ظهور البدع وموقف المحدثين من ذلك
جرت حوادث وظهرت أمور في أواخر عهد الصحابة؛ اقتضت الفصل بين من يقبل حديثه ومن يردّ، وألزمت بالكشف عن مصدر الحديث، ودعت إلى الاختلاف في قبول الحديث المرسل والحكم على مراسيل التابعين.
وسنتكلم عن أهم البدع التي ظهرت، وهي: بدعة الخوارج، وبدعة الشيعة، وبدعة المرجئة، وهناك بدع أخرى سنتناولها سريعًا.
لقد بدأت الحوادث منذ عهد عمر -رضي الله عنه-, ففي ترجمة عبد الرحمن بن ملجم المرادي يقول الذهبي: كان عابدًا قانتًا، ولكنه خُتم له بشرٍّ؛ فقتل أمير المؤمنين عليًّا -رضي الله عنه-. قال ابن يونس: وكان قبل ذلك من شيعته.
شهد فتح مصر واختطّ بها، وكان من قراء القرآن، قرأ على معاذ بن جبل، وكان من العُبَّاد، كتب عمر إلى عمرو بن العاص أن قرب دار عبد الرحمن بن ملجم من المسجد؛ ليعلّم الناس القرآن والفقه، فكان داره إلى جنب دار ابن عديس.
ونقل ابن يونس: هذا من الأخبار لابن عفير وربيعة الأعرج، وغيرهما من علماء مصر بالأخبار، ويقال: إنه كان أرسل صبيغ بن عسل إلى عمر يسأل عن مشكل القرآن، روى الدارمي بسنده عن نافع مولى ابن عمر أن صبيغًا العراقي جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين حتى قدم مصر، واختيار الأجناد لتشكيكهم ولسلامة طويتهم وبعدهم عن الجدال، فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب.
فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه قال: أين الرجل؟ فقيل: في الرحل. قال عمر: أبصر أن يكون ذهب؛ فتصيبك مني العقوبة الموجعة. فأتاه به, فقال عمر: تسأل محدثة؟ فأرسل عمر إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة -أي: ممتلئًا بالقروح- ثم تركه حتى برئ ثم عاد له، ثم تركه حتى برئ، فدعا به ليعود له، فقال له صبيغ: إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلًا جميلًا، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت. فأذن له إلى أرضه -أي: بالعراق- وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت توبته، فكتب عمر أن يأذن للناس في مجالسته.
وبينت رواية أخرى أنه كان يسأل عن متشابه القرآن، كالذاريات والمرسلات، ونحو ذلك, أي: إنه كانت هناك شبكة في البلاد الإسلامية مجهزة لتشكيك المسلمين، تنتقل من مكان إلى مكان، واستطاعت التأثير حتى في أبطال من أبطال الفتح الإسلامي.
ويحتاج الكلام على ظهور البدع وأهلها وانحرافها عن منهج الحديث، ومحاولتها تشويهه أو إفساد الأسس التي يقوم عليها؛ إلى دراسات متمعنة تظهر منهج المحدثين في مواجهة ذلك، وفي تخليص الحديث من التأثر بشيء منه، وكان للعلماء جهود بارزة في هذا المجال.
روى ابن عساكر بسنده إلى كثير بن مروان أنه قال: سألت جعفر بن برقان عما اختلف الناس فيه في أمر عثمان وعلي وطلحة والزبير ومعاوية، وعن قول العامة في ذلك، فقال جعفر بن برقان: قال ميمون بن مهران: قُبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فبايع أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كلهم أبا بكر -رضي الله عنه- ورضوا به من غير قهر ولا اضطهاد، ثم إن أبا بكر استخلف عمر فاستأمر المسلمين في ذلك، فبايعه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجمعون، ورضوا به من غير قهر ولا اضطهاد.
فلما حضر عمر الموت جعل الأمر شورى إلى ستة نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أهل بيته، وأصحابه والحواريين، ولم يألُِ النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين جهده، وكره عمر أن يولي منهم رجلًا فلا تكون إساءة إلا لحقت عمر في قبره، فاختار أهل الشورى عثمان بن عفان، فبايعه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجمعون والتابعون لهم بإحسان, ورضوا به من غير قهر واضطهاد.
قال ميمون بن مهران: فلم يزل -يعني- أمر الناس على عهد أبي بكر وعمر مستقيمًا، كلمتهم واحدة ودعواهم جماعة؛ حتى قتل عثمان بن عفان. قال كثير بن مروان: فقلت لجعفر بن برقان: فما الذي نقموا على عثمان؟ قال جعفر: قال ميمون: إن أناسًا أنكروا على عثمان جاءوا بما هو أنكر منه؛ أنكروا عليه أمرًا هم فيه كذبة، وإنهم عاتبوه، فكان فيما عاتبوه أنه ولى رجلًا من أهل بيته؛ فأعتبهم وأرضاهم وعزل من كرهوا، واستعمل من أرادوا، ثم إن فساقًا من أهل مصر وسفهاء من أهل المدينة دعاهم أشقاهم إلى قتل عثمان، فدخلوا عليه منزله وهو جالس معه مصحف يتلو فيه كتاب الله، ومعهم السلاح، فقتلوه صابرًا محتسبًا -رحمه الله.
وإن الناس افترقوا عن قتله على أربع فرق، ثم فصل منهم صنف آخر، فصاروا خمسة أصناف؛ شيعة عثمان، وشيعة علي، والمرجئة، ومن لزم الجماعة، ثم خرجت الخوارج بعد؛ حيث حكم علي الحكمين فصاروا خمسة أصناف.
فأما شيعة عثمان فأهل الشام وأهل البصرة, فقد قال أهل البصرة: ليس أحد أولى بطلب دم عثمان من طلحة والزبير؛ لأنهما من أهل الشورى. وقال أهل الشام: ليس أحد أولى بطلب دم عثمان من أسرة عثمان وقرابته، ولا أقوى على ذلك من معاوية، وإنهم جميعًا -أي: شيعة عثمان- برئوا من علي وشيعته.
وأما شيعة علي فهم أهل الكوفة, وأما المرجئة فهم الشكاك الذين شكّوا فكانوا في المغازي، فلما قدموا المدينة بعد قتل عثمان، وكان عهدهم بالناس، وأمرهم واحدًا ليس فيهم اختلاف -قالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس فيكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون، فبعضكم يقول: قتل عثمان مظلومًا، وكان أولى بالعدل وأصحابه، وبعضكم يقول: كان علي أولى بالحق وأصحابه كلهم ثقة وعندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما ولا نشهد عليهما, ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون الله هو الذي يحكم بينهما.
وأما من لزم الجماعة فمنهم سعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري, وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وحبيب بن مسلمة الفهري، وصهيب بن سنان، ومحمد بن مسلمة في أكثر من عشرة آلاف من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتابعين لهم بإحسان, قالوا جميعًا: نتولى عثمان وعليًّا، لا نتبرأ منهما، ونشهد عليهما وعلى شيعتهما بالإيمان، ونرجو لهم ونخاف عليهم.
وأما الصنف الخامس فهم الحرورية, أي: الخوارج.