يا هؤلاء، أكذاك؟ قالوا: نعم، لِنَفَر مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده.

4. تثبّت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه في قبول الأخبار:

عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كنت إذا سمعتُ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه. وإذا حدّثني غيرُه استحلفْتُه، فإذا حلَف لي صدَّقْته. وإنّ أبا بكر حدّثني، وصدَق أبو بكر: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما مِن رجُلٍ يُذنِب ذنْبًا، فيتوضّأ فيُحسِن الوُضوء، ويُصلِّي ركعتَيْن فيستغفر الله عز وجل إلاّ غفر له)).

وممّا سبق، يتّضح بجلاء: أنّ السُّنّة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت محفوظةً عند الصحابة جنْبًا إلى جنْب مع القرآن الكريم؛ وإن كان نصيب كلّ صحابيّ منها يختلف عن نصيب الآخر: فمنهم المُكثِر من حِفْظها، ومنهم المُقِلّ، ومنهم المتوسِّط في ذلك. ومِن ثَمّ، نستطيع تأكيد أنهم قد أحاطوا بالسُّنّة، وتكلّفوا بنقلها إلى التّابعين.

ويُخطئ مَن يدّعي أنّ بعض السُّنن فات الصحابةَ جميعًا، بعد أنْ رأينا مدَى عنايتهم بها، وحرْصهم عليها, فكيف يغيب عنهم شيء منها؟ وهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نيِّفًا وعشرين عامًا قبل الهجرة وبعدها، فحفظوا عنه أقواله وأفعاله، ونومه ويقظته، وحركته وسكونه، وقيامه وقعوده، واجتهاده وعبادته، وسيرته، وسراياه ومغازيه، ومزاحه، وزجْره، وخُطَبه، وأكْله وشُربه، ومعاملته أهلَه، وتأديبه فرسَه، وكُتبه إلى المسلمين والمشركين، وعهوده ومواثيقه، وألحاظه وأنفاسه، وصفاتِه؛ هذا سوى ما حفظوا عنه مِن أحكام الشريعة، وما سألوه عن العبادات، والحلال والحرام، أو تحاكموا فيه إليه؛ فكانوا بحقٍّ خيْر خلَف لخيْر سلَف.

error: النص محمي !!