Top
Image Alt

عصر البعثة النبوية والخلفاء الراشدين

  /  عصر البعثة النبوية والخلفاء الراشدين

عصر البعثة النبوية والخلفاء الراشدين

لقد كانت بعثة الرسول محمدٍ صلى الله عليه  وسلم الحدثَ الأهم والأعظم في تاريخ البشرية كلها؛ إذ إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسوله صلى الله عليه  وسلم للناس كافةً، وأرسله رحمةً للعالمين، وجعل الدين الذي دعا إليه هو الدين الخاتم، ورسالته هي آخر وحيٍ من السماء إلى الأرض؛ قال الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين} [الأنبياء: 107].

وبالإسلام أنقذ الله سبحانه وتعالى البشريةَ كلها من عبادة الأوثان والأحجار والبشر إلى عبادة الله الواحد الأحد، وعلَّم الإسلام البشريةَ كلها منظومةً من القيم التي تحفظ للإنسان حريته وكرامته وإنسانيته؛ بهذه القيم الشريفة النبيلة صاغ الإسلام من العرب أمةً جديدةً.

ومن المعروف أن الرسول صلى الله عليه  وسلم نشأ في العرب وبينهم، نشأ في مكة، وكان صلى الله عليه  وسلم أميًّا لا يعرف القراءةَ ولا الكتابةَ، والأمية فيه صلى الله عليه  وسلم كمالٌ، وفي غيره نقصٌ؛ حتى لا يزعم زاعمٌ أن الرسول تعلم من أحد أو تتلمذ على أحد؛ إنما كان صلى الله عليه  وسلم كما أخبر عن نفسه بقوله: ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)).

ولما أذن الله سبحانه وتعالى لنور الإسلام أن يشرق على الدنيا كلها  نزل جبريل عليه السلام، أمين الوحي- من السماء من لدن الله عز وجل على سيدنا محمدٍ صلى الله عليه  وسلم في غار حراء وهو يتأمل ويتحنث؛ حيث كانت نفسه راغبة عما كان يفعله قومه؛ فلم يسجد صلى الله عليه  وسلم لصنم، ولم يقترف شيئًا مما كان يقترفه أهل الجاهلية.

نزل جبريل عليه السلام مؤذِنًا ببدء مرحلة جديدة في تاريخ العرب وتاريخ الناس جميعًا، نزل ليُعْلِمَ رسول الله صلى الله عليه  وسلم أن الله اصطفاه ليكون خاتم الرسل ويكون النذير البشير والسراج المنير، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

هذه بداية بعثة رسول الله صلى الله عليه  وسلم إذ جاءه جبريل بوحي الله عز وجل وخاطبه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق* خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم } [العلق: 1- 5].

وتلا رسول الله صلى الله عليه  وسلم أولى آيات الوحي، أولى كلمات القرآن، تلاها مرددًا خلف جبريل عليه السلام.

وأُمِر الرسول صلى الله عليه  وسلم في بداية الأمر أن ينذر عشيرته الأقربين، وظلت الدعوةُ إلى الإسلام سرًّا ينقلها الرسول صلى الله عليه  وسلم بين المقربين من أهل بيته وعشيرته؛ فكان أول مَن آمن به من النساء: زوجته الفاضلة أم المؤمنين خديجة رضي الله  عنه  ما وكان أول مَن آمن به من الفتيان والشباب: علي بن أبي طالب رضي الله  عنه   وكان أول مَن آمن به من الرجال: أبو بكر الصديق رضي الله  عنه  .

واستمرت الدعوة سرًّا إلى أن أُذِن لرسول الله صلى الله عليه  وسلم أن يجهر بها: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِين} [الحجر: 94]، فأعلن الرسول صلى الله عليه  وسلم إلى قريش كلها أنه رسول الله إليهم وإلى الناس كافة، يدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، والبعد عن عبادة الأصنام، ويدعوهم إلى العدل، وإلى المساواة، وإلى التكافل والتراحم والتناصح؛ فما كان من كبار القرشيين إلا أن صدوا عنه، واتهموه مرة بالكذب، ومرة بالجنون، وأخذوا يتطاولون عليه وعلى أصحابه الذين آمنوا معه، وعذبوا المستضعفين منه عذابًا شديدًا، وثبت المؤمنون على دينهم؛ حتى أُذِن للرسول صلى الله عليه  وسلم بأن يهاجر من مكة إلى المدينة، بعد أن مكث في مكة ثلاثة عشرة عامًا كانت مدة التربية والتمحيص للصفوف الأولى من المسلمين الذين حملوا دين الله أمانة في أعناقهم وقدموا في سبيله أنفسهم رخيصة يبتغون بذلك رضا الله عز وجل.

وفي هذه الفترة المكية نزل القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه  وسلم يُعلِّمه ويُعلِّمُ أصحابَه وأمتَه أصولَ العقيدة الصحيحة ممثلة في أولى ركائزها: وهي توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة فهو عز وجل لا رب سواه ولا معبود بحقٍّ سواه، هو الرازق، وهو القادر، وهو المحيي، وهو المميت.

ولما ربيت هذه العقيدة في صفوف المؤمنين، وهاجر الرسول صلى الله عليه  وسلم بعد ذلك إلى المدينة المنورة، واستقبله أهلها بالسرور والترحاب، وأقام بينهم، وعلمهم القرآن الكريم وآداب الإسلام كلها، وآخى بين المهاجرين والأنصار؛ أرسى رسولُ الله صلى الله عليه  وسلم بذلك دعائمَ دولة جديدة في المدينة المنورة هي دولة الإسلام.

ومرت الأيام، والرسول صلى الله عليه  وسلم يعلم أصحابه ويربيهم، والمشركون في مكة يحاولون إطفاء نور الله بأفواههم، ويتربصون بمحمد صلى الله عليه  وسلم وأصحابه، ويهجمون عليهم في مدينتهم الآمنة المطمئنة التي نورها الله سبحانه وتعالى برسوله وبدينه، وتقوم بين قوى الكفر وقوى الإيمان غزوات ومعارك، ويثبت الرسول صلى الله عليه  وسلم والمسلمون معه؛ حتى يُتم الله دينَه، وحتى يُظهر أمرَه، وحتى يرجع الرسول صلى الله عليه  وسلم إلى مكة فاتحًا بعد أن خرج منها مهاجرًا.

وبعد أن لحق الرسول صلى الله عليه  وسلم بالرفيق الأعلى خلفه من بعده أبو بكر رضي الله  عنه   فسار على حكمه، والتزم سنته، واتبع طريقته، ولما ارتد بعض العرب عن الإسلام قاتلهم الصديق رضي الله  عنه   ولم يهادنهم، ولما قالوا: إننا كنا ندفع الزكاة لمحمد رسول الله صلى الله عليه  وسلم فإذا ذهب محمد إلى ربه لن ندفعها لأحد من بعده. قاتلهم الصديق وقال قولته الشهيرة: “والله لو منعوني عقال بعير كانوا يدفعونه إلى رسول الله صلى الله عليه  وسلم لقاتلتهم عليه، والله لأقاتلن مَن يفرق بين الصلاة والزكاة”. وهكذا عصم الله سبحانه وتعالى دينه وحفظه بأبي بكر رضي الله  عنه  .

وتولى الخلافة بعد أبي بكر عمر رضي الله  عنه   فسار على المنهج نفسه، وملأ الدنيا عدلًا، وصار مضرب الأمثال في العدل بين الرعية والتواضع لهم والحكم بينهم بما أنزل الله.

ولما أدركت الوفاة عمر وصى قبل أن يلحق بربه أن يختار المسلمون خليفتهم من بين عدد من الصحابة الكرام حددهم عمر رضي الله  عنه   وذكر معهم ابنه عبد الله بن عمر على أن يكون مستشارًا، وألا يختار خليفة من بعده. واجتمع الصحابة واختاروا خليفة لعمر هو عثمان بن عفان رضي الله  عنه   وسار عثمان رضي الله  عنه   على منهج أسلافه: يقيم شرع الله، ويحافظ على دينه، ويلتزم بسنه رسول الله صلى الله عليه  وسلم ولكن المسلمين امتُحِنوا محنة عظيمة بمقتل عثمان وتولي علي بن أبي طالب رضي الله  عنه   بعده؛ إذ قام في الناس من يطالب بدم عثمان وظهر فيهم من يقول: إن علي بن أبي طالب رضي الله  عنه   تساهل مع قتلته ولم يأخذ بثأره؛ فقامت في الناس فتنة.

وبايع قوم معاوية بن أبي سفيان رضي الله  عنه   ليكون خليفة للمسلمين، وأصبح في الناس خليفتان: علي رضي الله  عنه   ومعاوية رضي الله  عنه  .

إلى هنا نتوقف لنقول: إن المسلمين في حياة الرسول صلى الله عليه  وسلم وتحت قيادته، وفي أثناء الخلافة الراشدة من بعده، ولا نجاوز القصد ولا نجافي الحق إذا قلنا: إن الإسلام بدل حياة العرب وغيرها، واستخرج منهم أمة جديدة غير تلك التي كانت تنتسب إلى الجهل، فيقال لهم: عرب الجاهلية.

لقد أضاء الإسلام القلوب، وأنار العقول، وعمر النفوس بما صحَّح من عقائد، وقوَّم من أخلاق، وشرع من نُظُم، وفرض من عبادات.

بالإسلام اجتمع شتات العرب، والتأم صدعهم، وأصبحوا أمة بعد أن كانوا قبائل شتى يغير بعضها على بعض للاستلاب والنهب.

وبالإسلام وصلت الوشائج الممزقة والأرحام المقطوعة، وعلت موازين الحق والعدل، ونمت في بيئة الصحراء نابتة الخير بعد أن استحياها غيث القرآن، وحاطها الرسول صلى الله عليه  وسلم ورعاها؛ وما زال بها حتى استحالت شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

ولا يعرف في تاريخ البشر وحياة الأمم حدث غير طبيعة المكان، وأعراف الزمان، وسجايا الإنسان في بضع سنين كما صنع الإسلام.

والأساس الذي بنيت عليه الحياة الجديدة تحت راية الإسلام: هو العقيدة -عقيدة التوحيد- التي أعادت للإنسان ذاته، وردت إليه حريته، وبصرته بقيمته، وكشفت له عن موقعه في الكون وموقفه من الكائنات، وهدته إلى إله واحد بعد أن كان مشتت الوجدان تائه اللب والجنان، بين آلهة لا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر.

وبهذه القعيدة اقتلع الإنسان العرب من الوثنية والجاهلية، واستخرجهم من ظلمات الشرك والعصبية، ووصل أرضهم بالسماء، وجعلهم على هداية البشرية كلها خير الأمناء.

ولقد حدثتك عن مساوئ العرب قبل الإسلام، وبينت لك ما كان في هذه الحياة من مفاسد وضلال، وخلاصة القول فيها: أنها كانت ظلمات كثيفة، وصراعات عنيفة، وضلالًا مبينًا، استنقذهم الله منها بالإسلام، وصدق الله العظيم إذ يقول: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِين} [الجمعة: 2].

واشتملت عقيدة توحيد الله تعالى والإيمان به ربًّا خالقًا رازقًا محييًا مميتًا، بيده مقاليد كل شيء، يتصف بكل صفات الجمال والكمال والجلال على الإيمان بكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خير وشره، واستتبع هذا الإيمان قيامًا بحق العبودية لله عز وجل بأداء فرائضه، وإقامة شرعه، واحترام حدوده، والدعوة إلى دينه؛ كما استتبع هذا الإيمان قيامًا بحقوق الأخوة الإيمانية انتماءً وإخلاصًا ووفاءً لجماعة المؤمنين، وقيامًا بحقوق الإنسانية كلها برًّا ورحمةً وعدلًا؛ بل قيامًا بحقوق الحياة النافعة -أينما كانت- في حيوان أو نبات.

وهذا التغير العظيم الذي شمل حياة العرب من أقطارها، وأخذها من جذورها، لم يتحقق إلا بجهدٍ جهيدٍ، وصبرٍ شديدٍ، وحلمٍ رشيدٍ، وحكمة عالية، وسياسة راقية، ورحمة وافية، اتصف بها من اصطفاه الله لتبليغ الناس رسالته محمدٌ صلى الله عليه  وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} [آل عمران: 159].

وبالعقيدة الجديدة أصبح العرب مسلمين، يملكون تصورًا صحيحًا للكون والحياة، ويعرفون موضعهم من كون الله، ويدركون أن الله كرم الإنسان، وسخر له ما في الأرض جميعًا، وجعله سيدًا عليه، دون أن تتجاوز سيادته هذه حدودَ عبوديته لربه وخالقه ورازقه الواحد الأحد: الله عز وجل.

وفهم العرب معنى الحرية وذاقوا حلاوتها، وتعلموا أن حرية الإنسان لا تعني أن تكون حياته فوضى أو عبثًا، أو أن يظلم ويعتدي ويجور؛ بل إن حريته لا تكون ذات معنى إلا في حمى الإيمان بالله، وفي حدود شرعه الحكيم.

وبفضل التصور الصحيح؛ عرف العربي أن حياته منحة من الله ونعمة وهبها إياه امتحانًا وابتلاءً، وأنه لا يملك هذه الحياة بدءً ونهاية وتقديرًا وتدبيرًا غير واهبها، كما عرف أن الموت هو قدر الله المسلط على خلقه لحكمٍ بالغة؛ إذ به ينتقل الإنسان من دار العمل والابتلاء إلى دار الحساب والجزاء، وهذا القدر الماضي لا يملك الإنسان رده، ولا يعرف وقته، ولا يستطيع منه فرارًا، ولا يمكنه تقديمه ولا تأخيره.

دفعت هذه العقيدة العرب إلى حياة جادة يتعلمون فيها ويعملون، ويرفعون راية الحق والعدل، وينشرون النور في كل مكان؛ متطلعين إلى غايات أسمى من شهوة الغلبة والظفر، وأرقى من احتواء الدنيا وكسب المال، على هذا آمنوا بالله ورسوله، وعلى هذا عاهدهم محمدٌ صلى الله عليه  وسلم وعلى هذا بايعوه.

إن الغاية التي من أجلها آمنوا، ومن أجلها عملوا وجاهدوا: هي الجنة التي وعدوا بها وعد الصدق من الله عز وجل في مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [التوبة: 111].

ولنعرف الفرق الكبير بين العرب قبل الإسلام والعرب بعده: نقرأ الآية التالية للآية السابقة؛ ففيها صفة هؤلاء المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله، ومن هذا الوصف ندرك أن القوم في ظل الإسلام أصبحوا غيرهم قبله، يقول عز وجل: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِين} [التوبة: 112].

ولم يرسم القرآن الكريم للمسلمين معالم العقيدة وفروضها فحسب؛ بل أرشدهم إلى طرق الفضيلة التي يستطيعون -إن تمسكوا بها- أن يقيموا مجتمعًا راقيًا فاضلًا، يعيش الجميع فيه متحابين متعاونين من أجل الخير.

والله سبحانه وتعالى يصف عباده المؤمنين بصفات استطاع المسلمون الأوائل أن يحققوها في أنفسهم وفي مجتمعهم، يقول الله عز وجل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان: 63]، وتعدد الآيات الصفات النبيلة لهؤلاء العباد؛ فهم {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]، وهم كذلك لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق {وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68]، وهم {لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، وهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويقومون بحق البر للآباء والأمهات، ويقومون بحق الأخوة الإيمانية بعضهم تجاه بعض، ويستمسكون بالأخلاق الراقية النبيلة، ويحافظون على المشاعر الإنسانية فيما بينهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيم} [الحجرات: 11- 12].

ويصحح الإسلام نظرتهم إلى المال؛ فيعلمهم أن المال وسيلة لتنمية الحياة وإسعاد الناس، ينبغي أن يكسبه الناس من الطرق المشروعة الحلال، وأن ينفقوه في وجوهه الصحيحة النافعة؛ فلا إسراف ولا تقتير، وجعل للفقير حقًّا في مال الأغنياء ودعاهم إلى أن يكونوا عدولًا منصفين من أنفسهم في كل معاملتهم؛ أمرهم أن يوفوا الكيل والميزان، وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم، ونهاهم عن أكل الربا والاستغلال، ودعاهم إلى الكرم والسخاء، ووعدهم الله على ذلك الأجر العظيم والثواب الكريم: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245].

ويضرب القرآن الكريم مثلًا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله؛ فيشبه عملهم ذلك بالحبة التي أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، يقول القرآن: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيم} [البقرة: 261].

ومن هنا وجدنا أغنياء الصحابة لا يعيشون لأنفسهم، ولا يكنزون المال، ولا ينفقونه في شهواتهم وملذاتهم؛ إننا نجد عثمان بن عفان رضي الله  عنه   يجهز جيش المسلمين في غزوة تبوك بتسعمائة وخمسين بعيرًا، وأتم الألف بخمسين فرسًا، ونجد عبد الرحمن بن عوف رضي الله  عنه   يتبرع بقافلة تجارية كبيرة قوامها سبعمائة راحلة، تحمل القمح والدقيق والطعام؛ فيجعلها كلها في سبيل الله.

وفي إطار هذه الحياة الفاضلة الجديدة التي صاغ الإسلام العرب على نظامها نجد المرأة تأخذ حقها بعد إن كانت مهضومة مظلومة، الله سبحانه وتعالى يقول عن النساء: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، ويقول: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32]، وشدد الإسلام النكير على أولئك الذين كانوا يئدون بناتهم خشية العار أو خشية الفقر، ووصف مسلكهم وفعلهم في قوله عز وجل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيم * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُون} [النحل: 58، 59]، ونبههم إلى أن كل موءودة ستأتي يوم القيامة تشهد على من وأدها: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَت * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَت} [التكوير: 8، 9].

وحرم استخدام النساء سلعة رخيصة ممتهنة لقضاء الشهوات من غير ضابط أو رابط؛ فحرم البغاء والزنا، ونظم الزواج، وجعله فريضة محببة إلى الله ونعمة من نعمه، وآية من آيات قدرته، وسنه من سنن دينه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون} [الروم: 21].

ولما خطب رسول الله صلى الله عليه  وسلم في حجة الوداع علم الناس أصول هذه الحياة الراقية النبيلة؛ فكان مما قال: ((أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حقٌّ))، وكان مما قاله -في رد الناس إلى إعلاء قيم الحق، ونبذ قيم التفاخر والتنافر والتعالي بالأحساب والأنساب- قال صلى الله عليه  وسلم: ((أيها الناس، إن ربكم واحدٌ، وإن أباكم واحدٌ، كلكم لآدم وآدم من تراب؛ لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى)).

لقد أهلت هذه الصفات التي اكتسبها العرب من القرآن الكريم ومن الإسلام، أهلتهم لأن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، وحملوا هذا الدين إلى غيرهم؛ فخرجوا به من جزيرة العرب إلى بلاد فارس، وإلى بلاد الروم، وإلى بلاد مصر وبلاد الشام، ونشروا دين الله في الأرض من أقصاها إلى أقصاها؛ لا يريدون بذلك إلا وجه الله عز وجل والفوز بالجنة والنجاة من النار.

وخرج المجاهدون يفتحون البلاد ويهدون العباد؛ فما هي إلا سنوات قليلة وقد أشرق نور الإسلام على بلاد كثيرة خارج الجزيرة العربية، وظل المسلمون في ذلك العهد، عهد الرسول صلى الله عليه  وسلم وخلفائه الراشدين، مستمسكين بالحق، يدعون إلى الله على بصيرة، يجاهدون في سبيله، ويعلون كلمته، ويدعون الناس إليه؛ يترفعون عن الصغائر، لا تستهويهم الدنيا بزخرفها، ولا تستعبدهم السلطة ببريقها.

وتوافرت للدولة الفتية موارد اقتصادية غنية وثرة جعلتها دولة ذات كفاية وإنتاج، يعملون، ويجتهدون، ويربحون، ويتاجرون، ولا يستعبدهم المال؛ بل ينفقونه في سبيل الله؛ يكتسبونه من الأوجه المشروعة، وينفقونه في الأوجه التي أمرهم الله سبحانه وتعالى بالإنفاق فيها من غير إسراف ولا تبذير.

لقد حرم الله سبحانه وتعالى عليهم البخل والشح، وحرم عليهم الإسراف وإنفاق المال فيما لا يرضيه، حرم عليهم الخمر، وحرم عليهم الميسر، وحرم عليهم كل الموبقات.

error: النص محمي !!