ظاهرة الوضع في الحديث وتصدي العلماء لها
في هذه الفترة ظهرت قضية الوضع في الأحاديث النبوية، ونِسْبتها كذبًا وزورًا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وظهر أيضًا قضيّة الوضع والانتحال لكثير من الأقوال المنسوبة إلى آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الإمام علي بن أبي طالب، وإلى الإمامين الجليليْن العظيميْن: الحسن والحسين؛ استغلالًا لعاطفة المسلمين وحبِّهم لأهل البيت. ترتّب على هذا: أنّ أئمّة السُّنة والجماعة بدءوا يواجهون هذه الحملات بوضع مؤلّفات كثيرة تحمل عناوين لها دلالة في غاية الأهمية.
سوف أتناول هذه المجموعة من الكتب الآن؛ لأنها تمثِّل الرصيد الثقافي والإسلامي لمواجهة هذه الحملات التشكيكية التي ظهرت في القرن الثالث الهجري.
ظهرت مجموعة من الكتب تحمل اسم “السُّنة”، دلالةً على أنّ ما عدا هذا ليس من السُّنة. فظهر كتاب “السُّنة” للإمام أحمد بن حنبل، وظهر كتاب “السُّنة” للخلال، وظهر كتاب “السُّنة” للأثرم، والطلمنكي، وغيرهم وغيرهم، مجموعة كبيرة جدًّا من المؤلفات ظهرت تحت عنوان: “السنة”، لتُعْلم المسلمين: أن العقائد التي لا ترتكز على ما جاء في هذه الكتب ليست من السُّنة، وإنما هي ممّا أثاره المشكِّكون والمحرِّفون لكتاب الله، والذين تولّوا قضية الوضع والدس على الرسول وعلى آل البيت.
المجموعة الأولى تحمل اسم: كتاب “السنة”.
المجموعة الثانية تحمل عنوان: “الإبانة”.
فظهر كتاب “الإبانة” للإمام ابن بطة العكبري. وظهر كتاب “الإبانة” لأبي الحسن الأشعري. وظهر كتاب “الإبانة” لغيرهما، دلالةً على: أنّ العقائد الصحيحة هي المدوّنة تحت هذه العناوين، وما عداها لا ينبغي أن يَهتمّ به المسلمون؛ لأنه مأخوذ من عقائد محرّفة.
كما ظهرت مجموعة أخرى تحمل عنوان: “الرّدّ”، على المشكِّكين. هؤلاء المشكِّكون كانوا جماعات متنوّعة، منهم من أُطْلِق عليهم: “الجهميّة”. فكتب في الرد على الجهمية، الذين تولّوا إثارة شبهات حول العقيدة الإسلامية، ظهر كتاب “الرد على الجهمية” للإمام أحمد بن حنبل، “الرد على الجهمية” لبشر بن سعيد المريسي، ولغيرهما كتب بهذا العنوان.
وظهرت كتب بعنوان: “الرد على الزنادقة”، “الرد على المعطِّلة”.
وكلمة: “الرد” هذه تعني: المواجهة المباشرة، إبطال حُجّة بحُجّة، إبطال رأي برأي، إبطال فكرة بفكرة؛ ولذلك نجد أن الأفكار التي أثيرت في بدايات القرون الأولى للإسلام ظلّت هذه الأفكار معشّشة وموجودة في تراثنا الإسلامي تجد من يتناولها بين الحين والآخر، ويعمل على إثارتها بين الحين والآخر بقصد تفريق صفوف المسلمين، وخاصةً إثارة النعرات والعصبيات بين أصحاب الانتماءات المذهبية، بين الفِرَق الإسلامية بالذات.
من هنا نستطيع أن نقول: إنّ المواجهة الفكرية استمرّت على طول التاريخ الإسلامي، لكنها كانت تتلوّن بألوان مختلفة حسب نوع الثقافة المثارة في العصر، وحسب القضايا المثارة في العصر، وحسب مستوى المفكِّرين الذين يتناولون هذه القضايا في كل عصر، وحسب احتكاكات الثقافة الإسلامية بغيرها من الثقافات المختلفة؛ لكن كل هذه الأفكار والشكوك والشبهات التي ثارت في القرون الثلاثة الأولى أو الأربعة الأولى للإسلام أو للهجرة النبوية يمكن أن نطلق عليها: غزْوًا داخليًّا، أو مشكلات داخلية، أو قضايا داخلية أثارها بعض الذين دخلوا الإسلام، واعتنقوا الإسلام لا عن عقيدة راسخة، ولا عن إيمان صحيح، وإنما بقصد إثارة الشكوك والشبهات في داخل الإسلام من داخل النصوص الإسلامية.
لكن في القرون المتأخِّرة، وخاصةً بعد الحروب الصليبية، وبعد احتكاك المسلمين بأوربا بالذات وبالغرب، ظهرت ملامح وعلامات وأمارات جديدة تمثِّل وتجسِّد موقف الغرب من الإسلام ومن المسلمين. وهذه العلامات أو الأمارات الجديدة أو المواقف الجديدة ترتّبت على فشل الحروب الصليبية في تحقيق أهدافها من الاستيلاء على بيت المقدس، وغزو الإسلام في عقر داره.
ونتيجة فشل الحروب الصليبية في تحقيق أهدافها، بدأ الغرب يفكِّر في كيفية النَّيْل من الإسلام ومن المسلمين عن طريق إثارة وتكرار الشُّبهات والشكوك التي أثارها اليهود والنصارى حول الإسلام في القرون الأولى للهجرة.
ظهرت ظاهرة الاستشراق، وظاهرة التنصير -المشهورة بالتبشير- ولن أتكلّم عن هاتين الظاهرتين تفصيلًا الآن، لكن الذي أودّ أن أؤكِّده هنا: أنّ القضايا التي أثارها المستشرقون، والشبهات التي تناولوها لم تكن جديدة على الفكر الإسلامي، ولم تكن جديدة على تاريخ الثقافة الإسلامية. ولو تناولناها واحدةً تلوَ الأخرى فسوف نجد أنّ كل الشكوك والشبهات التي تناولها المستشرقون تناولَها المشركون، وتناولها اليهود في صدر الإسلام، ووجدت في وقتها وفي حينها من يتولّى الرد عليها ويفنِّدها شبهةً شبهة.
لكن بظهور الاستشراق، وتجسيد أعمال المستشرقين في واقع العالم الإسلامي وفي الأرض الإسلامية، ظهرت ملامح جديدة وتوجهات جديدة لموقف الغرب من الإسلام عمومًا، ومن العقيدة الإسلامية، ومن القرآن الكريم. وتجسّدت هذه المواقف في موقف المستشرقين من الإسلام، وفي نشاط المنصرين -المبشِّرين- في العالم الإسلامي، وفي موقف ساسة أوربا عمومًا، واعتناقهم واحتضانهم لآراء وأفكار المستشرقين، ومحاولة تطبيق منهج الاستشراق على واقع العالم الإسلامي، وعلى الأقطار الإسلامية بلدًا بلدًا وقطرًا قطرًا.