عرض القصيدة، وبيان معانيها
أما معلقته؛ فإنها تبدأ بالوقوف على الديار مطلعها:
لِخَولَةَ أَطْلاَلٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ | * | تَلُوُح كباقي الوَشْمِ في ظاهرِ اليَدِ |
وُقُوفًا بها صَحبي عَليّ مَطِيَّهُمْ | * | يَقُولونَ لا تَهلِكْ أَسىً وَتَجلّدِ |
وتستغرق المقدمة الطللية والغزلية عشرة أبيات من القصيدة؛ إذ إنه بعد أن يذكر الوقوف على الديار ينتقل إلى الغزل -وهو غزلٌ قصيرٌ- ويبدو أنه غزلٌ تقليدي، وصف فيه المرأة بالجمال، وخاصة جمالَ الفمِّ وبياضَ الأسنان، وذكر وجهها ووصفه بالبهاء فقال:
وَوَجهٌ كَأَنَّ الشّمسَ أَلْقَتْ رِدَاءَها | * | عَلَيْهِ نَقيُّ اللِّونِ لَمْ يَتَخَدّدِ |
وبعد هذه المقدمة انتقل طرفة إلى وصف الناقة، وبدأ هذا الوصف بقوله:
وَإنيّ لأُمضِي الهَمّ عِنْدَ احْتِضارِهِ | * | بِعوجَاءَ مِرقالٍ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي |
وقد استغرق وصف الناقة في المعلقة ثلاثين بيتًا، وهو من أحسن الوصف وأتمه للناقة في الشعر الجاهلي، لا يبارى طرفة في وصفه للناقة؛ لقد وصفها وصفًا تفصيليًّا وقف عند كلِّ أعضائها وكل أجزائها:
وَإنيّ لأُمضِي الهَمّ عِنْدَ احْتِضارِهِ | * | بِعوجَاءَ مِرقالٍ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي |
والعوجاء: الناقة الضامرة، والإرقال: نوع من المشي بين السير والعدو. و”تروح وتغتدي” أي: تصل سير النهار بسير الليل. ثم يقول عنها:
أَمُونٍ كأَلواحِ الإِرَانِ نَصَأْتُها | * | على لاحِبٍ كَأَنّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ |
يقول: إنها ناقة أمون: يؤمن عثارها، والإران: التابوت العظيم، وكانوا يحملون فيه ساداتهم وكبراءهم عند الموت، ونصأتها، أي: زجرتها، واللاحب: الطريق الواسع، والبرجد: الكساء المخطط، شبه الطريق به. ثم قال عن هذه الناقة:
جَمالِيَّةٍ وَجَناءَ تَردي كَأَنَّها | * | سَفَنَّجَةٌ تَبري لأَزْعَرَ أَرْبَدِ |
والجمالية، أي: تشبه الجمل في قوتها، والوجناء، أي: مكتنزة اللحم، والسفنّجة: النعامة، وتبري، أي: تعرض وتنبري، والأزعر الأربد: ذكر النعام الذي لا شعر عليه والذي يميل لونه إلى لون التراب. وهو هنا يصفها بالقوة ويصفها بالسرعة.
ثم ينتقل طرفة بعد ذلك إلى الوصف التفصيلي والوقوف عند أعضاء الناقة وأجزائها، مما وصفه فيها: فخذاها، فيقول:
لها فَخِذانِ أُكْملَ النَّحضُ فِيهِما | * | كأَنّهُما بابا مُنيفٍ مُمَرَّدِ |
والنحض: اللحم المكتنز، والمُنيف: يريد باب قصر عالٍ، والممرد: المصقول؛ فالشاعر يشبّه فخذي الناقة بالبابين الضخمين.
ثم يصف مرفقيها، فيقول:
لَهَا مِرْفَقَانِ أَفْتَلَانِ كَأَنَّها | * | تَمُرُّ بِسَلْمَيْ دالِجٍ مُتَشَدِّدِ |
وأفتلان، أي: قويان شديدان، وهو هنا يصف مرفقيها بتباعد المسافة بينهما وقوتهما.
ثم يصف عنقها، فيقول:
وَأَتْلَعُ نَهَّاضٌ إذا صَعّدَتْ بِهِ | * | كسُكّانِ بُوصيّ بدِجلَةَ مُصعِدِ |
الأتلع: العنق الطويل، والنهّاض: كثير النهوض، والنهوض: هو القيام في يقظة ونشاط، والسُّكان -يقول الشُّرَاح: أنه ذنب السفينة، والبوصي: ضرب من السفن أو نوع منها، ودجلة: النهر المعروف بالعراق، و”مصعد” المراد به هنا: مرتقٍ يعلو؛ فهو يصف عنقها بأنه كثير النهوض كثير العلو إلى أعلى، ويشبهه بسكان السفينة التي تسير في نهر دجلة.
ومما وقف عنده طرفة في وصفه للناقة: الجمجمة، فيقول:
وجُمجُمَةٌ مِثلُ العَلاةِ كَأنّما | * | وَعي المُلتَقَى منها إلى حَرْفِ مِبرَدِ |
والجمجمة: هي عظم الدماغ، والعلاة: الحديدة التي يطرق عليها الحداد، والوعي هنا: الاجتماع والانضمام، والملتقى: مكان الالتقاء، والحرف: الطرف والناحية، والمبرد: ما يبرد به الحديد. يقول: إن رأسها صلب كأنه حديدة العلاة، وأماكن التجمع والتداخل بين عظام هذه الرأس غاية في الدقة والمتانة؛ كأنها أطراف مبارد من حديد، وهذه الصورة تدل على صلابة رأسها.
ثم يصف عينيها فيقول:
وعَينانِ كالمَاوِيّتَينِ استَكَنَّتَا | * | بكَهْفَيْ حِجَاجَيْ صَخْرَةٍ قَلْتِ مَوْرِدِ |
والماويتان: تثنية ماوية: وهي المرآة، استكنتا: استقرتا واستترتا، والكهف: هو الغار في الجبل، والحِجاج: هو العظم الذي ينبت عليه الحاجب، والقلت: الحفرة الصغيرة تكون في الصخرة يتجمع فيها الماء، والمورد: المنهل، وهو يريد أنها مكان لورود الماء. والمعنى: أنه يشبّه عيني الناقة بمرآتين تلمعان وتبرقان، وهاتان العينان صافيتان مثل عين الماء الصافية.
ومما وقف عنده طرفة في وصفه للناقة كذلك: أذناها؛ فوصفهما بقوله:
وصادِقَتا سَمعِ التّوجّسِ للسُّرَى | * | لِهَجْسٍ خَفيٍ أَوْ لِصَوْتٍ مُنَدِّدِ |
التوجس: التسمّع للصوت الخفي، والسرى: سير الليل، والهجس: الصوت الخفي الذي يسمع ولا يفهم، والصوت المندد: هو الصوت العالي، يصف أذنيها بأنها تتسمع ما خفي من الأصوات في ظلمة الليل، وإذا كانت تسمع الصوت الخفي؛ فهي -من باب أولى- تسمع الصوت المرتفع.
ثم وصف قلبها فقال:
وَأَرْوَعُ نَبّاضٌ أَحَدُّ مُلَملَمٌ | * | كَمِرْداةِ صَخْرٍ في صَفيحٍ مُصَمَّدِ |
الأروع: القلب الذكي الذي يتوقد فطنة وذكاءً، وكأنما لشدة تنبهه يرتاع ويفزع لكل شيء، والنباض: الكثير الحركة، والأحدُّ: الذكي، الململم: المجتمع الخلق الشديد الصلب، والمرداة: التي تحطم بها الصخور، والصفائح: الأحجار العراض، والمصمد: المحكم الموثق. يقول: إن قلب هذه الناقة شديد الحساسية والفطنة والتنبه والذكاء، وهو كثير الحركة ومجتمع الخلق؛ كأنه في شدته ومتانته صخرة من حجر المرداة.
وبعد ذلك وصف طرفة أنف ناقة، ووصف سيرها، ووصفها في كل ذلك بالقوة والنجابة والسرعة.
ثم بعد ذلك قال:
على مِثلِها أَمضي إذا قالَ صاحبي | * | أَلا لَيتَني أَفديكَ مِنها وَأَفْتَدِي |
قال: على مثل هذه الناقة يمضي ويسير في رحلته في الصحراء.
وبعد هذا الوصف المفصل للناقة انتقل طرفة إلى الفخر، بدأ طرفة فخره بنفسه في معلقته بقوله:
إذا القومُ قالوا مَن فتًى خِلتُ أَنَّني | * | عُنيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ ولم أَتَبَلَّدِ |
والمعنى: أن القوم إذا تساءلوا عن الفتى الذي يفزعون إليه في الشدة خيل إليه أنه المقصود بسؤالهم، فهمَّ نشيطًا لإجابتهم فيما يريدون.
وفخر طرفة بنفسه في هذه المعلقة فخر ذاتي، لم يفتخر بقبيلته وإنما افتخر بصفاته الشخصية؛ فهو شجاع كريم مقبلٌ على الحياة يشبع نفسه من ملذاتها، سريع النجدة لمن يستغيث به، لا يحجز معروفه ونجدته عن أحد، ولا يبخل بما في يده عن قومه، يقول طرفة عن نفسه:
ولَسْتُ بِحَلَّالِ التّلاعِ مَخَافَةً | * | ولكِنْ متى يَسترْفِدِ القومُ أَرفِدِ |
يقول: إنه لا يذهب إلى الأماكن التي يختفي فيها عن عيون الناس؛ ولكن مكانه معروف لكل من يريده، وهو إذا استرفد، أي: سئل العطاء أعطى، ثم يقول:
فإنْ تَبغني في حَلَقَةِ القَوْمِ تَلْقَني | * | وإن تَقتَنِصْني في الحَوانيتِ تَصطدِ |
وإنْ يَلتَقِ الحَيُّ الجَميعُ تُلاقِني | * | إلى ذِرْوَةِ البَيتِ الرَّفيِعِ المُصمَّدِ |
ويفتخر طرفة برفاقه الذين ينادمهم ويسامرهم ويتحدث عن إسرافه في شرب الخمر وفي إقدامه وإلقائه بنفسه في مواقف الخطر؛ حتى إن قومه لاموه على ذلك يقول:
وما زالَ تَشرابي الخُمُورَ ولَذّتي | * | وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي |
إلى أَنْ تَحامَتني العَشِيرةُ كلُّها | * | وأُفرِدْتُ إفرادَ البَعيرِ المُعَبَّدِ |
وكأنه لم يرضَ بأن يلومه قومه على هذا المسلك؛ فرد على من يلومه قائلًا:
ألا أيّهذا اللاّئِمِ أحْضُرَ الوَغَى | * | وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذاتِ هل أنتَ مُخلدِي |
فإنْ كُنْتَ لا تَسْتطيعُ دَفعَ مَنيَّتي | * | فَدَعْني أُبادِرُهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي |
ولَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ من عِيشَةِ الفَتى | * | وَجَدِّكَ لم أَحْفِلْ متى قامَ عُوَّدي |
فَمِنْهُنَّ سَبقي العاذلاتِ بشَرْبَةٍ | * | كُمَيتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ |
وَكَرّي إذا نادى المُضافُ مُحَنَّبًا | * | كَسِيْدِ الغَضا نبَّهْتَهُ المُتَوَرِّدِ |
وَتقصِيرُ يوم الدَّجنِ الدَّجنُ مُعُجِبٌ | * | بِبَهكَنَةٍ تَحْتَ الطُرافِ المُعَمَّدِ |
في هذه الأبيات يقول طرفة لمن يلومه على إسرافه في الإقبال على الحياة وانتهاب ملذاتها، يقول لمن يلومه على كثرة شربه الخمر وعلى كثرة إقدامه إلى مواقع الخطر، يقول:
يا مَن تلومني على ذلك، هل أنت مخلدي؟ هل تضمن لي الخلود في الحياة؟ ولن يستطيع أحد بطبيعة الحال أن يخلد طرفة أو غيره في الحياة، فيقول طرفة لمن يلومه: إذا كنت لا تستطيع دفع منيتي فدعني، فاتركني أبادرها بما ملكت يدي، خلِّ ما بيني وبين الحياة؛ أنتهب لذاتها وأتمتع بشهواتها قبل أن يباغتني الموت.
ويعدد طرفة في هذه الأبيات المتع التي من أجلها يحب الحياة ويحرص عليها، ولولاها لم يكن ليبالي متى يأتيه موته.
وهذه المتع الثلاث: هي شربه الخمر، وكرُّهُ في الحرب، وتقصير يوم الدجن ببهكنة تحت الطراف المعمد، والبهكنة: هي المرأة الحسنة الممتلئة، يقول طرفة: إنه يحب هذه المتع ويُقبل عليها، ولا يقبل من يلومه أن يلومه؛ لأن الذي يلومه لا يستطيع أن يخلده في الحياة، وهو يريد أن يسبق الموت، فيستمتع بهذه المتع قبل أن يأتيه الموت.
ثم بعد ذلك يحتج لنفسه بما يراه وبما يعرفه، فيقول:
َكرِيمٌ يُرَوِّي نَفْسَهُ في حَياتِهِ | * | سَتَعْلَمُ إنَّ مُتَنًا غَدًا أَيُّنَا الصَّدِي |
يقول لمن يلومه: إنه كريمٌ يُروِّي نفسه في الحياة قبل الموت؛ لأن الذي يلومه سيعلم بعد الموت أيهما كان المحروم؛ ثم يقول طرفة:
أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخِيلٍ بِمَالِهِ | * | كَقَبْرِ غَوِيٍ في البِطَالَةِ مُفْسِدِ |
ترَى جُثوَتَينِ مِنْ تُرابٍ عَلَيهِما | * | صَفايحُ صُمٌّ مِنْ صَفيحٍ مُنَضَّدِ |
أرى المَوتَ يَعتامُ الكِرامَ ويَصطَفي | * | عَقيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ |
أَرى العيشَ كَنزًا ناقصًا كلَّ لَيلَةٍ | * | وما تَنْقُصِ الأيَّامُ والدَّهرُ يَنفَدِ |
لَعَمرُكَ! إنَّ المَوتَ ما أَخطأَ الفتى | * | لكالطِّوَلِ المُرْخَى وثِنياهُ باليَدِ |
متى ما يشأْ يَوْمًا يقده لحتفه | * | ومَنْ يَكُ في حَبْلِ المَنيّةِ يَنْقَدِ |
وطرفة في هذه الحجج يحتج لنفسه ومسلكه وإقدامه على انتهاب ملذات الحياة قبل إن يدركه الموت- بأنه يرى قبر البخيل وقبر الكريم سواء؛ كلاهما كومة من تراب، عليها حجارة تغطي من فيها.
وهو يرى الموت يغتال الكرام ولا يستثني منهم أحدًا، وهو يرى الفناء يأتي على أموال الأغنياء وأموال الكرماء وأموال البخلاء، على السواء؛ فهو يرى الحياة إلى زوال، ويرى العيش كنزًا ناقصًا كل ليلة، ويرى أن المرء في حبل المنية مشدود بها كما تربط الدابة في حبل من يقودها، وأن القدر يشد هذا الحبل -حبل المنية- يقود المربوط به متى ما يشاء القدر ذلك؛ كأن كل واحد من الناس مصيره إلى الموت لا محالة فعلام إذًا يلومه من يلومه؟!.
ثم يقول -ذاكرًا ما بينه وبين ابن عمه مالك من خلاف أسري، ويبدو أن ابن عمه كان يلومه- فقال:
فَما لني أراني وابنَ عَمّيَ مالِكًا | * | متى أَدْنُ منهُ يَنْأَ عَني ويَبْعُدِ |
يَلُومُ وما أدري عَلامَ يَلُومُني | * | كما لامَني في الحَيِّ قُرْطُ بنُ معبَدِ |
وينفي طرفة عن نفسه أن يكون أذنب، أو أن يكون أتى بفعل يستحق عليه لوم ابن عمه مالك أو لوم غيره من الناس، ويبدي تضرره وألمه من ظلم أقاربه له، فيقول:
وظُلمُ ذَوي القُرْبَى أَشَدّ مَضاضَةً | * | على النفسِ مِنْ وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ |
لقد صار هذا البيت في الناس وأصبح حكمة، “وظُلمُ ذَوي القُرْبَى أَشَدّ مَضاضَةً” أي: أشد ألمًا، “على النفسِ مِنْ وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ” أي: أشد ألمًا وأشد تأثيرًا من تأثير السيف القاطع وألمه إذا أصاب الجسم، ثم يعود طرفة إلى الفخر بنفسه فيقول:
أَنا الرَّجلُ الضَّربُ الذي تَعرِفُونَهُ | * | خَشاشٌ كَرَأسِ الحَيّةِ المُتَوَقِّدِ |
فآلَيتُ لا يَنفَكُّ كَشحي بِطانَةً | * | لِعَضْبِ رَقيقِ الشّفرتَينِ مُهَنّدِ |
حُسامٍ! إذا ما قُمتُ مُنتَصِرًا بهِ | * | كَفَى العَودَ منهُ البَدءُ ليس بِمعضَدِ |
أخي ثِقَةٍ لا يَنثَني عَنْ ضَريبَةٍ | * | إذا قيلَ مَهلًا قالَ حاجزُهُ قَدِي |
إذا ابْتَدَرَ القَوْمُ السّلاحَ وَجَدْتني | * | مَنيعًا إذا بلَّتْ بِقائِمِهِ يَدي |
وقوله: “أَنا الرَّجلُ الضَّربُ”، الضرب، أي: الخفيف من الرجال الذي برئ من كثرة اللحم والكسل، والخشاش: هو الماضي في الأمور السريع إلى ما يريد، وشبّه نفسه برأس الحية المتوقد؛ لأن رأس الحية سريع الحركة، والمتوقد: الذكي المتنبه، وقوله: آليت لا ينفك كشحي بطانة، أي: حلفت، لا ينفك، أي: يبقى دائمًا، والكشح: هو الخاصرة، أو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلفي، والمقصود به مكان وضع السيف في الجنب، يقول: إنه حلف ألا يترك سيفه، وألا يفارقه هذا السيف البتّار الماضي، وهذا السيف صاحبه يثق في مضائه وحدته إذا سلّه وضرب به لا يخيب، إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني منيعًا، أي: أحمي به نفسي إذا بلت بقائمه يدي: إذا استللته وأمسكته بيدي.
ثم بعد ذلك يتوجه طرفة بالخطاب إلى ابنة أخيه فيقول:
فإنْ مُتُّ فانعَيني بما أنا أهلُهُ | * | وشُقِّي عَليَّ الجَيبَ يا ابنَةَ مَعبَدِ |
ولا تَجعَليني كامرئٍ لَيسَ هَمُّهُ | * | كَهَمّي وَلا يُغني غَنائي وَمَشهَدي |
بَطِيءٍ عَنِ الجُلَّى سَريعٍ إلى الخَنا | * | ذَلولٍ بأَجْمَاعِ الرِّجالِ مُلَهَّدِ |
فَلَوْ كنتُ وَغلًا في الرِّجالِ لضَّرني | * | عَداوَةُ ذي الأصحابِ والمُتوَحِّدِ |
ولكِنْ نَفَى عَنِّي الرجال جَراءتي | * | عَلَيهِم وَإِقدامي وَصِدقي وَمَحتِدي ومَحتدي |
لَعَمرُكَ ما أَمْري عليَّ بغُمَّةٍ | * | نَهاري ولا لَيلي عَليَّ بِسَرْمَدِ |
وقوله: “فإنْ مُتُّ فانعَيني بما أنا أهلُهُ”: يطلب من ابنة أخيه أن تشيع خبر موته عند موته، وتوجهه إلى ابنه أخيه لأنه لم يكن صاحب زوجة ولا ولد، والهم: العزم والقصد. “لا تجعليني كامرئ ليس همه كهمي”: لا تسوي بيني وبين امرئ لا يساويني ولا يشبهني. لا تسوي بيني وبين البطيء عن الأمر العظيم، السريع إلى الفحش والفساد، الذليل المقهور، الذي يزجره الرجال ويطردونه.
ثم يقول بعد ذلك: “فَلَوْ كنتُ وَغلًا”، أي: لو كنت مهينًا ضعيفًا، الوغل: هو الضعيف، يقول: لو كان ضعيفًا لضرته عداوة الرجل الذي له أصحاب أو الرجل الذي ليس له أصحاب، ثم يقول: إن الذي نفى الرجال عنه وأبعدهم عنه، وجعله متروكًا منهم: أنه جريء وأنه مِقدام، وأنه صادق، وأنه ذو أصل قوي.
أما قوله:
لَعَمرُكَ ما أَمْري عليَّ بغُمَّةٍ | * | نَهاري ولا لَيلي عَليَّ بِسَرْمَدِ |
فقوله: لعمرُك: قسم، والأمر: هو الشأن وكل ما يهم ويعني الإنسان، والغمة: الأمر المبهم الملتبس، والسرمد: الدائم غير المنقطع. يقول: إن أمره لا يلتبس عليه في نهاره أو في ليله، وأن أي أمر يعرض له يستطيع فهمه والقيام به.
ويختم طرفة معلقته بقوله:
أَرَى الموتَ أعداد النفوسِ ولا أرى | * | بعيدًا غدًا ما أقربَ اليوم من غدِ |
ستبدي لك الأيامُ ما كنت جاهلًا | * | وَيَأْتيكَ بالأخبارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدِ |
ويأتيكَ بالأخبار مَنْ لَمْ تَبِعْ لَهُ | * | بَتاتًا ولم تَضرِبْ لهُ وَقتَ مَوعِدِ |
ونحن إذ نقرأ هذه الأبيات في نهاية هذه المعلقة، ندرك أمر الموت كان شاغلًا جدًّا لهذا الشاعر وكان مسيطرًا على تفكيره في خلال القصيدة وفي نهايتها.